الكاتب الميت والقارئ الحيّ ..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مروى عليّ الدين

 

الكلمات قصور، أو قبور.. كائنات تبحث عن العالم الذي يليق بها، والسند الذي يضمن لها الحياة. فهي أداة الاتصال والانفصال في آنٍ . والتجربة الأدبية هي أسمى ما يُقدم على فعله الإنسان بعد تجربة الحُب. وما كان الفن والحب إلا أعمالًا إبداعية خالدة في ذهن الطالب والسائل، الساقي والشارب، في أوقات يحتاج الجميع إلى من يُمسك بمقاليد السُلطة، ويكشف عن طبائع وحقائق الأشياء ـ حتى وإن كانت البداية نظرة مُفردة ـ ويُظهرها ويُثمنها، ويُسمي الأشياء التي لم تكن قبلًا ذات اسم، ويدفع الناس إلى تحديد موقف منها..

في تاريخ الكتابة وحاضرها، بين الكُتاب والقُراء استجابة يحكمها المعنى. فيخرج الكلام وسيطًا كما البحر يحمل السُفُن، وعلى قدر اجتهاد صاحب الكلام وإشارة حديثه، يكون الكلام حيًا، أو وثن !

 والوظيفة التي اكتسبها المجال الأدبي؛ كانت وليدة الدراسات العديدة التي اتخذت من الإبداعات الأدبية أداة لرصد القيم المجتمعية. مع أن الكاتب يتكبد عناءً شديدًا إثر محاولاته بتغيير طبيعة التفاعلات الاجتماعية وتنميطها، كي يجعل من أدبياته، واقعًا مشتركًا !

ويفترض علماء النفس والاجتماع، بأن الأعمال الأدبية تمتص القارئ وقت التلقي، مع أنها اكتملت بوجوده في مرحلة الكتابة، وهذا الأخير، الذي هو البطل وموضوع التناول في كل مرة، لولاه لما جاوز الكاتب دائرة نفسه نحو المجتمع الذي يحيطه. لكن على الرغم من كون هذا جزءًا من الحقيقة، إلا أن الأديب ليس دوره بأن يكون مُصلحًا اجتماعيًا أو هاديًا، أو اعتباره صاحب رسالة، والتعامل مع الفن كأداة تُعدِّل الحياة فتقيم صُلبها!!

الفن ينهض من الكمون ويُحلق في فضاءات غريبة عن الواقع، قد تكون من وحيه، لكنها تظل إبداعات جائلة غريبة، في سماوات تقذفها فترتد إلينا شُهبًا، وكثرة التحليل ورد كل عمل إبداعي بالبحث والتدقيق إلى ملفات مُصنفة، ينزع عنه السحر.  
ومن هنا قد يذهب بنا التفكير إلى "وسطاء الفنون" وتأمل "قرائاتهم الإبداعية "ونحترم وجهة النظر، والضوابط التي قد ترفع من قيمة النص الإبداعي، وتُجيز ضمه إلى قائمة الأعمال التي تستقر في الذاكرة، ويفخر بها التاريخ كنوع من المد الحضاري، نوع من العبقرية الخالدة .
وقد تُغرقنا بعض النصوص في الحيرة، ولغرابة الفكرة، تدفعنا حاجة ردها إلى الواقع بأدوات المنطق، وتطبيق النظريات النقدية، وإخضاع غير المفهوم إلى الفهم، ورد الغامض إلى شجرة المعرفة.  لكن قد تذهب هذه الجهود بالنص العبقري إلى مدرسة الجاهزية الإبداعية، وكأنما الذي يخضع لتحيزات التلقي والتقديم قد علا فوق الضبابية، ويسعى بفنه نحو الجدارة والقبول، ولكن كيف تكون الجدارة، وكيف يكون الإبداع القابل للوزن والقياس؟! يقع وسطاء الفن في خطأ جعل الأديب مجرد انعكاس، وفي هذا إهدارًا كبيرًا لمكانته الفنية الحقيقية، التي قد تتجاوز المعنى الموضوع وتسير به نحو المعنى الحقيقي! فليس الفن في هذه الحالة أكثر من وسيط، حتى وإن كان الفن هو نفسه؛ المُنزه عن الغرض سوى الإعلان عن ذاته بوصفه فنًا. لأن الأدب في الحقيقة ليس مساويًا سوى لنفسه.

 
" هل من المشروع أن يُجيز المرء لنفسه عبر تجربة ما لا يُوصف، التي هي بلا شك مُتحدة في طبيعة واحدة بتجربة الحب، أن يجعل من الحب باعتباره استسلامًا، بأن يكون مأخوذا منبهرًا بشكل يُعجزه في التعبير عنه"! هكذا يُرى الفن في نظر بيير بورديو في كتابه قواعد الفن Pierre Bourdiew "Les Regles De L'Art "

. فهل من المشروع أن يُرى في التحليل العلمي للفن، ولحب الفن، الشكل الفائق في غطرسة التناول، وتحت غطاء التفسير لن تتردد في تهديد حرية "المُبدع" و" القارئ" وتقييد حريتهما.

في كل مجال توجد القواعد، التي قد تظل غير مرئية لكنها مُفعلة، وبقائها نوع من الرضوخ، خاصة القواعد التي تطلب من المنضمين حديثًا الالتزام بالولاء. وإذا ما راوغوا في القبول والانصياع والالتزام، يُلاحقون بالعار. " ويجد الفنان نفسه في مواجهة عصّية الفهم مع ضوابط المُجتمع، التي تطلب تفهُّم طبيعة القيود. وليس أمام الكاتب إلا بأن يقبل دونما انفصال بين الفن والمجتمع أن يدخل إلى المضمار، ويحافظ على بقاءه، حتى اللحظة التي تشمله، وتشمل التحويل الحقيقي الذي دفع به إلى المجال الأدبي .

لن نذهب كثيرًا بالحديث عن الفِرق، وأصحاب السيادة، وكيف ينشأ الصراع بين الذين يحاولون الدخول من أبواب المجال الأدبي، والمتسيدون الذين يحاولون أن يدافعوا عن رأسمالهم الأدبي، بالاحتكار، واستبعاد المنافسة. لأن المنافسة هنا تحمل خطر بذل مجهودا أكبر بانضمام عدد إضافي من المنافسين، وبالتالي تصعُب فرص النجاح. وإذا ما حدث نوع من التوافق الظاهري، فإن الجانب الآخر من الصراع يكون المؤُسسة الثقافية بالكامل.

لكن دعونا نجعل الغرض من الحديث "القارئ" و"الكاتب" و"الوسيط" و"ورطة تحقيق العدالة"، وإعطاء الساقي حقه، والشارب حقه، والقاضي الذي يفصل بينهما لابد وأن يُؤتى حقه بالمثل، طالما تيسر للفن أن يستمر وجدانيا، ويتسرب كما يحلو له ويطرح التساؤلات، التي قد تبدو في أول وهلة غامضة جدًا، أو كثيرة الورود ، لكنها حُمّى الجمال، وهذيان المتلقي، لا يقل في قوته وتدفقه، عن هذيان واسترسال السارد.  
تخيل الرقابة التي تلف عنق القارئ قبل الكاتب في استقبال النص، واستعباد أفكاره بالتحيز للجمال المقنن.. الجمال المُقترح. الجمال المُشكل حسب رغبة طرف ثالث لم يشترك في الفعل أبدًا لكنه يقف موقف الحارس، والضابط، والمتحيز لوظيفة مُقحمة على شخصية الفن ، الذي لم يأت إلى هذا العالم كي يُفسد شأنا، أو يُصلح شأن. بل جاء الفن كمرأة تعكس ما حولها، وهي في ذاتها تُعرف بالتألق واللمعان!
مهما حاولنا أن نكون منصفين للفنان، وذات الفن، هناك شائبة تظل عالقة على جدران الكأس، وبصمة الوسيط بين الساقي والشارب؛ قد تنقل إلى السائل الشفاف: اللون والطعم والرائحة.

 ورغم أصالة الفن وخامته الإبداعية، فإن كل ترويج مثلما يكون أداة هدم، قد يكون لطمة، وصوتا عاليًا، يتسرب إلى موسيقانا التي ستظل خاضعة للشرح والتأويل .
ربما يتطور الحال ويصل المنتج الإبداعي ذات يوم دون وسائط، ليتحقق الهدف الأساسي الذي جاء به ، الهدف دفعه إلى العالم، واعترافنا أنه فن!

  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 كاتبة مصريّة صدر لها ـ جاليريا عن دار العين 

مقالات من نفس القسم