غاستون باشلار: موعد مع الشعراء

غاستون بلاشار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترجمة: سعيد بوخليط

لا يبدو الأمر مفرطا، عند التأكيد منذ البداية، بأنَّ غاستون باشلار يضع تأمله حول الأدب تحت إشارة لقاء مبهج غير متوقع غالبا مع الشعراء في خضم فعل القراءة.

هذه القراءة الودّية، العطوفة، ثم حالمة أكثر فأكثر، مع مرور الوقت، بدت له بمثابة السبيل الوحيد الممكن قصد لقاء الكاتب بهدف الشروع في الحوار، وتبادل المشاعر، باختصار التواصل فعليا مع نتاجه.

مرهف الحس نحو ظاهرة ”أولوية الشعري”(1). سيعارض باشلار النقد الموسوعي، بمقاربة مغايرة للقصيدة، مباشرة، لحظية، وعفوية.

ربما، قراءة باشلار للشاعر لوتريامون، أثارت لديه ردّة فعل كالآتي : بهدف شرح أعمال كما الشأن مع نصوص المجموعة الشعرية: ”أناشيد مالدورور”، ينبغي تناولها ضمن مثابرتها على فعل القطيعة، وكذا تمثُّلها في إطار نسقها الخاص مثلما نفهم هندسة غير أوقليدية وفق نظامها البديهي الذاتي”(2).

 يدعم هذا الرأي مفهوم الصورة الشعرية، كتجسيد عفوي لدافع يعثر حَدَسيا على صيغته اللغوية. يستدعي هذا المفهوم دورا بارزا للمعيش الشعري، اللاعقلاني بطبيعته. مادامت المقاربة الخارجية والموضوعية تكبت، تطمس أو تشوِّه هذا المعيش، بل لايمكنها قط غالبا العثور عليه ثانية، لذلك حَثَّ باشلار على تحقيق لقاء مباشر : ينبغي قصد معرفة الصورة، الانخراط في علاقة حميمة معها والامتداد ضمن نفسيتها الخاصة بالانفعال المنطلق الذي يبعث أصداء عميقة.

مما لاشك فيه، أنّ نزعة باشلار المناهضة للبرجسونية، تندرج تحديدا ضمن صياغة هذه الفكرة التي تلحُّ فعليا على ”اللحظة” و ليس ”الديمومة”. وجب التذكير، بأنّ تصوره بخصوص زمنٍ ذرِّي تبلورت خلال فترة سابقة عن أعماله حول الأدب بحيث تطرق إليها ضمن فقرات كتابيه :”حدس اللحظة”(1932) وكذا ”جدلية اللحظة”(1936).

أعلن باشلار، عن أطروحته بخصوص إمكانية القبض استثنائيا على الزمان في الحاضر، مما يعني وعي الإنسان بوجوده وكائن العالم الذي يكتنفنا خلال الآن وحالا ضمن لحظة ثابتة. بناء عليه، يعتبر انخداعا تأمل الحياة وفق مفاهيم الديمومة المنسابة حسب محور زمن خَطِّي.

بالتأكيد، حين تناول الحياة من خلال مضمارها، في نموها واندفاعها، سنمتلك حينئذ كل الحظ مع برجسون، قصد تبيان بأنَّ كلمتي ”قبل” و”بعد” مجرد دلالة لتحديد الموضع، مادمنا نتعقب بين الماضي والمستقبل تطورا يبدو متواصلا عبر نجاحه العام. لكن، بالمضي وجهة مجال التحولات المفاجئة، وقد اندرج بغتة فعل مبدع، فكيف لانفهم نتيجة ذلك، التجلِّي الدائم لمرحلة جديدة بواسطة المطلق؟والحال، تتخلَّل كل تطور، لحظات مبدعة، تناسبا مع بعده الحاسم (3).

يرفض باشلار تصنيف الزمن الموضوعي، ثم يضع مقابل ذلك خطاطة زمنية في صيغة نسق حسابي للَّحظات، مؤكدا على إمكانية استحضار شرعية الديمومة فقط ضمن هذه الدلالة، بحيث نتصورها مثل مجموع، وحصيلة لمختلف اللحظات. يكمن داخل هاته التعددية مثلما يعتقد، المسار الوحيد الممكن للزمان : الانفصال.

هكذا، يقترح باشلار على العكس من ذلك، نموذجا آخر عن برجسونية ”متقطعة”، إذا جاز التعبير، تستدعي لمفهومي الماضي والمستقبل دلالتهما الحقيقية : عادات تشكَّلت نتيجة تكثيف اللحظات. يتطابق تعقُّد الكائن البشري مع تزامن متعدد للحظات نعيشها، وكذا آلاف الإيقاعات الزمنية مما يعني أنَّ النفسية البشرية في تصور باشلار، تعبِّر نتاج تأليف بين لحظات نحياها.

سنة 1939، أصدر باشلار مقالة رائعة وطَّدت معالم جسر بين هذه الفلسفة حول زمان غير مستمر وكذا الابتداع الشعري. فالقصيدة نتاج لحظي لنفسية الشاعر، فعل ذاتي وفوري. بناء على هذه التحديد، تبنى باشلار الدلائل التالية : ”يقوِّض الشاعر استمرارية زمن مترابط”، ثم يبلغ نتيجة تمرده على الزمن الأفقي نوعا من التزامن الذاتي :”عند مركز الذات نفسها، بالتجرد عن محيط الحياة”، لأنَّه خلال هذه اللحظة المميَّزة :”الزمن غير متدفق بل منبجس”(4). يتضح إذن، على العكس من النثر، ترفض القصيدة اقتراح مفهوم وُضِعَ سلفا، و لا تحتاج لغة استدلالية مادامت تتجنب الالتجاء إلى نظام يفترض ماهية. القصيدة تجربة حميمة مذهلة، وَمْضة بصيغة ما، إضاءة تنبثق بغثة داخل فكر الشاعر.

يحظى مفهوم اللحظة الشعرية بأهمية أساسية بالنسبة لمسار باشلار، لأنه يؤدي حتما إلى تفتُّت تقريبا كامل للنص الشعري بحيث يتفكَّك إلى متواليات/ مجموعات/ كوكبة صور اعتُبرت فاترة أو على العكس، مثيرة للاهتمام، مقنِعة، “أصيلة”، باختصار جديرة بوصف “شعرية”.

طبعا، النتائج بليغة، لأنَّ باشلار لم يهتم عمليا سوى بصور منعزلة، دون الانشغال بالنص كمجموع مهيكَلٍ، تصور يعكس من جهة أخرى، نزعته اللابرجسونية. فضلا عن ذلك، يدرك باشلار تماما بأنَّ الصور المعزولة لاتشكِّل قصيدة، بل ويؤكد هذا الإقرار، بحيث تقتضي ترتيبا، وتنظيما مادام نتاج التأمل الشارد يمنح العمل فقط المادة الأولى، وفي نهاية المطاف تعتبر الصيغة النهائية للقصيدة حصيلة عمل مشترك بين الأفكار والتأملات الشاردة. بيد أنه ترك حقيقة جلّ هذه الأسئلة جانبا.

في كتابه التحليل النفسي للنار(1938)، قبل إدراج باشلار فكرة :”رسم بياني شعري”، الفعالة أيضا في نطاق اقتراحه احتضان نص شعري وفق نظام يمزج مجازات تكشف عن تناص داخلي، لكن ما ينبغي التحسر عليه، عدم إنجاز باشلار لهذا المشروع، باستثناء بعض النماذج التحليلية المستفيضة شيئا ما، التي كرَّسها إلى لوتريامون، نيتشه، إدغار بو، أو ويليام بليك.

نرى إذن، اختيار باشلار انطلاقا من أعماله الأولى، حول الأدب، معالم طريق سيبعده لامحالة عن التحليل النفسي، وإن ظل الأخير بالنسبة إليه مرجعية مثمرة لفترة طويلة، ثم وقوع انعطاف طويل اهتدى به أخيرا إلى تبني منهج ظاهراتية جذرية تفضل انبثاق الصورة داخل الوعي بدلا من نظرة استذكارية لمجموع العمل.

تشتغل القراءة النفسية، وفق تصور اختزالي وتفسيري، فيظهر عدم توافقها مع فكرة : ”دراسة لظاهرة الصورة الشعرية حينما تنبثق داخل الوعي مثل نتاج مباشر للقلب، الروح، كينونة الإنسان وقد تمَّ تناولها في راهنها”(5).  

مفهوم الصورة كتفريغ للوعي، يجري وفق سرعة الوميض، يشكِّل قوام فرضية وبديهية النظرية الباشلارية، استمرت مخلصة له غاية أعمال باشلار الأخيرة.

قدَّم تحديدا لهوية الصورة باعتبارها حقيقة نفسية مباشرة أولى، عبر صفحات كتابيه اللذين توجَّا خاتمة مشروعه :”شعرية المكان”(1957)، ثم”شعرية التأمل الشارد”(1960)، وكذلك كتابه الأخير :”شذرات شعرية النار”(1988)، الذي لم يكتمل وصدر بعد وفاته.

الصورة ظاهرة بلا ماض، لاتحيل على حقيقة معينة أو دلالة سابقة. تحديدا لهذا السبب، يدعو إلى لقاء فوري مع الصورة :”هنا، لايُؤخذ ماضي الثقافة بعين الاعتبار؛غير فعَّال المجهود الكبير لعلاقات وبناءات الأفكار، مجهود أسبوعي وعلى امتداد الشهر. يلزمكَ أن تكون حاضرا عند الصورة، خلال لحظة الصورة : إن امتلكت القصيدة فلسفة، يجدر بهذه الفلسفة النشوء والانبعاث ثانية بمناسبة مقطع شعري مهيمن، وفق انخراط كلي مع صورة متفردة، بكيفية دقيقة جدا، في خضمِّ انتشاء بحداثة الصورة. الصورة الشعرية بمثابة بروز مباغت للنفسية، انبعاث لاتدرسه جيدا تلك العلاقات السَّببية”(6).

طرح باشلار هذا السجال، ابتداء من كتابه :”الماء والأحلام”(1942)، سياق اقتضى منه التحايل على بعض الصعوبات.

أولا، لايمكنه تجاهل تموقع الناقد، الذي يتحتم عليه دراسة النصوص، عند درجة أضحت خلالها الطبيعة موسومة بالثقافة. هذا صحيح، يثبت باشلار، لكن مع ذلك، تقوم باستمرار إمكانية :”إبطاء سرعة لحظة اقتحام القصيدة عتبة التعبير”، ثم”إعادة تعقب السبيل الحُلُمي الذي يقود نحو القصيدة”(7).

ثانيا، يقود لقاء الثقافة والطبيعة نحو الإشكالية الأساسية للتراث والتاريخ. يتغلب باشلار على هذه الصعوبة، أو بالأحرى الالتفاف عليها، عندما بلور مفهوم”عقدة الثقافة”، التي وضع لها تعريفا حسب عبارة ”توجُّهات رعناء”، تتيح إمكانية التعبير عن ”استقراءات روح غامضة”مع رسائل ثقافية.

يرتِّب الشاعر انطباعاته بدمجها ضمن تقليد. هكذا، تعمل عقدة الثقافة، في حالتها الصحية الجيدة، على استعادة تراث وتضفي عليه شبابا. أما، عندما تسوء حالتها، تتحوَّل عقدة الثقافة إلى مجرد عادة مدرسية لدى كاتب يفتقد للخيال(8).

تضعنا عقدة الثقافة عند نواة الإبداع، وكذا التحول الذي يتحقق عند ملتقى طرق قوى فاعلة :”يمَدِّدُ التسامي الثقافي، التسامي الطبيعي”(9) .

 حسب باشلار، ينبغي على المسار النقدي الانتباه إلى مايمكننا المجازفة بافتقاده، ويغيب بالتالي عن أنظارنا : بناء عليه، فالنقد الأدبي الذي يرفض الاقتصار على جرد إحصائي للصور، ينبغي أن يضاعفه نقد نفسي يعيش ثانية خاصية الخيال الديناميكية، متعقِّبا آثار الصلة الجامعة بين العُقَد الأصلية وعُقَد الثقافة. لاتوجد، وسيلة أخرى، حسب اعتقادي، لقياس القوى التي تأخذ منحى شعريا فعليا داخل الأعمال الأدبية(10).

يقترح باشلار قراءة ذاتية تستند على :”تحليل النفسي للتأمل الشارد الأدبي”. تثير الصور التي يتيحها النص ردود أفعال من طرف القارئ، وتخلق أثرا على روحه :”ينبغي اقتفاء هذه الصور التي تولد داخلنا، إنها تحيا بين طيات أحلامنا، هذه الصور زاخرة بمادة حُلُمية ثرية ومكثَّفة ”(11).

يلزم بهدف التواصل مع الشاعر، التحرّر من :”البلاغة برتابة موسوعيتها عن الجميل، وكذا صبيانية عقلانيات بخصوص دلالة الواضح”(12). ينبغي، تأمل الصور وفق نظام نفسي وليس سيميائي (13). باختصار، يقتضي النص الشعري قراءة راسخة في إطار نوع من المشاركة الوجدانية، والانصهار التام. عندما تناول باشلار نصوص إدغار بو، فقد حَفَّز بكلماته على تحقيق لقاء من هذا النوع.

أيضا، يمكننا قراءة مثل هذه الصفحات بالسعي إلى التماهي مع التأمل الشارد الخلاَّق، بمحاولة بلوغ مستوى النواة الحُلُمية للإبداع الأدبي، من خلال التواصل بواسطة اللاوعي مع إرادة الشاعر المبدعة(14).

يتحقق تقدير مميَّز، لمثل هذا الوضع حسب باشلار، ضمن إطار:” نتقاسم داخله تساميا متنوعا جدا يستدعي صورا بعيدة تمنح طفرة للخيال تبعا لمسالك عديدة”(15).

في المقابل، النقد التقليدي غير قادر لأنه :”يعيق هذه الطفرة”، عندما ”يحيل الأعمال الأدبية إلى تجربة نفسية عتيقة، وكذا تجربة نفسية منغلقة. ينسى ببساطة الوظيفة الشعرية التي تتمثل في إعطاء العالم شكله الجديد، المتبلور شعريا فقط إذا أعيد تخيُّله باستمرار” (16).

يحضر كليا هذا الانفتاح بين ثنايا أعمال باشلار اللاحقة. لذلك، أبرز في كتابه الهواء وأحلام الرؤى (1943) ، حركة الخيال داخل هذا الفكر، فقد لاحظ نزوعها بلا كلل نحو التغيير وتبدُّل الشكل، مما يجعل الوضع مصدرا ل”انفجار للصور”حقيقي.

ليس الخيال إدراكا، ولا ذكرى لأنه يحيل على واقع غير حقيقي وجديد:”أساسا، الخيال منفتح، مراوغ. يعكس داخل النفسية الإنسانية، تجربة الانفتاح ذاتها وكذا الحداثة” (17). يحيل هذا التأويل على فكرة عزيزة يحبها باشلار مفادها :” القصيدة جوهريا تطلُّع نحو صور جديدة ”(18).

إذا كان الخيال قوة تبدع صورها الخاصة، فيبدو شرعيا بالنسبة لباشلار الحديث عن ”ثورة كوبرنيكية”، تضع مطلقا ”الحلم قبل الحقيقة”(19)، وتبرز”الفعل الدال للصورة الشعرية” (20). يضيف :”لا توجد قصيدة سابقة عن خطوة الفعل الشعري. مثلما ليست هناك حقيقة متقدمة عن الصورة الأدبية”(21). صيغة تبدو بليغة، ضمن أخرى ملائمة أكثر، أرساها باشلار قصد الإعلان عن بداية مطلقة للصورة.

أيضا، الجملة التالية :” إنَّ صورة أدبية، بمثابة دلالة عن حالة ناشئة، بحيث يتأتى للكلمة القديمة اكتساء دلالة جديدة”(22).

استنادا على هذا المنظور، أضحى من الضروري السعي نحو تقاسم فعال للحيوية الشعرية :”ينبغي أن نضيف لكل صورة يبدعها شاعر، حركة بغية استيعاب فعلها الشعري”(23). تكمن جلّ معطيات إمكانية الفهم في الآتي:”تصبح الصور غامضة أو عبثية بالنسبة لقارئ يرفض الاندفاع الشعري الخاص جدا الذي أبدعها. في حين، ستغدو متوقِّدة أمام خيال أضحى ديناميكيا بكيفية وِدِّية، بمعنى جليَّة على نحو ديناميكي”(24).

صحيح، ليس سهلا تحقيق ذلك، مادامت الصور تتبلَّر بسرعة ويتحدَّد كل شيء بين طيات :”الفجوة المقتضبة بين الحلم والفكر، الصورة والكلام، تجربة الكلمة التي تحلم وتفكر في الوقت ذاته”(25). بالتالي، يتحتم على القراءة الانتباه إلى هذا الفارق بين الخيال والعقلنة. يجدر بالقارئ الفطن تأخير لحظة تجمُّد الحافز داخل الكلمة ثم يأخذ وقته.

تبعث القصيدة الحقيقية رغبة لاتقهر نحو إعادة قراءتها ثانية . سرعان مانشعر بأنها تنطوي على إضافات أكثر من الأولى. هذه القراءة الثانية – مع فارق كبير عن قراءة عقلانية – أكثر بطئا من الأولى. إنها استغراق في التأمل(26) .

تنبغي الإشارة، منذ كتاب باشلار عن الهواء، فقد أدمج أكثر فأكثر وظيفة الخيال في اللغة. إضافة إلى بداهة أولى، مفادها أنَّ الإبداع تجمِّده البنية اللغوية (27) ، وبعد كل شيء لاتوجد قصيدة دون لغة، نعاين حقيقة ثانية تشكِّل اللغة بحسبها المنطقة المتاخمة حيث يلتقي عندها الشاعر بقارئه.

ابتدأ عمليا اهتمام باشلار بأسئلة اللغة منذ أولى مؤلفاته، فاحتل منذئذ موقعا من الدرجة الأولى وأخبر عن لبنات الشعريات الأخيرة. استشرفت الباحثة آن كلانسي، من خلال كتابها التحليل النفسي والنقد الأدبي، منعطفا حقيقيا. تقول:”مفهوم المتخيَّل باعتباره حقيقة نفسية سابقة عن اللغة يتجلى فقط في إطارها، ترك مكانه لمفهوم جديد عن الخيال باعتباره حقيقة لغوية. لم تعد اللغة، بحسب باشلار منذ كتابه الهواء وأحلام الرؤى، تعبِّر عن خيال أولي وخارجي : إنه يشغل حاليا موقعا منفردا. لم يعد الخيال يحدِّده وعي بالشيء أو العنصر، قياسا إلى وعي استثنائي باللغة”(28).

بالتأكيد، عندما يعلن باشلار أولوية الصورة الشعرية و بأنها لا تحيل على حقيقة سابقة معينة، ثم أفصح عن كلمة السر :”الصورة من أجل الصورة”، فقد شرع يتصورها باعتبارها غير قابلة للاختزال و يدشن منظورا ظاهراتيا.

هذه الفكرة كامنة منذ فترة طويلة، مثلما أشار رأي ورد سنة 1934 ثم استحضرها باشلار مرة ثانية في أعماله الأخيرة : “لاتمتلك اللغة قاعدتها عند خلفية النفسية اللاواعية والبعيدة، بل تكمن في قِمَمِ الفكر، داخل فكر شعري قابل تحديدا كي يبدع تعبيرا”(29).

أقرّ جزءا صور الأرض :”الأرض والتأملات الشاردة للإرادة”و” الأرض والتأملات الشارد للاستراحة”، الصادرين سنة 1948، بتلك المواقف التي تبناها باشلار. يلزم فصل المعرفة عن الأحلام، بهدف التموقع عند :”وضعية متخيِّلة”(30). يقتضي هذا المشروع انتماء لامشروطا إلى الصورة وكذا رفض التفسير.

مرة أخرى، يشير بأنَّ الأمر يتعلق بلقاء يلزمه الامتداد :”القراءة مجرد زمن ضائع إذا رفض القارئ المكوث أمام الصور”(31). يحرض صداها القارئ كي يتأمل حالاتها النفسية الخاصة، مما يضمن توجُّها صحيحا للقراءة.

وطَّد رسميا كتاب باشلار”شعرية المكان”، اختياره المنهج الظاهراتي الذي بدأت ملامحه تتبدَّى منذ فترة طويلة في خضم نقاش طويل ومتعرج مع التحليل النفسي بلغ ذروته مع اعتراضه التالي :”يشرح التحليل النفسي الوردة بالسَّماد”.

بعد هذا الانعطاف، بلغ التأمل الباشلاري نقطة اللاعودة، فقد طرحت الظاهراتية بديلا على البعد الاختزالي مسلمة أن نعيش ثانية :”انطلاق الصورة داخل وعي فردي” (32). مما يعني تقريبا، بأنَّ العمل أو بالأحرى الصورة، مادام باشلار ينجز في أغلب الأحيان تحليلات مِجْهرية، ينتظر من قارئه التطلع نحو لقائها بغاية أن يصبح مرتبطا بكيفية حَيَّة مع وعي صاحبها المانح”(33 ). وضع يتحقق في خضم فعل القراءة بفضل الرنين وكذا العبور الذاتي. عندما تتحول هذه الاستضافة إلى توافق و وصال، فيحدث شيء جوهري :”يبدو بأنَّ كينونة الشاعر هي كينونتنا” و”يسلبنا الشاعر كلِّيا ”(34). الصورة التي يتلقاها القارئ، تجعله يبحر حقا في رحلة حقيقية للكائن : ”تتأصَّل داخلنا. تلقيناها، لكن يحدث لدينا انطباع مفاده أنه بوسعنا إبداعها، بل ينبغي لنا إبداعها. تصبح كائنا جديدا للغتنا، تعبِّر فتجعل منا، مضمون تعبيرها، بمعنى ثان، تجسِّد في الوقت ذاته صيرورة للتعبير وكذا وجودنا. هنا، يخلق التعبير الكائن”(35).

كتاب باشلار الأخير”شعلة قنديل”(1961)، انطوى صراحة على خطاب شعري، حُلُمي :فقد خلت صفحاته من كل أثر احتراس علمي. هكذا، صارت اللغة الشعرية منذ الآن مستقلة تماما : لم تعد ذات إحالة مرجعية، أو تلميحية بل مباشرة وحرة.

تؤكد إحدى الأطروحات الأساسية لكتاب يضع نقطة خاتمة :”القصيدة اندهاش، بشكل دقيق جدا على مستوى الكلام، داخل الكلام وبواسطة الكلام”(36). يكفي القول، بأنَّ باشلار منح نفسه مطلق الحق في الحلم بقراءة الشعراء.

ليس إذن مثيرا للاستغراب، انتماء كتابه”شذرات شعرية النار”الصادر سنة 1988 ، ربع قرن بعد وفاة باشلار، إلى هذا الأفق على وجه التحديد. تشكِّل اللغة الشعرية حقيقة تحيل على ذاتها :”حرَّة إزاء ذاتها”(37). تعتمد على قوى اندفاعها الخاص، فتيّة دون توقف على شاكلة طائر الفنقس، ذاك الطائر الأسطوري المنبثق من رماده الخاص.

يجد القارئ نفسه أمام”خيال متاح”في خضم هذا التجديد اللغوي، يعاين حفلة”رفقة أكثر الخصوصيات بساطة”مما يجيز في نهاية المطاف التفكير في :”إمكانية تبلور الصورة الشعرية مثل علاقة مباشرة بين روح وأخرى، وكذا تواصل بين كائنين سعيدين جراء التحدث والإصغاء، ضمن هذا التجديد للغة أضحت كلاما جديدا”(38) .

تكمن نقطة الإرساء لدى باشلار، في هذا الفردوس الذي اكتشفه ويرفض مغادرته :”مملكة الشعري”. سيكون مع ذلك، غير صحيح الاعتقاد عدم معرفة باشلار بحدود المسار النقدي. بدا حقا موقفه أكثر تدقيقا مما نفترضه للوهلة الأولى.

أوضح باشلار في حواره مع أليكسندر أزبيل سنة 1957، إدراكه جيدا، مع أنه ورش يقتضي بحثا ينبغي القيام به ضمن أشياء أخرى، كيفيات تأليف القصيدة، مضيفا بأنَّ هذه المهمة لم يدرجها ضمن مشروعه : “كما ستلاحظون، دوري متواضع جدا، ولا أعتبرني أستاذا للأدب. صحيح، لاأمتلك مايكفي من الثقافة بهذا الخصوص؟لم أحاول دراسة حقبة أو النبش في فترة معينة”(39).

فعلا، لم يتجه اهتمام باشلار أساسا وجهة اشتغال من هذا القبيل، لكنه طرح مع ذلك حدوسا منهجية مهمة حيث تمر التأويلات في صمت أو لا تبرز قيمتها بوضوح سوى نادرا.

بهذا الخصوص، يجدر التذكير بتصور باشلار للإبداع كحصيلة لعدة موجِّهات ثم التأرجح بين العضوي والروحي:”الصورة الأدبية لها ميزة التأثير في الآن نفسه كصورة وفكرة أيضا”(40). حسب هذا المعنى تحديدا، تقتضي في الوقت نفسه :”الحميمي والموضوعي”(41). يتبنى باشلار مطلق الحق على مستوى الحلم والتحرُّر من مختلف الإيديولوجيات الاجتماعية والتأويلات العلمية، رغم ذلك، لايستبعد إمكانية تأويل العمل بكيفية كاملة :”عبر وسائل تأويل ثنائي : تأويل إيديولوجي وآخر حُلُمي”(42).

نظريا، لايمنع أحدهما الثاني :يتيح أول لقاء بين الكاتب وعمله، المجال للقاء ثان يتحقق هذه المرة في إطار مقاربة علمية.

إذا رفض باشلار هذا المسار واكتفى بالقراءة المتعاطفة، فليس تواضعا أو عجزا على مستوى القدرات لكن خاصة عدم تدمير الجمال واللذة الجمالية، مثلما يفهمها. يقول :” أيّ سعادة تتجلى حين تناول الشاعر من خلال الكلمة، والحلم صحبته، الاعتقاد بما يقوله، ثم العيش داخل العالم الذي يقدمه لنا”(43).

يضمر هذا الموقف، الانطباعي في العمق، افتقاد العلمية ويطرح بديهيا اعتراضات معينة، لكن بوسعنا القول من جهة أخرى، تضمُّنه بكيفية غير مباشرة، لتحذير ضد نقائص، وجفاف ثم إرهاب النقد الاستطرادي. يرتبط باشلار بخصوص هذه النقطة مع جان بولهان (44)، حينما اقترح تطوير فلسفة جديدة للقراءة، قدمت ثراء للمعجبين به الذين واصلوا نفس الاهتمام وعملوا على ضمان نجاح ”النقد الجديد”.

ضمن جُمْلة الآراء المهمة جدا، التي بَدَت كإجابات على قضية المسار النقدي، ينبغي خاصة التذكير بما طرحه جان ستاروبنسكي، صاحب تأمل بارع للإشكالية وفق مفاهيم ”العلاقة النقدية”(45)، التي تختزل مختلف المراحل، انطلاقا من القراءة الساذجة غاية القراءة المنتبهة المفضية أخيرا إلى المعرفة الموضوعية والتفسير المقنِع.

نرى عبر هذه الإضاءة، العلاقة الحقيقية مع الشاعر، في كل الأحوال، أكثرها نجاحا، التي توائم بين شغف الإحساس والتفكير.

تشكَّلت أفكار باشلار حول القصيدة بكيفية تجريبية، نتيجة توافق حميمي مع الشعراء، بخصوص لقاء حيوي مع نصوصهم. قراءاته متعدَّدة لكنها تحيل جميعها على شعراء أمثال : أندري بريتون، بيير ريفيردي، تريستان تزارا، بول إلوار، روبرت ديسنوس، بيير جان جوف، جو بوسكيت، جولز سوبيرفيل، أندري بيير دي مانديارجيس، هنري بوسكو، وكذا شعراء آخرين مارسوا تأثيرا حاسما حول الأفكار الجمالية وانعكاسها النقدي. تعلَّم منهم، بأنَّ القصيدة انتهاك تستدعي غالبا قطيعة مع الدلالة والتمثيل، تعكس فعل حرية الكائن ومدى سموه.

لقد استخلص باشلار درسا للحرية والتسامح، وقبل كل شيء السعادة الجمالية، من خلال تلك اللقاءات العفوية، والفورية والودودة باستمرار. يقول :

”أريد حقا، جعل المعطى النفسي جميلا تماما، بقراءة الشعراء الذين أحس معهم بحياة جميلة”(46).

 

*هوامش المقالة :

المرجع :

Henry Chudak :open edition books ;
Presses universitaires de Paris Nanterre ;
p. 405-417.

 

(1)غاستون باشلار : لوتريامون(1939) ، باريس جوزي كورتي، 1970، ص 54 .

(2)نفسه ص 97

(3)غاستون باشلار :حدس اللحظة (1932)، باريس 1966، ص 18

(4)غاستون باشلار : اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية(1939) ، صدرت أيضا بين صفحات كتابه”الحق في الحلم” باريس، 1970، ص 227

(5)غاستون باشلار : شعرية المكان (1957) ، باريس، المطابع الجامعية الفرنسية 1961 ، ص 2

(6)نفسه ص 1

(7)غاستون باشلار : الماء والأحلام (1942)، باريس، جوزي كورتي، 1968، ص 24 .

(8) نفسه، ص 26

 (9)نفسه، ص 26

(10) نفسه ص 26

(11) نفسه ص 27

(12) نفسه ص 249

(13) نفسه 234

 (14) نفسه ص 70

 (15) نفسه ص 81

(16) نفسه ص 81

(17)غاستون باشلار :الهواء وأحلام الرؤى(1943) ، باريس، جوزي كورتي، 1965 ، ص 7

(18) نفسه ص 8

(19) نفسه ص 119

(20) نفسه ص 283

(21) نفسه ص 283

(22) نفسه ص 283

(23) نفسه ص 57

(24) نفسه ص 57

(25) نفسه ص 21

(26) نفسه ص 286

(27) لقد لاحظ بول ريكور هذه المسألة بكيفية وثيقة :”لايوجد رمز قبل الإنسان المُتَكَلِّم، حتى ولو كانت قوة الرمز متجذِّرة في أقصى الأسفل، داخل تعبيرية الكون، يعني الرغبة، وتعدد الموضوعات المتخيَّل. لكن شريطة استحضار الكلام خلال كل مرة، اللغة، الكون، الرغبة ثم المتخيل”(بول ريكور، التأويل، دراسة في فرويد، باريس، لوسوي، 1965 ، ص 25).

(28) كلانسي آن : التحليل النفسي والنقد الأدبي، تولوز، 1973 ، ص 146

(29) غاستون باشلار : الفكر واللغة، مجلة تركيب، أبريل 1934، العدد 2 ، ص 249

(30)غاستون باشلار : الأرض والتأملات الشاردة للإرادة(1948) ، جوزي كورتي 1958، ص395 

(31) نفسه ص 276

(32) شعرية المكان : نفس المرجع السابق، ص 3

(33) إنغاردن رومان : أثر الفن الأدبي (1931)( تُرجم من اللغة الألمانية) ، ثم دراسة مايكل دوفرين، تحت عنوان :”النقد الأدبي و الظاهراتية”، المجلة الفلسفية الدولية 1964 .

(34) شعرية المكان، ص 6

(35) نفسه ص 7

(36)غاستون باشلار : شعلة قنديل (1961) ، باريس 1962، ص 77

(37)غاستون باشلار : شذرات شعرية النار، باريس 1988 ، ص 29

(38) نفسه ص 37

 (39) استشهاد أورده س. ج. كريستوفيدز، في دراسته المعنونة ب”غاستون باشلار وخيال المادة”، المجلة الدولية الفلسفية، العدد 66، 1963، ص 480

(40)غاستون باشلار : الأرض والتأملات الشاردة للاستراحة(1948) ، باريس، جوزي كورتي 1965، ص 176

(41) نفسه ص 176

(42) نفسه ص 238

(43)غاستون باشلار : شاعرية التأمل الشارد، باريس، 1960، ص 132

(44) انظر مقالة غاستون باشلار :”مقاربة نفسية للغة الأدبية : جون بولهان”، المجلة الفلسفية(1942- 1943) ، وصدرت ثانية في كتابه”الحق في الحلم”، ص 176- 185

(45)جان ستاروبنسكي : العين المتوقِّدة، باريس، غاليمار1961 .

(46)غاستون باشلار : شذرات شعرية النار، ص 49 .

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم