مدينة زجاجية تلغي تاريخا من المسكوت عنه: تدوين الذات ومحوها

مدينة زجاجية تلغي تاريخا من المسكوت عنه: تدوين الذات ومحوها
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاتم حافظ *

أسوأ ما يمكن أن يفعله النقد هو أن يثبت المعنى، وهو ـ تحديدا ـ ما أنا في طريقي لفعله (!)، فبالرغم من أن رواية إبراهيم فرغلي الجديدة الصادرة عن دار العين "جنية في قارورة" رواية تبدو كأنها تقاوم تثبيت المعنى، بالتقنيات المراوغة أحيانا، وبتشتيت الحكي أحيانا، وبتداخلات عديدة في السرد، بالرغم من ذلك كله، فإنها سوف تكشف عن أن مقاومتها للمعنى ليس إلا تخوفا من الإفصاح، وتوجسا من الصدام مع بنية مجتمعية قرّ في وعيها الجمعي تحفظات عديدة تستبعد (المختلف) خارج تخومها.

يستكمل إبراهيم فرغلي مشروعه الذي بدأه في روايته السابقة "ابتسامات القديسين"، فمع السطور الأولى لروايته الجديدة نعرف أن "حنين" بطلة الرواية وراويتها الأساسية ليست إلا ثمرة الحب المحرم ـ اجتماعيا ـ لاختلاف دين أبويها ـ رامي وكريستين ـ بطلا روايته السابقة. ويبدو أن هذه الحيلة ـ حيلة الإحالة ـ قد راقت لإبراهيم فرغلي، حيث تكررت أيضا في رواية "كهف الفراشات" التي كانت تحيل إلى مجموعته القصصية "باتجاه المآقي" لدرجة أنه قد اضطر لتصدير روايته بنص القصة المحال إليها. غير أنه ـ في ظني ـ أن إبراهيم فرغلي لا يعمد إلى الإحالة وإنما يضطر إليها اضطراره لخوض المعركة نفسها ـ معركة المقاومة ـ مع الخصم ذاته ـ المجتمع المتحفظ ـ طالما أن الخصم يلح على التعامل مع تناقضاته وتيبس أعرافه باعتبارها بديهة!.

في “جنية في قارورة” تعود (حنين) إلى فرنسا بعد زيارة لمصر ـ موطنها الأصلي ـ بعد أن تأكدت أنها لن تعود لمصر مرة أخرى. والرواية في معظمها تروى بصوت حنين عبر مذكراتها التي بدأت في كتابتها فور عودتها إلى باريس، محاولة لاستنطاق التجربة التي عاشتها، بعد زيارة لمصر بغرض اختبار فرصة العيش في القاهرة، وبغرض إنجاز مشروعها للماجستير وموضوعه “العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي في مصر”، وبغرض زيارة عمتها نادية في المنصورة علّها تعرف كيف انتهت أمها المسيحية كريستين إلى حيث لا يعلم إلا الله. ثم اكتشاف حنين ـ في النهاية ـ أنه لن يمكنها العيش في القاهرة مثلما اكتشفت من قبل أنه لن يمكنها العيش في دبي بصحبة والدها قبل موته. وذلك بسبب اكتشافها أنها قد صارت فرنسية حتى النخاع وبسبب أنها عادت من مصر “ناقمة على كل شيء”… هل يبدو أن هذا هو كل شيء؟!

في “جنية في قارورة” ينقطع السرد الذي يستعيد التجربة الأبعد والأقرب لحنين، مخليا الساحة لتجربة مسرحية شديدة الإيروتيكية بل والمجون حيث يتضامن الخيال الحسي لصورتين إحداهما سحاقية، كذلك ينقطع الصوت ليستعاد صوت عماد، الصوت الرئيسي في رواية “ابتسامات القديسين”، فينفرط السرد في أجواء غرائبية، فيتداخل الواقعي والأسطوري في خيالات ألف ليلية، كذلك تخترق تجربة حنين بحضور واقعي لشخص لا واقعي يدفع بالتجربة من العفوي للقدري… هل يبدو أن هذا هو كل شيء؟!

في “جنية في قارورة” ـ في رأيي ـ التجربة الأهم ليست في تجربة حنين ولا في تجربة والديها، بل في تجربة (التدوين) التي تخوضها حنين، سواء التدوين الكتابي (كتابة المذكرات) أو التدوين الاجتماعي (تدوين الهوية في خارطة المجتمع).

****

يبدو أن الرواية تضرب المثل على الكيفية التي يمكن أن تكون الحركة في الفراغ شكل من أشكال التدوين، تدوين الهوية، في صفحات الآخرين، وكيف أن هذا التدوين لا يفعل إلا محو الهوية في نهاية الأمر، ففي الوقت الذي يوهمنا فيه التدوين أنه يسعى لكي يثبّت فإنه يمحو، ويزيل، خصوصا حين لا يثبت في النهاية غير فعل التدوين ذاته، أي حين يلفت التدوين النظر إلى ذاته، مخفيا الحقيقة، وماحيها. حنين تدوّن نفسها أمام أبيها (خجولة) وتدوّن نفسها أمام صديقتها (متهورة)، وتدوّن نفسها في الجامعة (باحثة نشيطة). وهي في علاقتها بباتريك كانت تدوّن لنفسها هوية قادرة على نسيان علاقتها بديفيد. وفي علاقتها به أيضا كانت تدون هوية مختلفة عمن مارس معهن الجنس قبلا. وهي في كل ذلك لا تفعل غير محو هويتها التي تنمحي بفعل تعدد فعل التدوين واستمراره. وبذلك فهي ترجئ الإجابة عن سؤال الهوية الذي تطرحه على نفسها باستمرار.

ومن جهة أخرى ـ ورغم إلحاح سؤال الهوية ـ فإن المسكوت عنه في شخصية حنين هو سعيها لعدم تثبيت هوية واحدة لنفسها. ففي تنقلها مثلا بين عشيق وآخر وبين حفلة ماجنة وأخرى ومن منزل صديق إلى مرقص صاخب وتقلبها الحسي رغبة دفينة في محو أية هوية يمكن أن تكون قد دونتها لنفسها أو يكون الآخرون قد دونوها نيابة عنها. فلم تكن ثورة حنين أو غضبها من وصف نتالي لها بالقحبة، غضب ذا نزعة أخلاقية، وإنما رفضا لمحاولة تدوين هويتها في صورة قحبة، وفي ظني أنها كانت ستثور وتغضب لو أن نتالي وصفتها بالقديسة!.

إن حنين التي ترى نفسها كجنية في قارورة في انتظار المنقذ الذي يشبه المريض الإنجليزي (بطل رواية مايكل اونداتجي المعروفة بالاسم ذاته) لا يعنيها أن تكون مصرية أو فرنسية، مسلمة أو مسيحية، محافظة أو متحررة، ما تعبأ به هو أن تكون ذاتها فحسب، إنسانا، على أي هيئة وعلى أي صورة، قبل أن ينداح الصوت. وهي في ذلك في صراع مع (الاجتماعي) القائم على التصنيف في مصفوفات معنونة. فما جعل نتالي الفرنسية تصف حنين بالقحبة ليس إلا الرغبة الاجتماعية في التصنيف، وما إنهاء حنين لعلاقتها بديفيد اليهودي إلا لاستسلامه في النهاية إلى موقف أيديولوجي، وما رفضها البقاء في مصر إلا بسبب العنف الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع الشرقي المطبوع على التصنيف بين الأخيار ـ المتوافقين اجتماعيا ـ وبين الأشرار ـ الخارجين عن القطيع ـ في رغبة لمنح هوية ثابتة لأفراده جميعهم، وتدوينها ككادر ثابت.

إن المجتمع الشرقي الذي تعاملت معه حنين في مصر، يتعامل مع الذات ومع الجسد بعنف شديد، ويفرض مدونة واحدة وحيدة، ويقوم بتثبيتها وكبح أي مراوغة يمكن أن تنشأ عن دالات الجسد. نسرين مثلا تلبس حجابا ليست تقتنع به، ولكنها تنساق لرغبة خطيبها طواعية، فهكذا النساء يفعلن في محيطها. كذلك فإن علي يمكنه أن ينام مع من يشاء ـ مع كثير من المشاعر الطيبة ـ من (الخواجات) ولكنه يرفض إقامة علاقة مع حنين، تمنعه الدماء الشرقية في جسدها، الدماء التي تحيلها من امرأة (خوجاية) إلى قحبة (شرقية).

أما هذا المجتمع فانه يمارس العنف عبر عدة آليات، كالتلصص مثلا الذي يمثل فعلا اجتماعيا لفرض مدونته الخاصة على أفراده، راغبا في أن يتحول الشخص ـ كل شخص ـ إلى هوية مدونة على شاكلته. وحتى لو قام هذا الشخص بتدوين زائف (الحجاب، إيماءات الخجل مثلا) فإن زيف هذا التدوين ليس مما يعبأ له هذا المجتمع المتلصص، المهم أن يتفق شكل هذا التدوين وما يراه المجتمع صائبا. أما حنين فإنها تقاوم هذا العنف بمحاولة تدوين تاريخها الخاص كذات وكجسد. عبر آلية المحو ذاتها، مستدعية لحظة لم تكن الأمور مبهمة فيها، “لم يكن الجنس احتفالية بلا مبرر، احتفالية ما بعد حداثية كأفلام البورنو وكليبات الفيديو كليب”، مستدعية لحظة كان الجنس فيها ثورة، كان ذلك في العم 1968 في فرنسا، وهي لحظة ليس لها شبيه بالطبع لا في مصر ولا في الإمارات. هذه اللحظة المستدعاة تشبه الذات المأمول في الإمساك بها، وهما معا ـ اللحظة والذات ـ يمكن أن يعرفا بأنهما (الصوت) الذي يسأل عنه إبراهيم فرغلي في صدر الرواية عبر استدعاء قصيدة إيمان مرسال. إن استسلامها للفتى الذي التقته مصادفة لدى المسبح كان لرغبتها في تدوين تاريخ مغاير لتاريخها السابق، تاريخ يرتبط بكلمة “بلاد” التي عرفت أنها تعني “وطن”، لولا أن هذا الوطن كان عنيفا جدا تجاه أجساد مواطنيه، باعتبارها صفحة تدوينه.

****

“لماذا أكتب هذا كله وأستعيده بهذا الإلحاح المرضي؟.. هل هي الرغبة في تعذيب النفس؟ أم إنها محاولة لاكتشاف المساحات الغامضة في تكويني النفسي لاستعادة التوازن؟ لا أعرف” هكذا تسأل حنين مفتتحة كتابتها لمذكراتها التي تشبه إلى حد كبير مذكرات أبيها. فلماذا يدونا حكايتهما؟.. هل هي رغبة متوارثة في تعذيب النفس؟ أم محاولة للمعرفة؟ أم؟.. الحقيقة إن هذا التدوين الكتابي الذي تقوم به حنين هو ـ على عكس تدوينها الاجتماعي ـ رغبة في تثبيت ما تمحوه بحركتها في الفضاء الاجتماعي، ورغبة في الاستحواذ الأخير على هوية ثابتة، ولكن حقيقية. ولكن، بفعل اجتماعي شرير، يتحول هذا التدوين الكتابي إلى (استعراض)، لمجرد أن طرفا ثانيا يقتحم العلاقة بين الذات والذات. تصف حنين مذكرات أبيها بالخجولة لمجرد أنه كتبها بينما يعرف أن ابنته سوف تقرأها. تقول حنين “لا أريد أن اكتب مذكرات ناعمة كالتي كتبها أبي. يبدو لي أنه كتبها بهذا الحس المثالي لأنه كان يعرف أنني سوف أقرؤها”، كذلك فإن أبوها يتردد في الكتابة عن صديق مسيحي كان على علاقة بأخرى مسلمة، وتتساءل حنين إذا ما كان تردده لآفة تعصب كانت قارة في شخصيته.

