حوار مع الشاعر الفرنسي لويس أراغون

الشاعر الفرنسي لويس أراغون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

ما أن وصلنا إلى المكان المتفق عليه لإجراء هذا الحوار،حتى رأينا غيمةً تشقُ نافذة الصالون،وتجلس أمامنا على ذلك الكرسي الفارغ.

لم يُحدث نزول تلك الغيمة اهتزازاً بالأشياء التي كانت موضوعة على سطح الطالة من كؤوس وزجاجات وأطباق وشوكات وملاعق وسكاكين وصحون. كلُّ شئ بقي بمكانه ما عدا زجاجات الشراب التي ترنحت بالثمالةِ قليلاً،ومن ثم استعادت هدوءها بعد ذلك على الفور.

دهشةٌ وذهولٌ وترقبٌ.كأن فيلماً سينمائياً قطعَ العينَ ليبثَ مشاهدَهُ بلا توطئة!

وما هي إلا لحظات حتى أخذت تلك الغيمة الحمراء بالتفكك شيئاً فشيئاً،لتكشف لنا بعد ذلك عن شخصية الشاعر الفرنسي لويس أراغون.

وهكذا تراجعَ اضطرابُنا إلى أدنى مستوياته،بحيث لم يبق فينا مكان ٌ إلا للدهشة من تلك المشاهد الخيالية الممزوجة بالسحر والغرابة والخيال المؤسس لشعرية ملبدة بالمعاني والتواريخ.

ضحك أراغون وهو يمدُ لنا يدهُ للمصافحةِ قائلاً:

أرجو أن تكونوا قد جلبتم لي رطلاً من تراب تلك الأرض القديمة.

وقبل أن يسمع منا ردّاً،تقدمت من طاولتنا الشاعرة بيننا الشاعرة المصرية جويس منصور  وهي ترتدي قميصاَ أزرق بلا أزرار،وهي تحمل كأس شمبانيا.فجلست وهي تقول:لقد استلمت برقيةً عاجلة تخبرني بضرورة أن أكون هنا.فهذا الحوار لا يفوت.آنذاك قمنا بالترحيب بها.وقبل الآخذ والرد،طرحنا السؤال على الشاعر لويس أراغون قائلين: 

س:هل يصحُ القول أن الشعرَ ولدَ منذ تشكّل الأرض يا سيد أراغون؟

ج/هذا هو المنطق بعينه.فقد كان الشعرُ من أعظم المعادن المشعة التي هيأت لولادة البشر.

س:قبل ولادة البشر.كيف؟ ومن كان يكتب الشعر على تلك الأرض برأيك؟

ج/هناك ملايين من الكائنات الحيّة التي سبق لها وإن سكنت الأرض قبل الشعوب الآدمية.وهي التي كتبت الشعر آنذاك،وأنتجتْ المزيد من الأرواح الفنية التي سرعان ما اندمجت لينخلق منها الشعراء بهيئاتهم الرومانسية الأولى الخالية من الشجون والآلام والدراماتيكية المؤلمة.

س:وما حاجة الأرض للشعر؟

ج/لأن الشعرَ أنيسُ الذئب قبل ليلى.ولأنه حلقةُ البرق البدائية التي استعجلت التوصل إلى لغة مشتركة ما بين التربة والماء.

س: لا يبدو هذا التصور الفانتازي مقنعاً يا سيد أراغون !

ج/ليس بالضرورة أن يكون الشعر مُقنعاً،بقدر ما يحاول تأسيس حالة نافرة للمنطق المحمول على أكتاف الوقائع.الشاعرُ في كل الأحوال شيطانٌ تجريبي،فهو صاحب التنظير لقيام جماليات جديدة.أي أن مهمته لم تكن محصورةً بالانتماء إلى معتقلات المنطقٍ،وإنما المضي بمجرى ثقافة عدم الالتزام بالقواعد الثابتة،ذلك أن مشاريع التجريب هي من اختصاص رعاة التجليات السحريّة المفتوحة.

