حوار مع الشاعر الروسي سيرغي يسينين

سيرغي يسينين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

كنا ننتظرُ على أريكة من الاستبرق قرب باب من أبواب الفردوس،عندما خرجت علينا امرأةٌ كاملة الجمال وهي تصرخ وتولول. لم نستطع آنذاك أن ندرك حقيقة الأمر،إلا أن أحد حراس الجنة أخبرنا عن قصتها.فقال أن تلك المرأة هي ((ايزدورا دونكان)) الزوجة الأولى للشاعر الروسي سيرغي يسينين(3 / 10 / 1895 28 / 9 / 1925)، تقتحمُ عليهم جميع الأمكنة،بحثاً عن طليقها سيرغي المختفي عن الأنظار.  وعندما لم تجدهُ هنا أو هناك،تخرج هائجةً كعاصفة بلا عقل.فتلك الطليقة،تريد العودة إلى بيت الزوجية،فيما بقي سيرغي هارباً ثملاً،ولم يقرر شيئاً بخصوص العودة للزوجة التي سبق وأن فجرتْ قلبهُ بلغم هجرانها له،عندما ابتعدت عنه،ورمته على تلك الأرض من شجرة حياتها كأية ورقة صفراء. لم نعرف كيف يمكننا التعامل مع موقف من ذلك الطراز،والاجتماع بالشاعر سيرغي لإجراء الحوار الذي سبق لنا واتفقنا مع سكرتيرته الفضائية (جيسكا ) التي كانت تدير شؤون الشاعر في المنزل السماوي. ما هي إلا لحظات،حتى هبط على مقربة منا طائرٌ يدعى بـ ((الزنكولا)) الشبيه بطيور  النعام مع بعض الفروقات في الحجم وفي اللون.

كانت لحظات مذهلة. إلا أن التفكير بها لم يستمر طويلاً،إذا سرعان ما طار بنا ذلك المخلوق لمحل إقامة الشاعر الروسي سيرغي يسينين. وجدناه مضطجعاً على أريكة ضخمة مع مدلكته البافارية التي سرعان ما ناولته المناشف.ليرتدي الشاعر ثيابه ويرحب داعياً خدامهُ بتقديم الشراب.

بعد ذلك فتحنا معه سيلاً من الأسئلة،مبتدئين بالسؤال:

■ من المزرعة إلى المدرسة الدينية إلى ثورة البلاشفة والحرب العالمية الأولى.كيف كانت رحلتك بالانتقال ما بين تلك الحقب؟

_ كنت روسياً بحق.وكانت أقدامي تحسنُ المشي والهرولة والتسكع على أرصفة الزمن الروسي المتجدد بالاضطرابات التي هدأت بمقتل الراهب المشعوذ ((غريغوري راسبوتين )) وسقوط القياصرة.

■ ألمْ تكن شيوعياً؟

_ نعم.ولكن ليس بالمعنى الأيديولوجي الضيق.بعضهم أرادني شاعراً.وبعضهم أرادني مخبراً.وبعضهم لم ير بوجهي من علامة إلا السكر والفوضى.

■ هل كنت تتجنب الحرب،فهربت من الالتحاق بالخدمة العسكرية على سبيل المثال؟

_ يمكنك الاطلاع على ملحمتين كنت قد كتبتهما آنذاك: “روسيا تمتد” و”روسيا السوفييتية” لتجد موقعي بالروح القروية الصافية على خريطة الأحداث التي مرّت على العالم.

■ هل تقصد مساندتك للفلاحين المعدمين، ممن ابتلعتْ جهودهم البروليتاريا الرثة التي توجتها بـ “بوجاتشوف” تلك الملحمة الشهيرة بنظر النقاد؟

_ كنت في ذلك الوقت مهووساً بكتابة الشعر عن منابع الفلاحة الأولى المختزنة في جسدي.لذلك كانت كلماتي أشبه بغابة من الأشجار المشتعلة،مما دفعت الروائي الكبير مكسيم غوركي إلى الاضطراب والتشنج والبكاء.     

■ هل كنت تسمي كلّ ما تكتبه بملحمة.ومنها ما أطلقت عليه اسم “آنا سينجينا”الموسوم بالمنولوج الغنائي؟!

_ “آنا سينجينا” كانت تلك من الأعمال التي تتحدث عن قصص الحب الطبقي ما بين الفقراء والأغنياء.

■ وهل كانت تلك المسرحية الميلودرامية بمثابة الفخ الذي أوقعتَ به الراقصة الأمريكية (( ايزدورا دونكان ))التي أسست مدرسة للرقص آنذاك في روسيا، فتزوجتها بعد الوقوع بغرامها والسفر معها حول العالم؟

_ بالنسبة لي،لم يكن ذلك حلماً أمريكياً،أن أتزوج من دونكان وأرحل معها في جولات حول العالم،إلا أن المرأة تلك،وبعد أن كانت شغوفة بي،تحوّلت إلى ممرضة لمساعدي بالتخلص من الإدمان الكحولي،بعدما وصل بي في أمريكا إلى الذروّة،حيث الصرع بنوباته التي مصدرها شراب الويسكي المستحضر بيتياً،مما كان يتسبب بتسمم الدم. 

■ هل تعتقد بأن الغيرةَ على المدام دونكان هي التي قتلتكَ بالرقص؟

 _ ربما.فقد كان نشاط الغيرة الإشعاعي مصدراً من مصادر التعلق بالموت.

■ تقصد الموت حباً؟!

_  أقصد أن الحب،قد يتحوّل في لحظة من الزمن إلى حفار قبور.يجهزُ لكَ حفرةً في الأرض،ويهديكَ إياها بالمجان.ثم ينتهي كل شئ،ليعود الحبُ أدراجهُ من أجل اغتيال آخر.

■ أليس من السخف برأي سيرغي، أن يضحي المرء بحياته من أجل امرأة؟

_قد يكون ذلك صحيحاً،ولكن الحب مذهبٌ وجودي مختصٌ بصناعة عمى الألوان التي عادةً ما يصاب بها العاشقون ممن أدمنوا على أمراض الطيش والكبت والفراغ العاطفي الأسود.فكلّ حبٍّ في نهاية المطاف،يجهزُ قائمة بأسماء المغدورين اعتباطاً وغباءً  وتسليةً وغبناً. 

■ ولكن ألا تعتقد أن الشعراء مرضى حبّ على طول الزمان؟

_لا أظن ذلك. فأغلب الشعراء من المهووسين جنسياً. ولكن ذلك لا يحول دون وجود شعراء ينتمون إلى عوالم الشغف الذي ينظمُ شهوات الحب،دون أن يحرم اللذّة أو ينشد الحبّ العذري،تلك الأكذوبة السمجة التي لا محل لها من الأعراب ما بين العاشقين.  

■ هل كنتَ مُهَيّج جنسياً في حياتك الشبيه بالنسمة القلقة السريعة التي ارتفعت عن الأرض نحو الأبد؟

_ لا تعتمد ضنياً على تاريخي الغرامي مع الراقصة دونكان.فلقد عشتُ معهاً نظرياً،فيما كانت حياتي العملية مع الكحول الذي جعلني كنيسة تملؤها أجراسٌ لا تتوقف عن صناعة الدق والرنين والقرع وكافة أنواع الأصوات التي تدفع الدماغ للانفجار.

■ كيف كنت تنظر إلى الكحول يا سيرغي؟

_ أنا لا أنظرُ للخمور إلا كمخلوقات جذّابة،لا يمكن الاستغناء عنها حتى في أوقات الجحيم. ولكن كلّ نظرةٍ إلى زجاجة كحول،تختلف عن النظرة إلى قنينةٍ ثانية.

■ وهل من أجل ذلك كتب الطبيبُ المعالجُ في إضبارتك كمريض كحول على أنك: مصاب بالهذيان والهلوسة؟

_ لم يكن ذلك طبيباً رحيماً بمرضاه،بقدر ما كان جلاداً يحاولُ التخلصَ من الشعر والشعراء ورميهم خارجاً مع الزجاجات الفارغة.

■ هل كان طبيباً قاسياً يكرهُ التدوير الشعري وإعادة إنتاجه باعتباره من المواد الضارّة؟

_ لا أعرفُ حقيقته بالضبط،علماً بأنني رأيت زجاجة فودكا مخبأةً بين قدميه تحت المكتب.آنذاك أحسستُ بقيمة الكحول ودوره في الفحص والاختبارات والتجارب التي لا تتم دون خياله المُشبّع بالاختراعات الرائعة على أغلب الصعد.

■ كأنكَ بتَ تروجُ للكحول؟

_ لا يمكن لسكّران يسقطُ عنه وعيهُ بعد احتساء أول كأس –وذلك ما بات يحدث لي مؤخراً -، أن يروّج لشراب مُسكّر.أجل.حتى أنني كتبتُ رسالة للشاعر ((كلويف)) أخبرته فيها عن أن وضعي الذي كان  بحكم الميت: ((لقد تعبت كثيراً وقد أنهكني مرض الإدمان على الخمر)).

■ هل لجأت للكحول بسبب سياسي،كما روّج البعض عن وجود خلاف ما بينك وبين السلطات الروسية؟

_ لم يكن  ذلك صحيحاً،ولكن السكارى عادةً ما يقذفون الحكومات بالسباب والشتائم،لأن الكحول حرّ ومضادّ للقيود وللصمت.ذاك  ما كان يحدث في الخمارات التي كنت أرتادها بالضبط.

■ كنت تفعل ذلك من خلال انفعالاتك،فتأتي الشرطة وتجمعك من الخمارات.أليس كذلك؟

_ الحقيقة تكمن في الليل.فما أن يهبط على البلاد،وأبدأ بالشرب متفاعلاً معه إلى درجة تحطيم الأشياء،حتى تأتي الشرطة لإيقاف تلك الفوضى، فتأخذني إلى المبيت في قسم الشرطة حتى الصحو والخروج من هناك في اليوم التالي.

و إليكم ما قاله عني الشاعر خوداسيفيتش: “فيما يتعلق بالشاعر يسينين فلقد صدر مرسوم من وزارة الداخلية تم نشره على جميع أقسام الشرطة عام 1924 والذي ينص على اعتقاله في حال الضرورة وإيصاله إلى القسم ريثما يصحو ومن ثم الإفراج عنه وعدم كتابة أي بلاغ بحقه”.

■ بأية صورةٍ من صورك تحبذ أن يجري صحفي ما حواراً معك؟

_ ذلك ما يترتب على تروتسكي أن يقوم به.

■ وما علاقة مفكر وقائد سياسي بوضعك كثمل على رصيف العالم؟!

_ كنا قطعاناً من السكارى شعرياً،بمواجهة قطعان من السكارى إيديولوجياً.نحن نتأمل العالم ونصرخ بوجه الظلام،فيما كانوا هم،يحرثون في اللحوم بالمقولات وبالفلسفة المرّة التي عادةً ما تنتهي بجثامينهم  داخل السجون أو بمستشفيات الأمراض العقلية أو بالمقابر.

■ كيف كانت نظرتك للزعيم لينين.هل كنت تعتبرهُ أباً روحياً للعقل،أم سياسي لا يعترف إلا بساسة قضم الآخر وتسريحه من صفحات التاريخ الروسي؟

_ بما أنني آتٍ من الشعر،فلم أر في لينين إلا سبورة من الانفعالات التي تجسدها السياسة بطابع أدبي محض.الزعيم المثقف لا يبث الذعر في نفوس الآخرين،وذلك ما فعله لينين بالضبط.

■ ألهذا المزاج المتسق مع لينين،توسعتَ بالمدائح لثورة البلاشفة؟

_ لم أكن متحمساً في البدء.فالحرب العالمية الأولى،وضعتْ الكثير من لحمي في مقلاة ساخنة الزيت.لذلك،وعندما وجدت نفسي مطبوخةً بالقلي،آثرت على نفسي آنذاك أن لا أسقط في حضن الثورة البلشفية على رأسي فوراً.ربما لأن ذاكرتي كانت تحتفظ بصور قتل السلالة القيصرية دون محاكمات عادلة.

■ ولكنك لم تعطِ للموت وزناً في حياتك.كنت وإياه مثل نواة في تمرة؟

_ لا أعرف لمَ كانت عندي فكرة تبجيل الموت أقوى من احترام الحياة؟ربما لأن المهم من وراء كل ذلك كلهُ،يتعلق بفكرة نشوء سلطةٍ تقيمُ التوازن ما بين الحياة والموت.وهو ما يتمتع به الخمر وحده،ليتأبط ذلك العرش ولا يجلس على كرسيّهِ.

■ قرأنا عن تاريخك ما هو أفظع يا سيرغي. فثمة من يقول:

 ((كان يسينين على علاقة جيدة مع عدد من ضباط الأمن حتى أنه كان يحب أن يصطحب معه في حفلاته ضابط الأمن المشهور يعقوب بلومكين الذي اغتال صيف عام 1918 السفير الألماني. وبحسب قول رفيق دربه خوداسيفيتش كان يسينين يتباهى بقدرته على اصطحاب أصدقائه لمشاهدة عمليات إعدام أفراد المعارضة من قبل عناصر الأمن وذلك بفضل صديقه بلومكين، حيث كان يصرح وبكل جدية: “بإمكاني أن أهيئ لكم ذلك في دقيقة واحدة عن طريق صديقي بلومكين )). ما ردّك؟

_ صحيح.كنت مشحوناً بتلك الطاقات التي تجعل الموت ملتصقاُ بي بمختلف صوره.أردتُ التعرفَ على نظرية طيران الأرواح بعد موت الأجساد.

■ وكيف كانت النتائج يا سيرغي؟

_ كانت النتائج مخيبة لكل ما في نفسي من آمال.فلم أرَ أرواحاً تطايرُ نحو السموات،ولم أعثر على أجساد بعد أن أصبحت اللحوم والمدافن من ممتلكات الحزب.

■ ولذلك أردتَ أن تغادرَ الأرضَ سريعاً،فحاولت الانتحار مرةً تحت عجلات قطار،ومرةً برمي نفسك في خزانات الوقود، ومرةً ثالثة بقطع أوردتك.هل كانت الحياة حقاً، تشكلُ على نفسك عبئاً ثقيلاً إلى تلك الدرجة؟؟

_ أجل. فالانتحارُ هو الآخرُ لغة من لغات الشعر المؤجلة على الدوام.

■ عن الموت انتحاراً قلت: “أنا سعيد جداً هنا…ولكن ما يقلقني هو تلك الإضاءة الزرقاء المشتعلة ليل نهار… وعدم السماح بإغلاق الباب، الكلّ يخاف من أن ينتحر”.أنت كتب هذا لصديقك مارينغوف. أليس كذلك؟

_ ذلك ما كان قد حصل في أثناء وجودي تحت العلاج من الإدمان بأحد مشافي موسكو.ولكن الأمر لم يتحقق بانتصار الطب،لأنني اخترتُ العلاج بالموت.وهكذا مضيتُ معلقاً على أنبوب عامودي للتدفئة في غرفة فندق.

■ ولكن بعض القوى وجهت اتهاماً للشرطة السرية باغتيالك؟

_ أنا ربطتُ حزام حقيبتي القديمة بعنقي ورحلت معذباً حتى في لحظات الموت الذي لم يكن سريعاً.وأختم على المعلومات التي قالت: (( ووفقاً لنتائج التحقيق فإن الأخاديد التي وجدت على جبين الشاعر تشكلت نتيجة التصاق الأنبوب “المليء بالبخار الساخن” بجبينه لمدة طويلة…ولهذا بقيت التجاعيد حتى تم دفن يسينين. في حين أن البقعة القاتمة التي تشكلت على الجفن العلوي لم تكن أثراً لرصاصة ولكن بسبب جفاف طبقة الجلد العلوية التي تشكلت عند التصاق الوجه مع الأنبوب الأسطواني. الشيء الرئيسي في هذه الحالة هو تضيق أوعية العنق وهذا يؤدي إلى ضغط كبير داخل الجمجمة بحيث يفقد الإنسان على الفور توازنه. يغامر البعض مزاحاً من أجل تخويف أقاربهم ويتظاهرون بأنهم يريدون الانتحار شنقاً، وبالفعل ينتقلون هؤلاء فجأة إلى العالم الآخر في لمح البصر. ويبدو أن يسينين حاول بشكل غريزي الحفاظ على حياته عندما بدأ يتعذب ماسكاً بيده اليمنى أنبوب التدفئة المركزية والتي بقيت على وضعها هذه بعد أن فارق الحياة، وقد كتب الفيلسوف الروسي البارز نيكولاي بيرديايف بمناسبة وفاة الشاعر الروسي الكبير قائلاً: “يمكن أن ينتحر الإنسان لأسباب مميزة في رغبة منه لمغادرة الحياة بشكل جميل، وأن يموت الإنسان وهو شاب فهذا مدعاة للتعاطف. وهذا ما حدث لدى انتحار يسينين ذلك الشاعر الروسي الأكثر شهرة بعد الشاعر بلوك والذي أدى موته إلى تعظيم شخصيته وتبجيلها.

وقد كتب أناتولي مارينغوف في مذكراته بأنه تم تمجيد يسينين في اليوم التالي من وفاته.))

■ قبل الموت،حملت قصائدك هديراً حادّاً بأناشيد الحياة وهمومها.فمن أية مناجم كنت تستخرج تلك الكلمات؟

_ لم أكتب من حبر الظاهر أبداً.فكلّ كلماتي كانت تأتي من الباطن العميق ومن الطبيعة الروسية.أقصد من مناجمي الداخلية التي تمتزج بمختلف المعادن.

■ ولكنك عملت جزاراً في بيع اللحوم.وبائعاً للكتب. ألمْ تؤثر تلك المهنتان على شعرك مثلاً؟

_ بالتأكيد نعم.فقد جعلتني مهنة تقطيع اللحوم جزاراً يعمل على تشريح نفسه بشكل يومي،حتى كنت أتقمص صورة ذئب تسيلُ من فمه الدماء،وهو يهرول في شوارع  “سانت بطرسبورغ”.فيما لم تخلصني مهنة بيع الكتب من ذلك الذئب الذي تلبسنّي.

■ هل كنت ذئباً شعرياً طائشاً؟

_ ربما.ولكنني لم أكل من الكلمات إلا العِظام.

■ ولماذا فعلت ذلك؟

_ كي أجرح حنجرتي بالعِظام،كي لا تتوقف عن الصراخ المؤلم بوجه الجوع والحروب والطغيان الأعمى الذي كان يستشري في دولة السوفيت بعد التحولات العظمى التي جرت هناك.

■ هل من أجل ذلك قال عنك الشاعر يفيتو شينكو: (( ليس هناك شاعراً آخر خرجت قصائده من حفيف أشجار البتولا، من النقر الخفيف لقطرات المطر على سطوح القش لأكواخ الفلاحين، من صهيل الخيول في السهوب المغطاة بالضباب عند الصباح، من تأرجح الأقاحي، ومن الأغاني عند سياج القرية. تبدو أشعاره كما لو أنها لم تكتب بالقلم، بل وكأنها خرجت من تنفس الطبيعة الروسية ذاتها.))؟

_ لقد نصحني الشاعر الكسندر بلوك بالاطمئنان على شعري وعدم السباحة في مدائح الآخرين.لذا كنت ملتزماً بتلك النصائح،وحتى ما بعد القبر.

■ هل دخلت قبراً وعشت فيه؟

_ لا.المنتحرون لا يدخلون القبور،بل يحلقون عالياً بالروح وباللحم أيضاً.

■ متى تصبح القصيدة قبراً برأي سيرغي؟

_ عندما لا تتشرفُ آلهةُ السموات باستقبال روح الشاعر المغادر إليها منتحراً استقبال الأباطرة.

■ أتظن أن الله لا يستقبل إلا الشعراء المنتحرين؟!

_ يستقبلهم،ولكن بعد معاملات طويلة معقدة ومكثفة.أتعرفُ لماذا؟

لأن الشعراء زمرٌ،منها ما يتعلق بالأرض كما الجرذان في الكهوف.ومنها من يطير حتى وهو داخل قبره،فيرفع عن جسده الشاهدة ويحلق.أجل.فالله محبٌ للشاعر الذي يصل إليه بالأنسجة المزدحمة بالجنون والثمالة والخطايا والجراح  الذي تحدثه المعارك التي تبقيه موصولاً بالأبد.

■ وكيف يستطيعُ سيرغي العيش في الأبد،وهو ملولٌ لم يحتمل وجوده على الأرض إلا قليلا؟!!

_ ما زال الوقت مبكراً على مكافحة تلك الفكرة.حتى الآن لم أصب بأذى إلهي.فكلّ من حولي يبتسمون لرباطة جأشي في هذه الديار.

■ وما زلتَ تكتب الشعر،أم ابتعدت عنه دون اكتراث؟

_ عادةً ما أسترخي  على إحدى المصاطب الأسفنجية في حديقة الحيوانات الآدمية،وأكتب بعض الشعر هناك.

■ ماذا تقصدُ بحديقة الحيوانات الآدمية يا سيرغي؟!

_ هي حديقة خاصة بفئات جرميه من البشر،ممن يتم تحويلهم إلى حيوانات للفرجة،انتقاماً لما اقترفوه من فساد واغتصاب على الأرض.

   ■هل هم من الرجال أم من النساء فقط؟

_ لا فضل لرجل على امرأة في تلك الحديقة إلا بالنكاح.

■ تعني أن لا انقطاع للنسل في جنائن الإشباع.الكلّ يتحمّسُ للحبل وينجبُ؟

_ لا يظنن أحدٌ بان لا وجود لآمالٍ أو لأحلامٍ في التاريخ الإلهي. أو يعتقد بأن الآخرة مقررات وقرارات واجبة التنفيذ على الخط الفاصل ما بين النار ونقيضها وحسب.كل شئ موجود في الفراديس.أطباء مختصون بالأمراض النفسية ولهم الحق بالتحليل النفساني.عشاقٌ انتهت صلاحية قلوبهم بالحب،وما زالوا يتصدرون المشهد في مسرحية روميو وجوليت. وهاربون وهاربات من السرير الزوجي إلى أول محطة بنزين.أنا أقلُّ تأزماً مما كنت عليه في روسيا.

■ هل اجتمعت بالمدام (( ايزدورا دونكان )) في أحد الأمكنة هنا؟

_ ما فاتَ مات.

■ كيف؟وثمة من يعتبر انتحارك كان بسببها؟

_ربما كنتُ متوهماً في تفسير تلك العلاقة الزوجية التي أوقعتني بفخ سياسي غير واضح،وذلك عندما بدأت أشعرُ بأن تلك المرأةُ،لم تمنحني سوى جسدها بتناغم تكتيكي،فيما أبقت روحها، وبالشكل الاستراتيجي لصالح هويتها الأمريكية.

■ أحدهم كتب تعقيباً على شعرك في مراحل وجودك الأخيرة على الأرض قائلاً:

((لا يحضرنا في هذه اللحظة اسم لشاعر أو كاتب روسي أو غربي عاش تجربة الموت وسك مفرداته من صلبها مثلما فعل يسينين في قصيدة الرجل الأسود. لا نعني (حتما) كتابات النفسانيين وتوصيفاتهم أو رؤاهم عن الهوس والخبال النفسي الذي قد يغرز مخالبه على فنان ما أو أي شخص يوسوس من لقاء الموت، فأن تصف الحالة شيء يختلف جذريا عن الكتابة وأنت مكتو بنارها. وبالنسبة لكتاب كغوغول وكافكا ولوتريامون (مثالا وليس حصرا بطبيعة الحال) استحوذت فكرة الموت على جانب من تفكيرهم وطبعت كتاباتهم (مثلما هو الحال لدى لوتريامون في كتابه أناشيد مالدورور حيث الموت يعوي في جسد الحياة وحيث تتشكل أشباحه العارية منها) أو أنها توارت (فكرة الموت) في مناخ الكتابة واكتسبت رؤية أو موقفا أدبيا ضمن مصهر إبداعهم، وهم بذلك، وبالمقارنة مع حالة يسينين (في قصيدة الرجل الأسود) ليسوا غرباء عن الفكرة وكان دأبهم معها دأب الصانع الصبور الذي يمزج عرق الوهج بتراب مخلوقاته.
قد يصح أن نجد في مرثية مالك بن الريب نسيبا لقصيدة يسينين!… فكلا الشاعرين مريض: الأول بجراحه النازف المحسوس والثاني بعلة في الروح، وكلا القصيدتين تثورهما “نستولجيا” إلى الحياة الآفلة المنقطعة. )) فما الذي يمكنك قوله تعليقاً على مثل هذه الآراء؟

_ أنا لم أنتقم لنفسي من أشياء كثيرة أوقعتني في مصائبها.إلا أن الطبيعة والخمور والنساء موضوعات،سرعان ما قامت بتسريع مشروع موتي الذي قمتُ بتنفيذه تخلصاً من الحياة. 

■ ولكنك ذهبتَ سريعاً،حتى دون أن تصنع لنفسك ذكريات؟

_ ومنْ قال بأنني مغرمٌ بالانتماء للأرشيف؟!

■ وصفكَ بوريس باسترناك  عندما قال: ((سيرغي يسينين بقوله عنه:- لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر محلية و أكثر عفوية،مَن هو أكثر وطنية و أفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينين)) ألا تدرك أهم ذلك برأيك الشخصي؟

_ لم يكن بوريس باسترناك جاداً بذلك التصريح،أولاً لأنه كان يجلسُ داخل جسد غير جسدي،وثانياً لأن باسترناك أراد من وراء ذلك التفضيل بمدحي،إزعاج الشاعر الكسندر بلوك ومن كان يقع ضمن دائرته.

■ولماذا لا تعتقد بأن عظمة الآلام التي طغت على حياتك وشعرك،كانت سبباً بتعظيمك شعرياً،خاصة بعد التدهور الذي كان يرافق صحة بدنك من وراء مختلف الأفكار السوداء التي كانت تتنازع روحك بعد أن هجرتك زوجتك الأولى (( ايزدورا دونكان )) التي اختطفت طفليك بعد الانفصال؟

_ لم أكن أدرك آنذاك حقيقة الانفصال عن دونكان والطفلين على الرغم من زواجي الثاني بحفيدة تولستوي.لكن الموت كان يقوم بتدريبي على الانتحار خطوةً خطوة،لذلك وقبل يومين من رحيلي، ذهبت بطرسبرغ لزيارة زوجتي الأولى لتوديع أطفالي وعناقهم العناق الأخير، بعدها لأقفل باب الدنيا وأرحل دون اكتراث،تاركاً أحزاني في جيوب ثيابي.

■ مع رسالة الوداع التي كتبتها بالدم للشاعر لفلاديمير ماياكوفسكي:

إلى اللقاء يا صديقي،إلى اللقاء
أنتَ في القلبِ مني
إن فراقنا المقدّر
يعدُ بلقاءٍ قادم
وداعاً يا صديقي، دونَ يَدٍ،أو كلمة.
ولا تحزن، ولا تقطّب حاجبيك
فليسَ جديداً في هذهِ الحياةِ أن نموت،
وليسَ جديداً بالتأكيد أن نعيش.؟!!

_ أجل.فأنا رسمت للشاعر ماياكوفسكي بتلك الرسالة خريطة طريق للموت.

■ هل أحسست بأن فلاديمير ماياكوفسكي كان محتاجاً لدليل أو لمن يؤمّن له الطريق نحو الموت؟

_ بالضبط.وهو ما فعله فيما بعد تكاثر المخيبات بالنظام الاشتراكي، فانتحر.

■ بعد وصولك السموات،هل تعتبر بأن الحياة التي مررت بمجراها على الرغم من قصره زمنياً،كانت بالنسبة لكَ ليس غير سكة حديد ضيقة وقصيرة؟

_ وأكثر من ذلك بكثير.فقد كنتُ أشعرُ بأنني شبكة أنفاق معتمة،وكلّ صوت يسكنها،كان من الحجر.

■ هل بتَ مرشحاً لمنصب ما هنا؟

_ هذه السموات تجعل من الشعراء رياضيين من صنف لاعبي الجُمباز.لذا،فلا طموح عندي لاستلام وظيفة.أريدُ تقويّة جسمي،ليستعيدّ ثروته من الغناء والحب والطبيعة  الروسية ليس إلا.

■ أهذا هو كلّ طموحك الذي أستعجلك للانتحار؟

_ وما علاقة هذا بذلك؟ أنا انتحرتُ لتصفية كمية الظلام التي كانت تستولي على أعماقي في سابق ذلك الزمان.

■ ولكن ثمة عقوبات سماوية على المنتحرين؟

_ لستُ مسلماً لتتم محاكمتي وفقاً للشريعة أصولاً.وثانياً،لا وجود لمنفذ حُكم الإعدام مثل القاتل الأرضي الشهير عربياً ((عَشماوي)) هنا.

■ هل تناكحت مع حور العين؟

_ولماذا علىّ أن أفعل شيئاً من هذا القبيل هنا،وأنا لم أرَ  أجمل من الروسيات نساءات تحت وفوق؟

■ كأنك تريدُ مدح البلاشفة البروليتاريا،مثلك مثل رؤساء البلديات،ممن لا يكفون عن تبجيل ((كومونة موسكو)) حتى في دار الآخرة؟

_ لعلمك يا أسعد الجبوري.فللحزب الشيوعي فروعٌ في الجنة وفي النار.

■ كيف يعني هنا وهناك؟

_ ما أقصدهُ،هو أن الرئيس فلاديمير بوتين قد قام بإحياء المشروع الشيوعي بعيداً عن الديانات وقصص الإلحاد التي سبق وإن تحدث عنها ماركس بجملته الشهيرة ((الدين أفيون الشعوب)) والتي استبدلها بجملة جديدة تعني (( روسيا أمُ الشعوب)).

■تعني أن الشيوعية ما عادت ((مانيكان)) للبروليتاريا الرّثة؟!!

_ بالضبط. فقد خرجت من متحف الحرب الباردة للأزياء القديمة،لتشعلَ على الأرض ملايين من مصابيح السيد ديوجين.

 

مقالات من نفس القسم