ومن أجمل مشاهد الرواية ـ وأصعبها في رأيي ـ مسرحة العلاقة بين حنين ونتالي، والتي تؤكد هذه الكتابية التي تنمحق إذا ما اقتحم طرف آخر سياجها. تتخيل حنين أنها على خشبة مسرح مع نتالي في مشهد إيروتيكي مستعار من كتابات ما بعد الحداثة، وتتساءل حنين “مع من سيتضامن الجمهور، معها أم معي؟ هل سيتعاطف مع علاقتنا الخاصة ويجد متعته في متابعة اللقاء الأول بين عشيقتين اكتشفت كل منهما حبها للأخرى أم سيكون الاحتمال الدرامي بوجود صراع امرأتين على رجل أكثر إثارة لهم؟، وهي في سؤالها هذا تقارن بين موقف الجمهور من الحقيقة (التدوين الكتابي ـ تثبيت الهوية) وموقفه من الوهم (التدوين كاستعراض ـ محو الهوية)، إن السؤال عما يفضله الجمهور هو سؤال عما يفضله المجتمع، الهوية كحقيقة، أم الهوية كتدوين؟، إن نتالي في علاقتها بجسدها هوية حقيقية، ولكن علاقتها بجسدها تتحول إلى هوية مزيفة حين تصبح استعراض (في حضور المجتمع)، كذلك علاقة حنين بمذكراتها هوية حقيقية، ولكن علاقتها بمذكراتها تتحول إلى هوية مزيفة حين تصبح استعراض (في حضور القارئ)، ولذلك فإن المدينة الزجاجية التي تستدعى كحلم أسطوري وإيروتيكي في الآن نفسه، والتي تلغي، عبر شفافية جدرانها، “تاريخ من المسكوت عنه”، الغرض منها ليس إلا تعبيرا عن الحلم بإلغاء التدوين كفعل، التدوين باعتباره استعراضا، حيث تحضر الأشياء بنفسها وبدرجة حرارتها، حيث يحضر الدال بمعزل عن المدلول، الجسد بهويته بمعزل عن دلالته، والنص بمعزل عن معناه. حيث الحضور ايروتيكا لذاتها وليست لإشباع رغبة!، الحضور العار للحقيقة غير القابلة للتدوين ولا للاستعراض، بدلا من متاهة الحكايات المدونة للحقيقة.

****

تكتب حنين مذكراتها بعد انقضاء فترة التجربة، أي أنها تكتب بينما تحتشد بكل ذكرياتها بتفاصيلها الغرائبية، ولهذا يغلب التحليل على السرد، وما يعيب على الرواية كون حنين تستطيع قراءة تجربتها بكل هذا النقاء رغم معاناة التجربة. ومن جهة أخرى لا تزال الحكايات الألف ليلية تراود إبراهيم فرغلي منذ عمله الأول، وفي رأيي أن هذه الفواصل التي تقطع السرد لا تفيد السرد بل تشوهه إلى حد ما، لقد كان لدى إبراهيم قصة جميلة رغب أن يشوهها عمدا قدر تشوه الأنات التي تمتلكها شخصياته، والتي تشوهت بفعل اجتماعي. ما يكتبه فرغلي نموذج لكتابة التسعينيات التي تتشابه مع كتابات ما بعد الحداثيين وإن كانت تحمل صوته الخاص الذي يمكن تعرفه بين جيله. ولو أن الكثير من الناس على استعداد للتضحية بآلاف الروايات واللوحات بل وعمارة ما بعد الحداثة كلها في سبيل الاحتفاظ بنسخة سليمة من “الجريمة والعقاب”.

وأخيرا ففي رأيي أن رغبة حنين في الكتابة العارية التي لا تعبأ بحساسية القارئ تجاه أفكار أو مواقف ما (في تعارض مع كتابة أبيها الناعمة) ليست إلا ما يحلم به إبراهيم فرغلي في كتابته نفسه، كتابة مكشوفة كمدن الزجاج، لا تكترث لقارئ مستكين لعقيدة ومعتقد وعادة وثوابت مستقرة. وهو ما يمكن تعريفه على أنه نشاط مقاوم للجرثومة المزروعة في أعماق الناس “الرغبة الدفينة في الانهيار وتدمير الذات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد وروائي مصري

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم