حوار مع الشاعر المكسيكي أُكتافيو باث

أُكتافيو باث
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

لم نستخدم مُكَبّر الصَوت للمناداة عليه. ولم نبحث عنه في سجل ما من السجلات السماوية الإليكترونية.  فالاهتداء إليه، لم يكن صعباً.  ففي تلك الساعة التي دخلنا فيها منطقة ما يُسمى بطوابق النفس العليا، رأيناهُ منهمكاً في ورشة لتصليح العجلات الهوائية. حدث ذلك في أول مجرى الاتوستراد الواصل ما بين الغابات الفسفورية وبين موقع تمثال الحكمة المصنوع من السيراميك.

تطلعنا إليه، فضحكَ مقهقهاً وهو يشير إلى العجلات المصفوفة إلى جانبي الورشة كقطيع من الخراف المزينة بمختلف الأجراس والشرائط والأضواء.

فيما جلست على عتبة الورشة فتاة بضفائر سوداء طويلة، وهي تدخنُ الأركيلة متأملةً في الغيوم التي كانت تغطي أشجار الناروماسين، وهي أنواع من الأشجار التي لم تكن متوفرة على الأرض.  اقتربنا منه أكثر، صافحنا الشاعر المكسيكي أكتافيو باث  (1941-1998)

وقلنا له متسائلين 

■ أنت ولدت في حضن عائلة سياسية. والدك مارس المحاماة وكان مؤيداً لثورة (زاباتا) التي اندلعت في المكسيك سنة 1910كما تشير الوقائع.  فهل كانت طقوس السياسة رائقة بالنسبة لك؟

_ نعم. فبعد وفاة أبي تحت عجلات قطار في حادثة بليغة الأسى، سرعان ما وجدت تصاعداً حادّاً للجينات السياسية في دمي، وهو ما دفعني للانخراط بأغلب الأعمال السياسية التي تريد تخليص البلاد من براثن الاستعمار والفساد وتمييع الهوية.

■ وهل من أجل ذلك كرّستَ نضالك من خلال العمل الدبلوماسي؟

_ عندما اخترتُ العمل بالسلك الدبلوماسي عام 1945،  عينتُ سفيراً لبلادي في كل من فرنسا وسويسرا والهند واليابان، وحتى استقالتي عام 1968 احتجاجاً على قمع حكومة بلادي لمظاهرات الطلاب. يومها قلت وداعاً للعنف ولكرسيّ إله القمع.

■ ثمة من يعتقد بأنك تورطت بالحرب الأهلية الأسبانية من خلال موقفك المؤيد للجمهوريين، بدافع من الشاعر بابلو نيرودا. ما ردّك؟

_ قد يكون بابلو فعل ذلك دون قصد، وذلك عندما دعاني لزيارة إسبانيا عام 1936 بهدف حضور مؤتمر الأدباء بمدينة فالنسيا آنذاك.

■ يعني نيرودا فتح لك قبراً، لكنه لم يكتب شيئاً من الرثاء على تلك الشاهدة؟!

_ كان نيرودا عراباً لجميع الثورات في أمريكا اللاتينية وإسبانيا. شاعر يحب أن يزرع في أنفسنا جَلجَلة الأجراس بشكل مثير.

■ ألا يعتقد أوكتافيو باث بأن السياسي نقيض الشعري، وأن السياسة مسلخٌ لكلّ ما هو شعري من المخلوقات؟

_ أنا أعتقد بأن الشعر هواءٌ، وأن السياسة ظل لذلك الهواء. ولكن الاثنين يتحدان في ضرورة قطع أنفاس الديكتاتوريات القديمة منها والحديثة أيضاً.

■ هل بسبب رؤيتك المختلفة لستالين ولكاسترو  ولموت الحريات في نيكاراغوا،  قطع نيرودا علاقاته معك؟

_ ثمة شعراء يشبهون قناديل البحر، ما أن يغادروا حاضناتهم الأيديولوجية، حتى تجف فيهم الحياةُ،  وينتهون على الرمال جثثاً دون عزاء.

■ اسمع ماذا يقول البعض عنك:

 ((مع أن معنى اسمه باث _ Paz باللغة الإسبانية السلام،  إلا أن المؤرخ المكسيكي الكبير إنريكي كراوث وصفه أثناء حفلة تكريمه التي أقيمت في الذكرى العاشرة على وفاته: «لم يكن رجل سلام،  لكنه رجل حرب،  حرب جيدة،  حرب فكرية نبيلة يشنها نتيجة غضبه وانفعاله،  غضبه من خداع الأيديولوجيات،  التشويش،  التعصب،  الإيمان السيئ وخصوصاً غضبه من الكذب.  أما انفعاله فهو للحرية،  للأدب،  للوضوح،  للنقد،  للعقل،  وخصوصاً للحقيقة. ))    ما وقع ذلك عليك؟

_ عندما يمتزج لحمُكَ بتراب المكسيك، ستدركُ كيف ستكون حركة الدم في عروق جسدك. فقد تصل حركتها إلى زلزال على واحدة من درجات المعلم ريختر.

■ أذا كنتَ متذوقاً بارعاً لطعم الألم المكسيكي. فأية نكهة تكمنُ في ذلك الألم؟

_ البارود.

■  هل سبق لك وأن تعرفتَ على أصوات الكلمات؟

_ ليس بشكل تام. فهناك كلمات لا تمنحكَ فرصةً للاستمتاع بأصواتها، خوفاً من أن تَفسدَ ملابسها. فالأصوات بالنسبة للكلمات، هي ثياب حافظة لعطورها. وبالتالي، فثمة نزوع اقتصادي يخصُّ توزيع الروائح، مثلما هناك اهتمامٌ بمكافحة التلوث اللغوي.

■ وهل تظنُ بأن الشعرية تعتمدُ على تناغم تلك الأصوات داخل الشاعر؟

_ ليس بالضرورة أن نجد معادلاً موضوعياً للربط ما بين الاثنين. لأن الجنون الحيويّ الشعري،  هو الأقوى تناغماً من الشعرية الماورائية للغة تماماً.

■ ذكرت الأكاديمية السويدية: (( أن أكتافيو باث فاز بجائزة نوبل لا لعمل معين من أعماله الأدبية،  ولكن تكريماً لمجمل كتاباته الشعرية والنثرية المتقدة بالعاطفة،  والتي تتسم بآفاق ثقافية واسعة وتتميز بذكاء وطاقة إنسانية وقّادة. )) إلى أي مدى كان ذلك التقييم صالحاً، ويتطابق مع ما كتبته أنت؟

_ لقد أدى كلّ مُمَثّلٍ دَورهُ بامتياز. أنا صنعتُ من عجينة الألم لغة بملح العاطفة المكثف، والأكاديمية تذوقت، وطاب لها الطعم.

■ وهل ينطبق هذا على جائزة ثيربانتس – التي منحت لكَ عام 1981. وجائزة ت.  س.  إليوت الأمريكية التي حصلت عليها عام 1987؟

_ لا أعتقد بأنني فكرت يوماً بامتلاك هذه الجائزة أو تلك.  تركتُ رأسي صندوق بريد للعواصف والتفاعل الحضاري ما بين براكين ثقافات الوجود، وليس منضدة للجلوس وتعبئة استمارات الجوائز.

بعبارة أدق:كنت حصاناً لا أنتظر فَوّزُه في سباق. الشعر ملعبٌ في اللغة، وقد يكون حربياً، ولكنه ليس مسرحاً للسيرك.

■ ثمة من يرى خيوطاً صوفية داخل المباني الشعرية التي تؤلفها. ما رأي باث؟

_ أنا أكتب على سطر من نار، أترك السطر الآخر لجماعات الفردوس. هذا العمل، وحده قادر على ضمان رؤية لحظة الجوهر الوجودي الصامت. وذلك هو الاحتكاك المُوَلدُ للطاقة الباطنية التي تربط الشاعر بالعوالم الميتافيزيقية.

■ هل شعرت يوماً بأن نصّاً ما من نصوصّكِ، أصبح مَيتماً لمخلوقات لغويّة ما؟

_ العزلة التي تحدثتُ عنها مطولاً، هي بنظري من الأمكنة التي يتسامى فيها الجسد ممزوجاً برائحة اللغة وتجليات ترابها صاحب التأثر الأعظم بما تنتجه المخيّلة من تصاوير مشتركة تجمع ما بين أفعال الصقور والملائكة. ومع ذلك فأنا أعتقد بوجود مثل دور الأيتام تلك، لأن في الشعر الكثير من المخلوقات التي تنال منها الشيخوخة، فتحال للتقاعد مترنحةً ما بين الحياة والموت.

■ ألا يمكن تصليح الأعطال الشعرية من خلال إعادة تفجير اللغة مثلاً؟

_ تفجير اللغة، لا يعني القيام بإعادة صياغة الحطام والأجسام الشعرية التي فقدت بعضاً من أطرافها،  بقدر ما يعني تحديث الصورة في المباني الشعرية، ولا يخصّ عمليات التنقيح التي تفرضها رداءة النصّ أو أمراض الكتابة بالضبط.

■ هل ساهمت حركة ‘القصيدة الحسيّة’ إلى دفعك كي تكون شاعراً مؤثراً في حركة الشعر اللاتيني في بداية الخمسينات من القرن الفائت؟

_  لم تدفعني تلك الحركة التي قادها الشاعر ( أوغوستو دي كاميو )مع كل من (وديسّيو ليبغناتاري)،  و(رولدو دي كامبوس) وحدي، بل أثرت في مسار التاريخ الشعري كله في أمريكا اللاتينية.  لقد أحدثت انقلاباً شبه جذريّ في مسار العملية اللغوية الخاصة بالشعر، وفتحت الآفاق لكتابات متطورة في البرازيل وسواها من الدول المجاورة.

■ ثمة اعتقاد يتكرر حول تجربتك الشعرية، هو أن باث لم يجازف كثيراً في خرق العمق اللغوي، بقدر ما كان حريصاً على استعمال اللغة لمخاطبة العالم. ما ردّك؟

_ أنا تركتُ الشعرَ يقرأ العالم بعين اللغة، لا بروحها. وأعتقد بأن ذلك كان صحيحاً لدرجة كبيرة.

■ ألا تعتبر القراءةَ السياسية للعالم من خلال الشعر، قد لا توفر للشاعر الطاقة اللازمة لتشغيل مُوَلِدات المخيّلة على سبيل المثال؟

_ قد تنقذنا المخيّلة من حُفرة ضحلة بالطريق، ولكنها لا تكشف عن آلام الشعوب المُستَعرّة،  ولا توفر الحماية لها من حمامات الدم ومخالب الديكتاتوريات القذرة.

■ هل لأن المخيّلة منطقةٌ طاهرة من الشوائب؟

_ أجل. وهي ملاك غير مُحبّ للعِراك.

هذا كلام ربما يتناقض مع ما ذهبت فيه بإعجابك بالسوريالية التي قلت عنها:

((’إنّ تأثير السّوريالية عليّ كان حاسما كمذهب وليس كموقف، لقد وجدت في السّوريالية فكرة التمرّد، وفكرة الحبّ والحرية وعلاقتهما بالإنسان، إنّ طبيعتها الغامرة والروحية الجماعية ومحاولاتها المتوالية لتجسيد الزمن وقرض الشعر وجعل موضوعها الإنسان قد أخذت بمجامعي. )) !!

_ هذا أمر واقعي. فعلى الرغم من افتتاني بالسوريالية وسحرها الواسع الذي شغلني، فأن جسدي الشعري لم يغرق بمياهها تماماً. تركتها كعجلة الاحتياط في الباص الذي كنت أقوده نحو أعالي الجبال. فالسوريالية باعتقادي،  هي معالجٌ نفسي لكافة أمراض الشعر.

■ يعني أنك لم تكن مريضاً يوماً ما من زمنك الفائت؟

_ أنا كنت مالئ سطور. والسوريالية لا ترغب بوجود كائن من طرازي، ذلك لأنها تأخذ الشاعر، لأن يكون كاسراً للسطور، وليس مجبّراً لها.

■ كيف تشعرُ بحال رأسكِ أثناء كتابة القصيدة؟

_ أشبة بحبة من الكمثرى على وشُك السقوط من تلك الشجرة الضاّلة.

■ كأنكَ مراقب غابات !

_ أفعل ذلك بدافع القضاء على التَشَنّجَات التي ترافقني في تلك المساحات اللغوية المليئة بالمجازات الصخرية الصامتة التي عادةً ما تريدُ تحريكاً أو رمياً لها بالهاوية.

■ إذا كان الليل من شؤون الشعر الأولى،  فما الذي تكتشفه بقول هارولد بلوم: (( الليل يجلب لكلّ متفكّر وحيد التعويض الواضح عن خلفية معينة، تماماً كالموت الذي يخافه الشعراء مخطئين، الموت الذي يصادق كلّ الشعراء الأقوياء بشكل طبيعي.))؟

_ الشاعرُ الاستثنائي القوي، هو الذي يمزجُ ما بين الليل والموت في نقطةٍ واحدة، تُسمى كبد المعنى. فربما في ذلك الجهاز وحده، يمكننا اكتشاف خوفنا  غير المنطقي من التلاشي في حوض الحياة الجافة، والانتقال إلى الحوض الكوني الأعظم.

■ كأنك لم تخف من الموت من قبل؟هل كانت لديك بُوليصة تأمين على سبيل المثال؟!!

_ الخوف من الموت عبء الكائن البشري من الرحم إلى آخر عقدة من حبل غسيل الحياة. ولكن بعض الشعراء، تمكنوا من إخضاع ذلك الموت لسلطة الحشيش أو التصوف أو الكحول التي عادة ما تقوم بواجبها من السخرية منه، ومن ثم إعادة تكوينه نفسياً، وبشروط شعرية تفيض بسوريالية منتشية بذلك السحر العبثي الذي يجعل من الموت نجمة قطبية، تتطلب منه حزم الحقائب، استعداداً لبلوغ عطسة العدم،  و بعد ذلك السفر عبر مُحَوّلات الزمن إلى هناك. هناك. هناك.

■ أيّ خوفٍ سكنَ أوكتافيو باث يوم كان على الأرض؟

_ الخوف من فاقة التعبير ليس إلا. فما أن ربطت إيقاع حياتي بالكلمات، حتى تكوّن عندي أحساسٌ متفاقمٌ بضرورة التواصل مع جذور شجرة العالم. بعبارة أدق، تركتُ مسألة التعايش مع الأغصان والأوراق جانباً. لأمضي في مجرى النسغ.

■ لنفرضَ بأن باث سبق له وأن عملَ مخرجاً سينمائياً، كيف له أن يصورَ صرخةً؟

_ ذلك يعتمدُ على مصدرها، لأكون في موضع التنفيذ.

■ والعزلة. كيف لك أن تصورها؟

_ العزلةُ هي كاميرة الأعزل. وكذلك فهي خزان كلّ الأفلام التي تقوم بتصوير الكائن المُتحد مع كامل وحدته.

■ أنت ألفتَ عن العزلة في عام 1961 كتاباً ((“متاهة العزلة” El laberinto de la soledad )). هل كان طموحك يتعلق بفك العزلة عن المعزولين داخل المجتمع المكسيكي؟أم كان الأمر لا يتعدى الرغبة الفلسفية بالتفتيش عن الإنسان الآخر الذي يعيش  اغترابه في أحد أقفاص الوجود؟

_ كلما تقدمت الأرض بالعمر، ازدادت شيخوخةُ المخلوق البشري توسعاً ونضوجاً، لتتحول فيما بعد إلى عزلة وجودية بركائز فلسفية خاصة، حتى عند عوام الناس، ممن لم تتلمس الثقافات طريقها إلى أدمغتهم.

بعبارة أدق، لقد وجد الكثيرون أنفسهم بصناديق العزلة الحديدية بشكل مبكر، مما بات صعباً عليهم اللقاء أو المشاركة في أعمال الحياة. وكما قلتُ أنا في ذلك الكتاب:( الميلاد والموت تجربتان للعزلة: نولد في عزلة،  ونموت في عزلة.  لا شيء أكثر خطورة من هذا الغوص الأول في العزلة،  الذي هو الميلاد،  إلا هذا السقوط الآخر في المجهول،  الذي هو الموت.  إن تجربة الموت تتحول سريعاً،  إلى وعي بالموت. ))

■ ألا يُشكلُ الحبُ قوةً لتحرير الكائن البشري من عزلته برأيك؟

_ المدمنون على الحبّ، ملائكة، ولكن يقيمون في منازل يديرُ شؤونها الشياطين.  أي أن هؤلاء سرعان ما يجدوا أنفسهم في أفران من النيران المهلكة. (( إن الحب في عالمنا تجربة يكاد يكون بلوغها متعذراً،  ما دام كل شيء يقف ضدها: الأخلاق،  والطبقات،  والقوانين،  والأعراق،  والمحبون أنفسهم.  لقد كانت المرأة دوما هي «آخر» الرجل،  ونقيضه،  ومكمله.  وإذا كان جزء من كياننا يسعى إلى الانصهار فيها،  فإن الجزء الآخر،  وليس بقدر أقل إلحاحا،  يبعدها ويقصيها.  المرأة مخلوق ثمين وضار بالتناوب،  لكنه مختلف على الدوام. )).

■ هل سبق وأن ارتبط الحبُ بالحلم في مجرى حياتك؟

_ هناك تجربتان حاسمتان عندي. الخمر الذي قاد أبي للموت بحادثة قطار. والحب للخمر الذي طوق حياتي، ليجعل مني مراهقاً في الغرام إلى حدود الثمالة.

من هنا، فأن الحلم كان مكتملاً بالنسبة لي، ولا حاجة لي به. هكذا ولدتُ عاملاً لبناء منظومة أحلام حجراً حجراً، دون تخطيط لمشروع يخص تلك الأحلام،  وكذلك دون بذل جهد استثنائي.

■ أنت قلت : ((الحب محاولة لاختراق كائن آخر،  لكنها لا تنجح إلا إذا كان الاستسلام من الطرفين. )) هل واجه أكتافيو باث صعوبة بشق الطريق نحو الحب، ففشل بالاندماج الغرامي إلا عن طريق الاستسلام للمرأة على سبيل المثال؟

_ لم استعمل سهم كيوبيد في علاقاتي العاطفية، لأنني واجهت أكثر من حائط،  وقفزتُ فوق أكثر من سياج، وارتميتُ بأفران سريّة لأحضان متعددة، من أجل تغذية قلبي بالندى أو بشئ من غيوم ذلك الحب.   ففي أحايين مختلفة، يجد الشاعرُ نفسهَ نسخة عن فارس من الفرسان الثلاثة:الغرام غرقاً بالأجساد أو التجمدّ بالثلاجة أو العزلة في كهوف اللغات.

■ وأين وجد أكتافيو باث نفسه؟

_ في المحرقة الصامتة لتلك الأسِرَّة التي وجدتُها تنمو في الأرواح، بعيداً عن كلّ توتر وكلّ اعتبار.

■ كيف وجدت النسوة في السموات؟

_ لا يفكرنّ بالماكياج ولا بالحيض أو السيلكون. ويوم تعرفتُ على واحدة منهنّ، سرعان ما واظبتْ تلك المرأةُ المحبوبة التَّدرّب على ممتلكات جسدي لاستملاكهِ. هكذا صرتُ ديكاً عقارياً من أملاك دجاجة لا تستهوي إلا الشواء الايروتيكي.

■ ثمة قلوب لشعراء تملؤها الرمال. هل شعرت يوماً بأنك من تلك الفئة؟

_ حدث لي ذلك مرةً واحدة فقط. فقد شعرت يومها أن حبال مظلة الهبوط قد تقطعت، مما أدى بي إلى الوقوع بحضن إحداهنّ وكأنني قطعة من صحراء، لا يشبعها ماء ولا كوكا كولا ولا نبيذ. فالقلوب الرملية بطبيعتها السكونية، ظاهرة قاتلة للحب، كونها مصابة بالجشع، ولا تكتفي إلا بابتلاع الغيوم والأنهر ومخلفات الأعين كذلك.

■ أنت تتحدث عن المتاهة، دون أن تكَفّ عن الإشارة إلى البناء الأسطوري الذي جعل منها رمزاً لا متناهياً داخل الشعر وخارجه أيضاً. ما حدود معرفتك بذلك التِّيه؟

_ أنا لا أكفّ عن الإحساس بوجودي كباحث في قلب المتاهة التي تتحدث عنها أنت، ولكن ليس بسبب وجودها كمنطقة جغرافية، وحسب، إنما لأن المتاهة نصّ النصوصّ الإلهية المستخدمة من قبل الديانات التي ما تزال تدور بالكائنات البشرية من وضع إلى آخر، بحثاً عن مخرج من دوامة الجحيم المُسيطرة على تعاريج المخ.

■ والمخ الشعري سيد باث؟!!

_ المخُ الشعري هو المجرى التصويري للمخيّلة المقاومة للأكسدة.

■ ويمكن الاعتماد عليه في بناء النصوص الشعرية؟!!

_ بشكل خارق، يندرُ لعضو أو لآلة أخرى أن تنتج مثله على السطور أو في غرف الأحلام.

■كم نسبة الأحلام في شعر باث؟

_ الأغلبية العظمى من أحلامي كانت من الخزف الصيني.

■ ولكنها أوصلتك إلى جائزة نوبل عام 1990 !!

_ كان ذلك رائعاً. أن يتذوق شاعرٌ عصيدةً من شوفان نوبل.

■ وماذا يتذوقُ الشاعرُ من الشيطان برأيك؟

_ الشياطين ليسوا من خضروات أو من اللحوم الحلال. هم أصحاب مطاعم الأنفس وملحقاتها السيكولوجية.

لذا نرى في كل نفس مجموعة شياطين، منها ما يقوم بزرع الرغبات وخياطة ثياب كلمات اللغة المتحررة من التابو، ومنها ما يرمم أملاك الروح داخل الجسد الشعري. لذا لا بد من أخذ الحذر الجميل منهم، باعتبارهم من مصادر الطاقة المُولّدة لمختلف الأشعة.

■ هل معنى ذلك أن أكتافيو باث ينأى بنفسه عن الأمكنة التي يحتلها هؤلاء؟

_ أبداُ. لم أفكر بهكذا أمر، لأن هذه المخلوقات ديالكتيكية ومنتجة للحركات والصراع، ولها فينا منازلٌ لا يمكن الاستغناء عنها شعرياً وغير شعري.

■ هل تُفضلهم على الملائكة يا سيد أكتافيو؟

_ الملائكة والشياطين من جنس واحد، ويمارسان اللعب بأعصاب المخلوقات المختلفة. بمعنى إنهما منطقتان في جسد واحد.  مثلهما مثل النهار والليل في بوتقة الكون.

■ هل تُدير عملاً محدداً في السماء الآن؟

_ لقد تملّصت من العمل في غَسل الأطباق، وسأعمل في ورشة لتصليح الدراجات الهوائية. فأغلب القادمين من المقابر البعيدة، يفضلون ركوب الدراجات على الأوتوبيس هنا. ربما لأنهم يرغبون بقيادة شئ ما للمرة الأولى في حياتهم بعد الموت.

مقالات من نفس القسم