س: في البدء كان الشعرُ أنثى.هل تنسجم مع فكرة من هذا القبيل سيد أراغون؟

ج/أجل. أنا مع هذه التصوّر الجهنمي.فأنا أعتقد بأن الشعرَ  ولدّ أنثوياً من ضلع امرأة ساحرة،ومن ثم تم جرى تحويله جنسياً،ليكون من فصيلة الذكور بالضغط  والقهر والهراء المتعلق بضرورة الحفاظ على شرف المرأة.جرى ذلك قديماً،عندما مُنع الشعر  من الدخول إلى غرف النوم والمشاركة بتفاصيل الغرام وعمليات التبادل الجنسي والبوح  الباطني العميق.

 

س:وأنت سيد أراغون،في أي مكان ولدتَ على تلك الأرض؟

ج/أتذكرُ أنني ولدتُ على خط الاستواء.

س:وأين كان ذلك الخط من فرنسا؟

ج/ في طاحونة الشعر السوريالي بالضبط.

س:وما علاقة الطواحين بالشعر الفرنسي على سبيل المثال؟!!

ج/أجزم أن السوريالية لم تكن مدرسة أو حركة فنية أو أدبية،بقدر ما كانت جائحة لوباء شعري أو بلدوزر لتنظيف الرؤوس الشعرية من المخلفات والكهوف والأنقاض والسموم بمنطق منفلت.

كانت السوريالية وحدها،قادرة على سحب خط الاستواء من مكانه الوهمي على خريطة العالم،والمجئ به إلى الحانة أو المرسم أو الشارع أو السرير أو فستان إلزا الموشى بذهب الشهوات.

س: هل كنت مَرحاً مغموراً بالسعادة، لأنك خرجتَ من الرحمِ الأوروبي الباردِ المظلم إلى الخط الطبيعي المعتدل افتراضياً،فمارستَ ألعابكَ السحرية على ذلك الخط الاستوائي؟

ج/ لا وجود لعمل سحري في التأليف الشعري خارج عالم أرواح ترفض المثول لتلك اللغات التي تفضلُ المكوث في الملاجئ المليئة بالغيوم وبالغبار وبالأسلحة وبالطلل الشعرية.

س:هل كنت ممن يحتقرون الفوضى في الشعر؟

ج/لا أظن ذلك صحيحاً.لأن فوضى الأدمغة هي الحبر الأصلي الذي تتمتع به الكتابةُ بالتأكيد.

س:والحب.أين كان موقعهُ في جسد أراغون،في دولاب الهوى المتطاير مع الريح، أم على سكك الحديد؟

ج/كان الأرحم بالنسبة لي هو الخيار الثاني_سكك الحديد_ حيث كنت جسداً ممدداً تحت قطار اسمهُ إلزا.

س:لمَ هذا الشعور بالانسحاق العلني لامرأةٍ تُسمى إلزا.؟

ج/لم يكن ذلك انسحاقاً أبداً،بقدر ما كان تلاحماً ما بين شهوتين في بوتقة انصهارٍ اللامألوف غرامياً.

س:أليس في ذلك مبالغة في أشغال كاميرات التصوير العاطفية؟

ج/كنت أنا وإلزا بمثابة فيلم سينمائي يحترقُ شغفاً مرةً،ويتطاير سباحةً على سقف البحر.ولكنه في كل الأحوال شريطٌ سينماتيكي يمنح الناظر التدقيق بمرحلة من التاريخ الإنساني للغرام الجميل. 

س:ما الأكثر تأثيراً وأثراً على عقل الشاعرِ، الحبُ أم الشعر؟

ج/ الحبُ بالتأكيد.

س:هل لأنه يشبه الأفيون برأي لويس أراغون؟

ج/الحب الذي عشته على الأرض،كان استثنائياً بكل تجلياته.كان موجاً صاخباً،مثلما كان تراباً تنمو فيه مختلف الزهور.

س:هل لأنه كان حباً تلفيقياً تحت حساب المصلحة،مثلما يتقول البعض عن علاقتك بالمرأة (إلزا تريوليه)؟

ج/لم تكن إلزا امرأة فقط،بقدر ما تكرس في عقلها التاريخُ تأليفاً ونضالاً وترويجاً للموضوعات الكبرى في الحرية والجمال.فهي كاتبة من أصل روسي قريبة من نسل عائلة الشاعر مايكوفسكي، وهي أول امرأة حائزة جائزة “غونكور” الأدبية الرفيعة من فرنسا عام 1945.بعبارة أدق،كانت إلزا ثلاثة أرباع نتاجي الشعري.

س:منْ أدخل نفسه في الآخر بقوة،الشيوعية أم الغرام؟

ج/الشيوعية أولاً.

س:هل ينطبق هذا الدافع بفشل تجربتك العاطفية مع عشيقتك الأمريكية (( نانسي كونار)) أيضاً؟!

ج/لا أظن ذلك،علماً أن غبار الإيديولوجيات غالباً ما تؤثر على حركة نبض القلوب وعلى أغطية الأسرة ومناسيب الشهوات في الأجساد.وذلك ما كان قد حدث بشكل من الأشكال.

س:تقصد أن لقائك بألزا تم صدفة في مقهى ((بستان الليلك )) الباريسي بترتيب من القدر؟

ج/ذلك ما تم بالفعل.إذ سرعان ما تم التهامي من تلك المرأة التي كانت تجلس في ذلك المقهى الشهير برواده من الشعراء والفلاسفة والأدباء والفنانين.

س:هل يصح القول بأن أراغون اكتشف العرب من خلال اكتشافه غرناطة والأندلس؟

ج/ذلك صحيح.ومن ذلك السجل التاريخي الضخم،استطعت التوغل في التراب الممتزج بالحنين والعشق والثقافة،بحثاً عن درّة الجنون الذي استكملته في إلزا.

س:هل تعتبر المرأة إلزا لوحة من الفن التشكيلي الذي طالما استغرقت بحبك له كشفاً ونقداً وتبجيلاً بلا حدود

ج/عندما فتحنا الصندوق الأسود للمخيّلة الجبارة،استطعنا توريط العين بمختلف المخلوقات التكعيبية والدادائية والسوريالية وصولاً إلى الواقعية الاشتراكية.كنت أقود قطعان ذئاب لغزو متاحف العالم،وذلك لغاية نصرة المخ الباطني للفن،وإظهاره للوجود.

س:هل الواقعية الاشتراكية هي من قادتك للاتحاد السوفيتي في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين ومدح الزعيم ستالين.حيث كنت ((غاضّا الطرف عن ملاحقة هذا الأخير للمثقفين والمعارضين، وعن قتله للكثيرين منهم، أو إرسالهم إلى معسكرات سيبيريا الرهيبة. ))؟ 

ج/لم يكن للدبابات قدرة إيقاف ستالين عما كان يفعله في روسيا آنذاك،فكيف لي بأن أتولى مهنة الطبيب القادرعلى انتزاع عقل ستالين من جمجمته الحديدية،داخل تلك المشرحة العظمى التي كانت تُسمى بالاتحاد السوفيتي؟!

س:هل يعود ذلك إلى أنكَ عشتَ طفولةً قلقةً بعد انفصال والدين عن بعضهما يوم كنت رضيعاً؟

ج/ لا.لم أعر لتلك المرحلة أدنى اهتمام.فلقد عشتُ بين عشاق أمي الجميلة سنوات طويلة منتشياً،دون أن أمر بمراحل من الخوف الداخلي.

س:وما العوامل التي دفعت بأرغون ليصبح مستقراً فيما بعد. الشعرُ أم النساء أم بخار الماركسية؟

ج/أنت لو جمعت الثلاثة في بوتقة،لخرجتَ بنتيجة واحدة،أن الشعر بخارٌ نسوي،مثلما الماركسية بخارٌ طبقي.إلا إن الأبخرة الثلاثة تنتمي إلى فكرة النكاح والإنجاب. 

س:كيف؟هل لكَ أن توضح لنا تلك النظرية العجائبية يا أراغون؟

ج/سأقول شيئاً مهماً. فمثلما لا يوجد شعرٌ صافٍ في كل اللغات،لا توجد نساءٌ صافيات مُصفيات من الأبخرة السّامة.كذلك هي  الماركسية – اللينينية غير خالية من البروليتاريا الرثة. لذلك فالثلاث بحاجة لنقلة نوعية من كهوف الماضي القديم،وتجديد الأذهان بمعاهدات،تستطيعُ تقديم مبادئ اللذّة على مضخات الإيديولوجية التي تكفلت بصناعة الأفكار المقدسة.

س:لماذا يجب أن يحدث مثل هذا برأيك؟

ج/لأن حركة الأيديولوجيات في العالم راهناً،باتت شبيهة بحركات الأصابع في المهمات الخاصة بأعمال العادة السريّة بعد انسداد آفاق التخصيب الحيوي للخلق.

س: يكتب الناقد فيليب فورست قائلاً: ((إن إلزا تريوليه لم تكن هي التي دعت أراغون إلى الشيوعية كما زعم الكثيرون من أصدقائه ومن أعدائه الكثيرين.فقد كانت إلزا تظهر نفورها من البلاشفة، ومن الستالينية. لذا كانت هي أول من دعا الفرنسيين إلى اكتشاف سولجنستين. مع ذلك لم تكن تخفي إعجابها بغوركي وبماياكوفسكي.)) ما مدى صحة ذلك؟

ج/قد يكون ذلك صحيحاً،لأنني عشتُ الماركسيةَ بطريقة خاصة.حاولتُ التعامل معها لا على أساس  كونها نظرية مُعقدّة، بقدر ما هي لوحة لاستيعاب جميع الألوان والأدوات،دون حصرها بالأحمر والمنجل والشاكوش.

س:كيف؟

ج/عندما قمتُ بدمج الدادائية والسوريالية بالشيوعية بالتكعيبة،لصياغةِ نمرٍ غير متوحش،يجلسُ على باب غابة الحواسّ، مراقباً مناسيبَ الشهواتِ في الأجساد العابرة أمام مرآة الأفق،منعاً للتصحر أو تكاثر الظلام.

س:هل كتب شعراً بعد الموت؟

ج/أجل.وكان شعراً بلا ملامح كما قيل لي في الباص الذي كان ينقلُ الركّاب من أسفل وادي البرد إلى متحف الفردوس الخاص بملكات الجمال.

س:عن أي متحف تتحدث يا أراغون؟

ج/عن المتحف الخاص بالجمال،حيث تجلسُ النساء الفائضات بالسحر والفتنة والإغراء على عروشهن وراء زجاج الفاترينات،وهنّ يستعرضن المارّة من الرجال الفرسان بأعين تقدحُ منها النيران.

س:هل ذهبتَ إلى ذلك المتحف برفقة إلزا،أم تسللت إلى هناك خلسةً بمفردك؟

ج/ عن أية إلزا تتحدثُ أنتَ !! لم تعد ذاكرتي تحتفظُ  بهذا الاسم.أنا لا أقيم وزناً للفراغ،بعدما تم تفريغي من محتوياتي القديمة تماماً.

س:لا تكترث للأمر.يبدو إن الأسلاف مصطلحٌ ترابي،وبات يخصُ أهل الأرض وحدهم.ولكن هل لك أن تخبرنا عن الحركات الشعرية الموجودة هنا.هل تعرف عليها؟

ج/لا توجد هنا غير برازخ تقود إلى الكون الشعري خارج السماء الرابعة.وقد قيل لي بأنني سأمتطي حيوان ((الزنكو)) ليأخذني إلى هناك،ولكن ليس قبل أن يفصل روحي عن جسدي.

س:تعني إنك ستترك جسدك في مكان،وترحل مع ذلك الحيوان السماوي بالروح فقط؟

ج/ اجل فالزمن في ذلك الكون الشعري،يقتصر على الأرواح بعيداً عن لحوم المخلوقات التي ستذهب للتدريب على اللغات السرية،وتنظيم خلاياها الميتافيزيقية بأدوات الشعر وشيفراته الهندسية الإلكترونية.

س:تقصد إنك لن تكتب شعراً قبل تنقيحك روحك وتحديثها؟

ج/تلك هي الحالة في السموات. فالشعرُ يخضع لدّيالكتيك العشق البنيوي للزمن هنا.

س:هل التقيت بأندريه بريتون وفكرتما بتأسيس سوريالية سماوية في مكان إقامتكما الجديدة؟

ج/لا.أبداً.ففي السماء كل شيء سوريالي.

مقالات من نفس القسم