يماني يتعلم الكلام

يماني يتعلم الكلام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يوسف رخا

ديوان أحمد يماني الأخير (أماكن خاطئة) – أكثر من أي عمل سابق له – يعكس المسافات الجغرافية والزمنية واللغوية لشخص يعيش خارج بلده، الأمر الذي يثري عملية إعادة اختراع اللغة التي يمارسها منذ بداياته. لهذا، لأن اللغة في تجددها وتولدها شيء يفرح (وهو التعريف الوحيد الممكن للشعر) أتى الديوان هدية مبهجة رغم كآبة الجزء الأكبر من محتواه. أتى بالبريد الإلكتروني في أبو ظبي، قبل أن ينشر عن دار ميريت بأسابيع أو شهور. وأذكر أنني - وأنا أطبعه، في محل عملي هناك – كنت كمن ينتظر وليمة يعرف أنه سيمضي الليل كله يأكلها. رحت، قبل أن أسلم نفسي لحالة توقعت صواباً أن ترحمني من القحط العاطفي لحياة الخليج، أسترجع بداية معرفتي بهذا الشاعر المقيم في إسبانيا من سنين كثيرة.

 كان قد خضني منزل أحمد طه، في اجتماع مجلة الجراد الوحيد الذي حضرته، قبل أن أغادر مصر في عمر السابعة عشر ولا أعود حتى سن الرشد. لا أذكر إن كنت التقيت به ليلتها. الذي أذكره هو أن قصيدة (شوارع الأبيض والأسود) ظلت، من وقتها تقريباً، أقوى تجسد للقيم الجمالية التي عبر عنها (جيل التسعينات) في مصر، في الجراد والكتابة الأخرى وغيرهما، أنقى تعبير عن فرضيات كنت أتفاعل معها بما يكفي للشعور بالألفة فعلاً، إلا أنني – في هذا العمر، قبل أن تلطشني الحياة – شعرت، بالأكثر، أنني ساذج ومدلل، وكدت أندهش من كوني تفاعلت مع نصوص هؤلاء الناس. والحق أنها كانت تعبر عني بشكل استشرافي، أو قل تضيف إلى وعيي أوجاعاً لم أكن قد جربتها، فتكمّله. المهم أنه، بداية من الاعتراف بمادية الواقع – إلقاء الأيديولوجيا في الزبالة، على الأقل – لغاية القطع الشجاع ليس مع تراث الأدب العربي ولكن مع أكثر من حالة لبس لم تحسمها حداثتنا المجهضة، بدا يماني النموذج الأنقى، الأكثر عفوية واقتراباً من الأرض، الأرك بأسمى معاني الركاكة.

يماني ليس عنده، مثل ياسر عبد اللطيف، هاجس الصياغة اللغوية؛ ولا يهتم اهتمام إيمان مرسال ببناء النص (وهما بالنسبة لي أهم شاعرين أخرجهما ذلك المحيط). يبدو أقرب إلى محمد شكري أو حتى بابلو نيرودا من زاوية أنه يعرّف عالمه بما يكتب، بالثقة الخارجة من الخبرة المباشرة، بلا حاجة إلى سياق: عندما يقول شجرة، مثلاً، لا يعود في الدنيا كلها سوى الشجرة التي يتحدث عنها، يتجدد معنى كلمة شجرة لدرجة الشعور بأن أحداً لم يقل شجرة أبداً قبل ذلك، فيفرح الواحد بالشعر.

أعتقد أننا لا نهتم بما يكفي بأحمد يماني.

ـــــــــــــــــــ

جريدة الأخبار المصرية 14/07/2009

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم