بين رسم الحدود و تمزيقها.. علاء خالد و أمكنة للتسامح

بين رسم الحدود و تمزيقها.. علاء خالد و أمكنة للتسامح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: نائل الطوخي

يبدو علاء خالد إنسانا حدوديا بامتياز. يكتب شعرا منثورا و نثرا كأنه جمل شعرية طويلة, يكتب أدبا قريبا من الصحافة و صحافة تلامس الأدب, يعيش في الإسكندرية و التي كانت في فترة خلت هي الوطن الذي تختفي فيه الحدود, أو علي الأقل هكذا يحب السكندريون أن يروا مدينتهم, ما بين اليوناني و الإيطالي و ابن البلد و الأرمني و النوبي. كان يمكن لعلاء خالد أن يكتفي بأن يكون شاعرا سكندريا مهما, و لكنه فضل شيئا آخر, الاشتباك مع الواقع, تمزيق الحدود ما بين مجالات الثقافة المختلفة عبر مجلته "أمكنة" مثلما مزقها عبر كتابته و مثلما عني العدد الأخير منها, و هو العدد المعنون ب"الحدود" بينما حمل عنوانا ضمنيا آخر "انتهاك الحدود".

حاوره: نائل الطوخي

يبدو علاء خالد إنسانا حدوديا بامتياز. يكتب شعرا منثورا و نثرا كأنه جمل شعرية طويلة, يكتب أدبا قريبا من الصحافة و صحافة تلامس الأدب, يعيش في الإسكندرية و التي كانت في فترة خلت هي الوطن الذي تختفي فيه الحدود, أو علي الأقل هكذا يحب السكندريون أن يروا مدينتهم, ما بين اليوناني و الإيطالي و ابن البلد و الأرمني و النوبي. كان يمكن لعلاء خالد أن يكتفي بأن يكون شاعرا سكندريا مهما, و لكنه فضل شيئا آخر, الاشتباك مع الواقع, تمزيق الحدود ما بين مجالات الثقافة المختلفة عبر مجلته “أمكنة” مثلما مزقها عبر كتابته و مثلما عني العدد الأخير منها, و هو العدد المعنون ب”الحدود” بينما حمل عنوانا ضمنيا آخر “انتهاك الحدود”.

بدأ علاء خالد شعره بقصيدة النثر. منذ أول ديوان “الجسد عالق بمشيئة حبر” و حتي الآن, و هو يكتب قصيدة النثر. هذا كان غريبا, و لكنه ليس غريبا بالنسبة له. يقول هو أنه غير ممنهج في تربيته, أنه لم يترب أدبيا بصرامة, و أنه لم يلجأ للأدب إلا كنوع من الاحتياج النفسي, و أن كل اللحظات التي كتب فيها كانت لحظات تحول. يقول: “هناك من يكتب لأنه مؤهل للكتابة من تلقاء ذاته. ليس في حياته تحولات جذرية و إنما هي قائمة علي الاستمرارية. انا معك في العنصر الحدودي في الديوان الأول لي. عندما كتبته لم أكن أعرف إن كان شعرا أم لا. كان الكتاب قائما علي حكاية غير واقعية و كان يحتوي علي سرد كثير, و كان واضحا ساعتها أن الشعر هو أحاسيس ستتحكم في شكل معين للقصيدة”. اختلف الأمر بعد ذلك في خطوط الضعف, كتابه الثاني عن رحلته إلي سيوة, و هو كتاب نثري يمكن أن نعده بكثير من التبسيط في أدب المكان أو أدب الرحلات, وهو يكتبه كان يحس بانهيار داخلي و كان يخاف من مواصلة الكتابة, حيث الأداة اللغوية فيه محملة بتاريخ شخصي, و تجري وراء أشياء في ذات الكاتب. الآن عندما يعود علاء خالد للكتاب يري أنه لم يكن فقط نوعا من الاكتشاف لوجوده و إنما كذلك لإيجاد آخرية داخل الكتاب, يقول: “ضم الكتاب خطابا موجه للوالد, كان يحمل حالة استهداف لحياة كنت أعتقد أنني قطعتها و لكنك تعيدها الآن, الأم ,الحبيبة, الآخرين الذين لم تنتبه لهم ساعتها“.

ـ تعني التسامح؟

ـ محاولة للتسامح. لم أكن أملك الآداة لفكرة التسامح لكنني كنت أحس هناك لحظات يكون من المهم جدا فيها ان تفهم من أمامك و لو لم تفهمه قد تنتهي. يجب كذلك ان تملك الأدوات الحقيقية للاتصال به, الكتاب كان محاولة بعد ذلك.

هذا الأب/ الآخر الذي ظهر في خطوط متحسسا طريقه إلي تسامح ابنه, ثار عليه علاء خالد في مقتبل حياته, هذا الأب الذي كان عضوا بفرق تمثيلية في فترة من فترات حياته و زامل محمود مرسي و زكي العشماوي غير أنه انتهي موظفا ينتمي للأسرة الوسطي, و لم تتبق منه إلا حكايات أسطورية يستمع إليها علاء الطفل مشدوها و مكتبة يبدأ يتحسس طريقه إليها, و سؤال يظل يتردد: لماذا انقطع تاريخ الأب فجأة. لماذا لم يكمل طريقه بينما أكمله زملاءه؟ علي العموم. ربما يتشرب الطفل بعد ذلك حدودية كهذه, بين التمثيل و الوظيفة, بين أخلاق الطبقة الوسطي و بين ما نظر إليه الواقع الثقافي المصري علي انه أخلاق المثقفين. و الأكثر من ذلك, ربما كان عليه أن يخرج قليلا من عائلته ليراها, ليستطيع التسامح معها. يقول: “الإحساس الفني الصادر عن والدي لم أكن أراه ساعتها. كنت أتلقاه لكنني لم أنتبه له. كانت هناك طبقة متوسطة لها قوانينها المعوقة و قيودها و لن تستطيع رؤية ما هو جميل فيها إلا بعد أن تخرج منها. هذه قراءتي لنفسي بعد ما كبرت. ساعتها لم أكن أستطيع قراءة نفسي هكذا, كان إحساسي بنفسي غير ناضج و غير واع, أما الآن و بعد هذه السنوات كلها بدأت آخذ ثقة بنفسي. الآن أستطيع التعبير و الكتابة و هناك إمكانية اختراع ذات جديدة او تأكيد علي نقاط و إخفاء أخري. منذ سنوات لم أكن أستطيع فعل هذا أما الآن فالإنسان يخترع نفسه بشكل جيد.

ـ انتقائي بعض الشيء؟

ـ أكيد. لو طلبت من أخي أن يحكي عن علاء سيقول كلاما مختلفا تماما.

في البدء كان علاء الطفل يشعر بالاختلاف, و سيظل يلازمه هذا, إلي أن يتفجر في شعر و مشروع ثقافي, في البدء لم يكن يستطيع التعبير عن الشحنة بداخله, بعدها, و مع دخوله ضابطا احتياطيا في مطروح و اطلاعه علي أشياء مغايرة حيث قرأ مثلا “لثابت و المتحول” لأدونيس لأول مرة و اطلع علي دورية الكرمل بدأ ينظر للشعر بشكل أكثر جدية. كان هذا قبل تنقله ما بين القاهرة و الإسكندرية و تعرفه علي مجموعة من الأصدقاء مثل أسامة الدناصوري, شحاتة العريان و مجدي الجابري, و اندماجه بشكل ما فيما يصطلح علي تسميته بالوسط الثقافي, حيث كان يقرأ و يسمع و لكنه لا ينتج, لا يكتب, مع هذا بدأ وعي يتكون بداخله, وعي قاس, ضد الأسرة و المجتمع و التقاليد, بدأ يمشي علي كورنيش الإسكندرية لساعات طويلة “أحسست أنني أتغير, كأن ذاتا أخري تخرج مني. بدأت لغتي تتغير. علي ما يبدو فإن الإنسان عندما يتغير ترحل لغته القديمة و تولد أخري جديدة”. كان فرحا و واثقا بنفسه “أحيانا تصاحب ثقتك بنفسك فترة فكرية مأزومة, و لكن فرحك يغطي علي نوع التوجه الذي تتخذه و يعطيك ثقة أكبر في توجهك الذي تنساه و لا يظل معك في النهاية غير هذا الفرح. كأنك تبحث عن مشروعية لنفسك و ليس لأفكارك“.

ـ هذا قريب من العمي بعض الشيء؟

ـ ربما ولكن ما صاحبني من هذه الفترة أني كنت واثقا من نفسي. قد تسميه عمي و لكنه رد اعتباري لجزء حدسي داخلي ضد العمل و المجتمع. هل يبني الإنسان نفسه بأفكار فحسب؟ لا يمكن. لابد من شيء حدسي بداخلك يعطيك ثقة و أنت في لحظة خراب, لا تعمل و تراكم أفكارا ضد المجتمع و تقطع علاقاتك مع الآخرين“.

عندما توفي والده رحل للصعيد, من هنا ربما يمكننا أن نعثر علي أول خيط لشغفه بالمكان, يقول هو أنه ربما لم يستطع تحمل نفسه داخل الموقع الذي أسس فيه لدمويته, أراد رؤية الآخرين بأعين جديدة, و كان يحس بالارتياح النفسي في المكان الآخر.

ـ أو كأن السفر أب بديل؟

ـ نعم. لا تنسي كذلك أن الطبيعة بما فيها من تراث رومانسي بعيدا عن صخب المدينة يمكن أن تمنح الإحساس بالأبوة. أكيد أن الإنسان يملك حنينا رومانسيا ما. هذا لم يبدأ إلا بعد انكسار الجملة الأيديولوجية التي ميزت الخمسينيات و الستينيات.

كان حنين كهذا بذرة, من ضمن بذور أخري, ل”أمكنة”, و هو الحنين الذي ظهر منذ ديوانه الأول و الذي كتب فيه أنه يريد الذهاب إلي أبعد نقطة إلي مصر, إلي “سيوة”, و هو ما حدث بالفعل بعد ذلك في خطوط الضعف الذي وصف فيه رحلته إلي سيوة ذاتها كما ظهر بتواتر أشد في أساس عمله كله علي مجلة أمكنة, هو و سلوي رشاد و مهاب نصر. يفلسف علاء خالد المكان: ” الأديان كلها تتحرك من خلال زمن. هي تقيم عقدا مع المجهول, الزمن, أما المكان ففيه الاحتكاك المباشر بموضوعك. هي فكرة علمية فيها نوع من المعرفة المادية و القريبة أكثر من تلقيك المعلومة من خلال زمن“.

لأيام كان الموت يكتنف الواقع الثقافي المصري, حيث هاجر كل زملاء علاء خالد و بدا أن كل شيء إلي انتهاء, و أن كل المثقفين موظفون سيغلقون مكاتبهم و يرحلون غدا. هنا يتكرر مجاز علاء خالد بأنه في لحظة الموت تحس بصحوة جديدة. شعر بأن شيئا ينبغي أن يحدث هنا يحرك الركود القائم. و مع نقاشاته مع زملاءه الذي اقترحوا مشروعا فكريا تنويريا و مع قراءته لأنماط مختلفة من الكتابة في مجلة الكرمل و غيرها تمزج بين حقول مختلفة من الثقافة، من كل هذا ولدت فكرة مجلة عن علاقة الإنسان بالمكان. فكرة تبدو للوهلة الأولي تصلح لعمل ملف ممتاز و لكن يبدو استمرار سبعة أعداد كاملة عنها شيئا غير مفهوم, بالتحديد الموازنة بين التنوع في الموضوع و بين الالتزام بالخط الرئيسي. يقول:

 

الفكرة كان فيها شيء مجرد و بسيط يسمح بالتعدد. كذلك كنا ننضج من عدد لآخر. مثلا في العدد الأول كنا نسمع عن أن الفكرة الأنثروبولوجية هي السائدة, أي رصد لثقافة في مكان ما. بدأت هذه الفكرة تتواجد في المجلة تدريجيا. فكرة الحكي في الحوارات كانت تنمو منذ أول عدد. كذلك كنا نحرص أن تكون فكرة المكان أكثر مجازية .

¬مثل البطل كمكان مثلا؟

ـ بالضبط. كذلك المكان الأيديولوجي. كنا نتحرك بعشوائية لكن هناك نسق حدسي ما. هناك حدوس داخل تكوين الأعداد و هي ما تكون جزءا كبيرا من المجلة.

لسبب ما أو لآخر, ارتبط علاء خالد لدي بالمخيلة الأنثوية، كما تشي أمكنة بهذا. هذه القدرة علي رصد التفاصيل, علي تأمل العالم, لا ممارسته, هي أنثوية بامتياز. يوافقني علي هذا الإحساس. يقول أن فكرة التفصيل كانت أساسية منذ أول عدد. كان يريد قول الحقيقة خارج أي إطار مثالي, فكانت موضوع الجري علي التفاصيل بدقة أنثوية. كما أن الجانب الذي يرصد الشعرية هو الجانب الأنثوي داخل الرجل, ليس فقط القدرة علي رصد التفاصيل و لكن رصد الحميمية حول التفاصيل, و هو طموح من طموحات المجلة.

بالطبع لم يكن هذا هو كل شيء, قلت له بأن دراسة خالد فهمي في العدد الأخير تبدو رصينة للغاية, تبدو علمية و “ذكورية”. أجابني بأن لكل فكرة أكثر من مكان و مدخل لتحققها و هذا ما راهن عليه في أمكنة, أي التعدد, التجاور ما بين العمل الحميم و الارتجالي و العلمي, “قالوا أن مجلة أمكنة فيها نوستالجيا. حسنا و لكن هناك أفكار أخري, لا أقصد أنها ضد النوستالجيا و لكنها ذات روح مغايرة.

بدا هذا في سكندرية المجلة, فالمجلة صادرة من الإسكندرية و تبدو أحيانا, في عدة مقالات بها, شغوفة بفكرة المدينة العالمية المحلية بذات الوقت, تجاورها دراسات أخري في العدد الأخير مثلا, ترصد علي الجانب النقيض, كيف أصٌل الأجانب للفصل بين الرعية و الحكام و رسخوا للمحاكم المختلطة. في الملف أكثر من إسكندرية , و هذا تمزيق مهم آخر للحدود ما بين الرؤي حول تلك المدينة الأسطورة, و فيها وصف لخوف المرء من مغادرة حيه الذي عاش فيه أربعين عاما, و كأن الإسكندرية هنا تتخلي عن رداءها الكوزموبوليتاني لترتدي ثوب قرية معزولة. يقول علاء خالد أن المجلة صدرت من الإسكندرية و لكنها لم تتعامل بمنطق الدورية المحلية لأن هذا يعني الترسيخ لفكرة الصراع بين الأجنبي و الوطني, بينما انتهاك الحدود, لا رسمها بدقة, هو هم المجلة و هيئة تحريرها. الآن انتهي علاء خالد من ديوان شعري و سيقوم بنشره قريبا. سألته إن كان زهوه بالمجلة قد غطي علي زهوه بالشعر. فقال لي أن الأمرين مختلفان, و لكنه بدا منحازا للمجلة. “المجلة تعطيني ثقة في لحظة يصعب فيها علي المرء أخذ ثقة من مكان آخر. وجودها بالنسبة لنا هو نوع من الغطاء الثقافي للحظة ليس فيها ثقافة. وجودها بالنسبة لي أكثر شمولية من إحساسي الشعري, كذلك النقاشات التي تثيرها المجلة و نوعية العمل, ربما يكون ما قامت به المجلة أنها سربت نوعا من الشعرية داخل الحوارات أو داخل أناس معينين ارتبطت بهم. أنا لا أعرف ماذا يوجد بالمستقبل لكنك تراكم أشياء لحياة لن تعيشها بعد هذا. أشعر أن هذا المشروع قد يقف بجانب المرء. قد يكون صديقا لي. بالمقارنة, الشعر لا يعطي هذا الإحساس. الجملة الشعرية شخصية و أكثر دقة و تفسيرها و إنتاجها لابد يتم في وسط بيئة تستطيع حل الشفرة. كلنا شعراء لكن ليس كلنا مفهومين بالضرورة.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم