حميد عقبي
تدور رواية هولي سيتي في مقاطعة ريفية متخيّلة في جنوب ولاية فرجينيا تُدعى مقاطعة يوفوريا؛ مكانٌ يبدو ساكنًا من الخارج لكنه مثقل بتاريخ طويل من العنف، والتمييز، والفقر البنيوي، والتديّن المتصلّب. “المدينة المقدسة” هنا لا تعني قداسة أخلاقية، ربما هي مفارقة سردية تكشف التناقض بين الاسم والواقع: أرضٌ تُبارك الخُطب الدينية بينما تُدار الحياة اليومية بمنطق القسوة والاشتباه والنجاة الفردية.
يبدأ السرد بحادثة حريق في منزل رجل يُدعى توم جاندرز، يُعثر عليه مقتولًا داخل البيت، جسده محروق وطعنة في الظهر تشير إلى جريمة قتل سبقها حريق متعمّد. من هذه اللحظة، لا تتقدّم الرواية بوصفها لغزًا بوليسيًا تقليديًا هدفه كشف الجاني فحسب، بل تنفتح على تشريح اجتماعي وأخلاقي لهذا المجتمع كاملًا، حيث تتحوّل الجريمة إلى عدسة تكبير تكشف جذور ضعف وتشوهات النظام القانوني وتواطؤ العادات والخطابات السائدة.
بطل الرواية هو ويل سيمز، نائب شرطة والذي عاد إلى بلدته بعد غيابٍ دام عشر سنوات قضاها في مدينة ريتشموند التي كانت تُعرف ساخرًا بـ”المدينة المقدسة”. عودة ويل لم تكن عودة ظافرة ولا تصالحية؛ تظهر بعد ذلك أنها عودة مُثقَلة بالذنب والقلق والأرق. حيث يحمل في داخله إحساسًا متناقضًا بالانتماء: هو ابن هذا المكان، لكنه صار غريبًا عنه، يعرف ناسه ويعرف في الوقت نفسه كيف تغيّروا أو كيف ظلّوا عالقين في أنماط قديمة من التفكير والعنف.
يجد ويل نفسه في قلب التحقيق في مقتل توم جاندرز، لكن الصدمة الأخلاقية الأولى تأتي حين يُلقى القبض على زيك هاثوم، رجل أسود مسنّ، معروف بطيبته واستقامته، وصديق قديم لعائلة ويل. الاشتباه بزيك لا يستند إلى أدلة دامغة بقدر ما يستند إلى “منطق المكان”: رجل أسود، فقير، وُجد قريبًا من موقع الجريمة.
هكذا تفضح الرواية منذ بدايتها كيف تعمل العدالة في الأطراف الريفية والمناطق المهمشة: فهي ليست منظومة محايدة، هي أقرب إلى نظام قديم وشبكة من الافتراضات والأحكام الجاهزة، والتاريخ غير المعلن، والخوف الجماعي.
علينا أن ننتبه أن الصراع الأساسي في الرواية ليس بين “الشرطة والقاتل”، لكنه داخل ويل نفسه. فهو ممزّق بين واجبه المهني، وضميره الأخلاقي، وعلاقاته الإنسانية القديمة. يعرف أن اعتقال زيك قد يكون خطأً فادحًا، لكنه أيضًا جزء من مؤسسة لا تسمح له بالتحرّك خارج البروتوكول.
كل خطوة يخطوها في التحقيق تُذكّره بأنه عاد إلى مكان لم يعد قادرًا على التعامل معه بالبراءة والروح القديمة.
يتوسّع السرد بعد ذلك ليشمل شبكة من الشخصيات التي تمثّل طبقات متعددة ومختلفة من المجتمع المحلي. هناك فيريداي بيس، شريكة الضحية وأم طفله، امرأة تعيش على الهامش، هي كذلك محاطة بالريبة والوصم الاجتماعي، ويتم التعامل معها بأنها “شخصية مشبوهة” فقط لأنها امرأة فقيرة لا تنتمي إلى منظومة الاحترام التقليدية.
وهناك كلوديت جاندرز، أم الضحية، التي تتحوّل إلى صوت أخلاقي قاسٍ، لا يطلب تعاطفًا بقدر ما يطالب بالحقيقة، وتواجه السلطة المحلية بلغة تجمع بين الإيمان والغضب والذاكرة الجمعية.
من خلال هذه الشخصيات والتفاعلات، تكشف الرواية لنا بأن العنف لم يكن حدثًا طارئًا، لكنه نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية كثيرة، مثل: إرث العبودية، الفقر المتوارث، الاقتصاد الزراعي المنهك، والسلطة الذكورية التي تلبس قناع الدين. الخُطب الإذاعية التي يسمعها ويل أثناء قيادته الليلية — أصوات الوعّاظ المحليين — تتحوّل كلها إلى ما يشبه خلفية دائمة للسرد، هي هنا ليست باعتبارها خلاصًا روحيًا، هي خطابات قاسية، لكن البعض يمنحها شرعية أخلاقية وقداسة.
يتقدّم التحقيق ببطء، ومع كل تفصيل جديد تتعقّد الصورة بدل أن تتضح. حيث الأدلة المادية نادرة، والشهادات متناقضة، والذاكرة الجماعية انتقائية. في خضم هذا الفراغ، تتسلّل السياسة المحلية، والعلاقات الشخصية، والرغبة في “إغلاق الملف” بسرعة حفاظًا على الاستقرار الظاهري. الرواية هنا تُظهر كيف يصبح القانون أداة إدارة للأزمة وليس وسيلة للوصول إلى العدالة.
في موازاة خط التحقيق، تتابع الرواية حياة ويل الشخصية، علاقته بأخيه غير الشقيق، تاريخه العائلي، وبيته القديم الذي يشبه أطلالًا أكثر منه مأوى.
العودة إلى الجذور لم تمنحه الطمأنينة، كأنها وضعته وأجبرته على مواجهة أسئلة مؤجلة، هل الهروب كان خطأ؟ وهل البقاء الآن شكل آخر من أشكال التواطؤ؟ الجنوب الذي عاد إليه ليس هو الجنوب الذي غادره، لكنه أيضًا لم يتغيّر بما يكفي ليمنحه أملًا.
إذا تأملنا الرواية أسلوبيًا، سنجدها تعتمد على لغة كثيفة، بطيئة الإيقاع نوعًا ما، لكنها مشبعة بالوصف الحسي، مثل: الأرض، الغابات، البيوت المحترقة، الطرق المتلوّية، والحرارة الخانقة.
سنجد أن المكان لم يكن خلفية محايدة أو ديكورًا جميلًا، سنشعر وكأنه كائن حيّ يضغط على الشخصيات ويشكّل خياراتها. الجريمة نفسها تبدو كعرضٍ من أعراض مرض أعمق، لا يمكن علاجه باعتقال شخص واحد.
عمل أدبي عن الذنب الجماعي
في النهاية، لا تقدّم هولي سيتي إجابات مريحة أو منتظرة. ما تقدّمه يشبه الشعور الثقيل بأن الحقيقة، حتى لو كُشفت، لن تُنقذ أحدًا بالكامل. العدالة، إن تحققت، ستكون ناقصة، ومشوّهة، ومؤلمة.
الرواية تُنهي مسارها وهي تترك القارئ أمام سؤال أخلاقي مفتوح: هل يمكن لمكانٍ بُني على الظلم أن ينتج عدالة حقيقية، أم أن أقصى ما يمكن فعله هو تقليل الخسائر وفعل القليل من الترميم؟
بهذا المعنى، نحن مع عمل أدبي عن الذنب الجماعي، وعن استحالة وتعقيدات البراءة في مجتمع يعرف الحقيقة لكنه يفضّل الصمت. هي رواية عن العودة، التي لا خلاص فيها، والأهم من ذلك أنها تتحوّل إلى مواجهة متأخرة مع ما لم يُحلّ أبدًا.
الرواية البوليسية كأداة من أدوات التفكير النقدي
منذ صدورها، لفتت رواية هولي سيتي انتباه النقّاد، والكثير منهم وصفها بأنها عمل يتجاوز تصنيفات أدب الجريمة التقليدي، ويعيد تعريف ما يمكن أن تكون عليه الرواية البوليسية المعاصرة. معظم الكتابات النقدية اتفقت تقريبًا على أن قوة الرواية لا تكمن في حبكتها الجيدة فحسب، بل في قوة استخدامها الجريمة كأداة لكشف بنية اجتماعية مأزومة، حيث يصبح القتل عرضًا لا أصلًا، ومرآةً لمجتمعٍ يتعايش مع العنف والتمييز والتهميش بوصفها جزءًا من الحياة اليومية.
النقّاد الأمريكيون، خصوصًا في الصحافة الأدبية المتخصصة، أشاد أغلبهم ببناء المكان بوصفه شخصية فاعلة. مقاطعة يوفوريا، وهي متخيّلة، لم تظهر خلفية محايدة أو مجرد جغرافيا، بل ظهرت كجسد حيّ أثقله التاريخ غير النقي: إرث العبودية، الفقر الريفي، التدين الشعبوي، والسلطة المحلية الهشّة.
هذه الاشتغالات على المكان أعادت إلى الأذهان تقاليد “القوطية الجنوبية”، مع فارق أن هنري وايز يبتعد عن الفولكلور أو الاستعراض اللغوي والغنائية، ويكتب بلغة دقيقة، متقشّفة، لكنها مشحونة بالتوتر الأخلاقي.
من جهة الشخصيات، ركّزت العديد من المراجعات على نجاح الكاتب في رسم بطل غير بطولي. ويل سيمز ليس محققًا لامعًا ولا بطلًا أخلاقيًا صافيًا، بل هو شخصية ممزّقة بين الواجب المؤسسي والروابط الإنسانية القديمة.
هذا الانقسام الداخلي اعتُبر من أبرز نقاط قوة الرواية، لأنه حوّل التحقيق الجنائي إلى صراع نفسي وأخلاقي، وجذب القارئ ليكون شريكًا في الحيرة، لا متلقيًا لحلّ جاهز.
استحقت الرواية جائزة إدغار ألان بو 2025، ورأى النقّاد أن هذا الاستحقاق جاء نتيجة لقدرتها على توسيع أفق أدب الجريمة. الجائزة، التي تُعنى تقليديًا بالجودة السردية، والحبكة المحكمة، والابتكار في النوع، وجدت في هولي سيتي عملًا يلبّي هذه الشروط ويضيف إليها بعدًا اجتماعيًا وسياسيًا واضحًا. الرواية إذن لم تكتفِ بطرح سؤال “من القاتل؟”، بل ذهبت أبعد، لتسأل: كيف تُصنع الإدانة؟ ومن يُمنح حق الشك، ومن يُحرم منه؟
في تصريحات الكاتب المصاحبة للعمل، أوضح هنري وايز أنه لم يسعَ إلى كتابة رواية جريمة بالمعنى الصرف أو المهني، بل إلى تصوير مكان يعرفه جيدًا، بكل تناقضاته وأخطائه. يرى وايز أن الجريمة في روايته ليست استثناءً، لكنها تولد وتكبر نتيجة منطقية لتاريخ طويل من القمع والظلم والصمت، وأن اهتمامه انصبّ على الإنسان العالق داخل هذا النظام أكثر من اهتمامه بحلّ اللغز نفسه.
أجمع الكثير من النقّاد على أن هولي سيتي استحقت جائزة إدغار لأنها قدّمت أدب جريمة ناضجًا، أخلاقيًا، لكنه مزعج، ويفرز أسئلة عميقة مقلقة يجب أن تُقال. نحن هنا مع أدب يحاول أن يعيد الاعتبار للرواية البوليسية لتكون أداة من أدوات التفكير النقدي، لا أن نكتفي بسرد تشويقي يدهشنا أو يسلّينا فقط.
تبدو جائزة إدغار ألان بو أشبه بالاعتراف العالمي بدور الرواية البوليسية، هي أحد أكثر الأجناس الأدبية قدرة على مساءلة الواقع والغوص فيه. هذه الجائزة، التي تُعدّ الأهم في مجال أدب الجريمة والغموض على المستوى الدولي، تمنح ثقلها للأعمال المحكمة سرديًا، وكذلك الأعمال التي تتمكن من توسيع حدود النوع وخلق مسارات جديدة، وهدفها أن تنتج أعمالًا إبداعية تدفع إلى مناطق جمالية وأخلاقية وفكرية جديدة.
الفوز بها يضع الرواية مباشرة ضمن “الكانون” المعاصر لأدب الجريمة، ويمنحها شرعية نقدية تتجاوز السوق واللحظة الآنية، لتدخل في حوار أوسع مع الأدب العالمي والسينما والنقد الثقافي والترجمة.
وبعد قراءة أولى يشعر القارئ أن الكاتب قدّم عبر هولي سيتي صوتًا سرديًا واعيًا بالمكان والتاريخ، بالأرض والإنسان، فهو كاتب لا يفصل الجريمة عن شروطها وجذورها الاجتماعية. يُوصف وايز بأنه ينتمي إلى جيل من الروائيين الأمريكيين الذين يكتبون من تخوم المركز، ويشتغلون على الريف والجنوب ليس باعتبارهما فضاءين فولكلوريين، بل باعتبارهما مختبرين مكثّفين للصراع الطبقي والعنصري والأخلاقي.
لغة وايز تبدو متقشّفة، واهتمامه واسع بالشخصيات الهشّة والمؤسسات المتعبة، وهو يرى أن الرواية يجب أن تكون فعلَ مساءلة لا تسلية، وتجربةً معرفية. بهذا المعنى، تمثّل هولي سيتي ما يمكن وصفه بأنه إعلان شجاع عن مشروع سردي يتقدّم بثبات داخل أحد أكثر الأجناس الأدبية صعوبة ومجازفة.















