سبعة أيام حافلة

إنجي همام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إنجي همّام

كان أسبوعا متخما، بدأ بندوة نجيب محفوظ  بمحل الجزارة وانتهى باجتماعات نادية المطولة..

السبت

 صباح السبت ذهبت لمحل الجزارة، كعادتي، كانت معي إيناس شقيقتي الصغرى، لا أذكر لماذا جاءت معي، لم يكن المحل مزدحما ربما لم يكن هناك سوانا، وقفتُ لدفع الحساب الذي لا أعرف لماذا كان معقدا لا يريد أن يستقيم، الرجل ظل يغالطني حتى أوشكت على ترك المحل من غير شراء، قبل أن أفعل ترامى إلى سمعي صوت السيدة البدينة الجالسة خلف ماكينة الحساب، أظنها صاحبة المحل، كانت تنبههم لقرب ميعاد الندوة، الأستاذ نجيب على وشك الحضور، لم يدهشني ذلك مطلقا، فقط تذكرت أني خرجت من البيت دونما هندام يناسب مثل هذا اللقاء، توجهت على الفور إلى الحمام وطلبت من إيناس مساعدتي في تصفيف شعري ووضع بعض المساحيق التجميلية، لم أعد لمناقشة الرجل الذي استمر في مغالطتي، تركت له النقود واللحم أيضا، توجهتُ لتلك القاعة الطويلة المختبئة خلف ثلاجة اللحم، كيف لم ألحظها من قبل، فتحوا ذلك الباب الذي يشع صقيعا على مصرعيه، كان هناك باب داخلي أصغر، دخلت لأرى الطاولات المتراصة على هيئة حرف “u”  ، كان الأستاذ يتصدر المنصة ترتسم على وجهه بسمته الودود، تهمس في أذنه اليمنى فتاة جميلة ذات شعر مجعد أظنها من مُنظِمات اللقاء، اتخذ الحضور أماكنهم بهدوء ويسر، دار معظم اللقاء حول الأزمة الأخيرة في اليمن، وماذا يمكن أن يفعله المجتمع المصري لمساندة الشعب الشقيق، على الرغم من أن موضوع الندوة كان أدب المقاومة إلا إنني لم أندهش مطلقا، عادتنا الخروج عن النص، أي نص، الأستاذ يوزع اهتمامه على الجميع بإنصاف، من حين لحين تعلو وجهه تلك الإبتسامة المُغرقة في الصدق، فيتوازن جو القاعة، تلك الأحاديث الموجعة حتما ستورثنا الموت قهرا ذات يوم، أشكر الرب على وجود إبتسامات بهذا الصدق في العالم، الأمر بدأ يخرج عن السيطرة، الثرثرة في كل جانب تأخذ منحى مغاير للآخر، هنا قرر الأستاذ حسم الأمر، يدق ثلاث دقات بمطرقة كمطرقة القضاة فوق طاولته، الصمت خيم على المكان، رغم أني كنت منزعجة بشدة من تلك الأصوات، لم أحب ذلك الصمت، أخافني، نظرت نظرتي الأخيرة له وتركت المكان.

…………………………

الأحد

عصر الأحد ذهبت لتجديد كارنيه النقابة، كان الطابور طويلا جدا، يصل حتى ميدان رمسيس، عندما وصلتُ إلى منتصفه فكرتُ جديا في المغادرة، سأنتظر قدر ما انتظرت تقريبا، قدماى المتورمتان تكاد تنفجران داخل حذائي الجديد، لم أكن أنتوي الخروج به اليوم لولا لقائي ب”بولين”، تحب “بولين” الأحذية الجديدة، تحب كل جديد عادة، لذا أقابلها دوما بأشياء جديدة، تحب أيضا الثناء على الأشياء وأصحابها، تسعدني “بولين” وكلماتها الرقيقة، على الرغم من معرفتنا التي لا تتعدى الأشهر إلا إنني أشعرها من أقدم الصديقات، تقابلني بلهفة أم وعيون محب صادق، بعد قليل سنجلس معا بالنادي الإيطالي بعبد الخالق ثروت، مكان لقاءنا الأول، أذهب عادة للنادي كلما جئت للنقابة، كانت تجلس بمفردها تطالع كتاب باهتمام، كعادتي شردتُ في وجهها شديد الطفولة، عينان حالمتان وفم صغير وأنف كذلك، حتى جديلة شعرها ساعدت في اكتمال هذه الهيئة الطفولية، سافرت في وجهها لأيام البراءة، ذكرتني بعيناها المختبئتان خلف نظارة القراءة بزميلة الفصل “سعاد”، لم أعد أذكر اسمها الكامل، لكنها كانت ذات شعر برتقالي شديد النعومة، تصنع منه أمها جديلة طويلة تنتهي بشريط أحمر، أما أمي فكانت تفضل لي الأشرطة البيضاء، أو تلك البيضاء التي تعلوها نقاط حمراء، أتنهد بعمق وأنتبه على وجه “سعاد” لا بل “بولين” رأيتها تبتسم من تأملي فيها، بادلتها الإبتسام واقتربتُ منها، وصرنا صديقتين، تعمل بولين بالنادي الإيطالي، ليس هناك الكثير من العمل، لذا تملأ وقتها دوما بالقراءة، أجمل العادات البشرية، لم ينتهي الطابور بعد، حوالي اثنتي عشر شخص أمامي، قاتل الله الأوراق والروتين والنقابات وسائر الهيئات العامة، العالم يمضي نحو المستقبل بصاروخ، وكل ما نعرفه نحن عن الصواريخ أنها سوف تدكنا يوما كتجلي لرحمة الرب على الأرض، تشاركني بولين أكبر شراكة في شهوة إقتناء المفكرات الصغيرة، ذلك الشره الذي لم تستطع أينا أن تضع له حدا مطلقا، حتى أن معظم هدايانا لبعضنا البعض إن لم تكن كتبا فهي مفكرات صغيرة لتدوين اليوميات، ليست يوميات بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا نحن نداوم على تدوينها، لكنه طقس نحب ممارسته بشكل غير دوري، لابد لي أن أكتب عن تفاصيل هذا اليوم، أيام لقاءاتنا من تلك الأيام التي نحرص على كتابتها، عشرة أشخاص أمامي لأصل، بحساب الوقت المقتطع لكل واحد فيهم لازال أمامي وقت مرهق، لكني سأنتظر، ستؤنبني بولين مليا إن أنا غادرت الآن، الصبر مفتاح الفرج، الفرج لدينا علبة مقفلة من الداخل، لا باب لها ولا ثقب ولا أية مفاتيح، آااااه، أسلمت نفسي لمواجع الحياة خلفت ورائي كل شعور إنساني، تجرعت بلادة بجرعات هائلة، علي أحتمل، أنهيت معاملتي وخرجت، لم تكن بولين بالنادي، هل أخطأت اليوم أم أنها فقدت الأمل في ظهوري؟، هاتفها لا يعطيني أية إشارة .

……………………………

الإثنين

لم أكن مرتبطة يوم الاثنين بمواعيد صباحية، أكره مغادرة بيتي يوم الأثنين في أي وقت على كل حال، بقيت في فراشي صامتة، أفكر ماذا سأرتدي في الليل، لا رغبة بي للطعام، ويحول بيني وبين القراءة رأس مشوش،  سأرتدي فستانا، إنه عرض الفيلم، فيلم “باتريشيا” بالجمعية في السابعة مساء، “باتريشيا” تحب الفساتين، ستفرح إن فعلتُ، استراح رأسي بعد أن اتخذت قراري، سأبدأ أستعد من بعد العصر، آخذ وقتا طويلا في الاستعداد، لاسيما إن كان اللقاء فني، تحممت في الثالثة بعد أن جاء الكواء بفستاني، وضعته على السرير مفرودا وأخذت في تخير ما يناسبه من اكسسوار، الحُلي والحقيبة والحذاء، عندما أتممت المهة على خير كانت الساعة الخامسة، لازال الوقت مبكرا على النزول بحساب المنطق، لكنه يكاد يكفي بحساب حركة المرور، أسلك صلاح سالم ومن ثم نفق الأزهر، يخاف الناس الأنفاق، أنا لا أحاول التفكير، طالما أنا في الشارع فكل شيء مخيف، أصرف ذهني دوما عن مخاوفي بالموسيقى، في النفق تنقطع إشارة الراديو، أفتح ملفات الموسيقى على هاتفي، ألعب لعبة الحظ، أضرب ضربة عشوائية، جائني صوت “طلِب”، ويبخل بالوداد قلبك جميل وبخيل ويبخل بالوداد قلبك جميييييل وبخيل، السنباطي ومحمد على أحمد، ليس أجمل من هذا ولا أرق، الآن أنا على استعداد لتحمل وقوف النفق لعام كامل، أنسى الاختناق تحت الأرض، أنسى الدنيا وأتمنى فقط الغوص في هذا الحلم الموسيقي لأبعد عمق، وكأنما جنية من جنيات الحواديت تسمع أمنيتي وتقرر أن تحققها،  تخرج على الفورمن سيارات حولي فرقة كاملة، يرتدون زيا موحدا، كان أحمر اللون على ما أذكر، دفوف وآلات جيتار وطبول كبيرة، كيف وضعوا طبول بهذا الحجم في سيارة عادية، النفق لا تسلكه السيارات الكبيرة، أسئلة غريبة في هذه اللحظة، طالما تأتيني الأسئلة الغريبة على غير موعدها، تبدأ الفرقة بالعزف، الصوت عال جدا لكنه غير مزعج، عال مثل فرحة عارمة، يفتح أحدهم باب التاكسي ويمسك بيدي للنزول، أمنحه كفي بسلام كبير، في الواقع أني لا أجيد الرقص، بمعنى أدق لا أجيده في الأماكن العامة، ولكني فعلتُ باندماج عالٍ، لا أعرف كيف، على كل حال نفق المرور ليس مكانا معتادا للرقص، ممتنة ل باتريشيا أني ارتديت الفستان بإيعاذ من محبتها، ساعدني في الرقص، في البهجة كلها، ممتنة لها أكثر كونها أنزلتني من البيت يوم الاثنين لحضور عرض فيلمها الذي لن أحضره، لولاها ما نزلت في هذا اليوم أبدا.

……………………………………..

الثلاثاء

حفل تخرج “إيثار”،، خلفتُ يوم الحفل منذ أسبوعين، لم أتمكن من الوصول على الموعد، عرفتُ في منتصف الطريق أني سأفعلها هباء، لم أهاتفها حتى، لم تكن لتسمعني وسط ضجيج الاحتفال، على كل حال لا تروقني الاحتفالات الجماعية، أحب أن أحتفل بطريقة أكثر خصوصية، اليوم سنحتفل وحدنا حفلا إضافيا خاصا، مع صغيرتي أفضل البساطة، أحاول مقاربة عمرها، أرتدي الجينز وأرفع شعري للأعلى وأنتعل حذاء رياضيا، هكذا أناسبها أكثر، تواعدنا على اللقاء في عابدين، أمام تمثال محمد فريد، كانت تقف شاردة في انتظاري، تستند بذقنها الصغير المدبب إلى حقيبقة ظهرها التي كانت تحتضنها كقطة، تحب القطط كثيرا، أما أنا فأخافهم بشدة، تضحك مني دوما، تحاول طمأنتي من ناحيتهم لكنها لا تفلح، وعدتها بمفاجأة تعويضية عن يوم الحفل، إنه اكتشافي الجديد، مطعم أسماك صغير بباب اللوق، سلكنا شارع “عبد السلام عارف” وتوقفنا أمام بعض المحال، جلبنا لعبة شطرنج من مكتبة “كامل الكيلاني” وتوجهنا حيث المفاجأة، في الواقع المطعم ليس جديدا، بل تم تجديده، لازلت أذكر نزهاتي القديمة جدا و”يحي” للغداء فيه، صاحبه العجوز أبيض البشرة قصير القامة ممتلء القوام، يمشي مشيته المتمهلة باسما، يمنحنا طعاما روحيا فوق كل ما يقدم من طعام ثم يهادينا في النهاية بحبتين من “بنبون” الكراميل، اعتدت تناول طبق صغير من الجمبري وحده في تلك الأيام، بعض لقيمات المحبة تُشبع كثيرا، لم أذهب إليه بصحبة أحد غير “يحي” من قبل، إنها المرة الأولى، ولكن حتى المكان لم يعد هو، الجديد جميل، جميل الشكل والروح في عين الجميع، ولكن القديم كان جميلا في روح محبتنا وحدها، قد صار يرقد هناك، معها في قرار بعيد، تعانقنا وتبادلنا القبل، أرجعت حقيبتها للوراء على ظهرها وتأبطت ذراعي، كان أول الشتاء، الجو يرشرش لطافات وحنو، سألتني عن وجهتنا فابتسمتُ وصمت، على الرصيف المواجه للمحل كانت تصطف أصص زرع متنوعة بألوان طازجة، أعرفها تحب الأسماك تماما كقططها العزيزات، أحسنتُ الاختيار، هكذا أخبرتني بسمتها العريضة، المكان صغير، ممتلء بلوحات مبهجة، بعضها صور أبيض وأسود لسينمائيين من العصر الجميل كما يلقبونه، وبعضها مقولات صوفية بخط عربي وألوان زاهية، نختار طاولة صغيرة قرب الباب، الساعة الثانية ظهرا، لم يكن المكان مزدحما، طاولة أخرى خلفنا تحتلها أسرة صغيرة، وزوجين في أواسط العمر عن يميننا، قائمة الطعام مصطفة بتنويعات شتى على صنوف الأسماك لديهم، أختار أنا الحبار المطهو بالفخار مع حساء الطماطم، تختار “إيثار” مقليات كما تحب دوما، من الباب المشرع تهفهف روحا جميلة، ترسلها المباني العتيقة الباقية ونقاء الجو الشتوي، نتنقل ما بين الداخل والخارج لالتقاط بعض الصور معا، ورائنا رشدي أباظة وسعاد حسني وفي صورة أخرى الكاريوكا الجميلة وكمال الشناوي، بعض الصور مع الزرعات الطازجة، ها قد أتمننا مهمتنا التوثيقية تجاه العالم ليومنا هذا، تضحك إيثار مما أقول، أعشق ضحكتها الطفولية الخجولة، أتمنى لو أحتضنها وهذه الضحكة ما تبقى من عمري وحدهما، أفلت العالم من يدي وأضمها وحدها، بعض الأمنيات من فرط جمالها مستحيلة، الطعام معا أوقع، الرائحة تسبق الأطباق، تتراص بسرعة وعناية مع الليمون والسلطات، ليس أطيب من ذلك غداء، في هذه اللحظة نسيتُ المكان القديم، قد ولد في قلبي آخر، برفقة إيثار هذه المرة، أتبسم للطعام الشهي من قلبي، أتبسم لكل جمالات الحياة من قلبي دوما، ها قد أخذت روحي نصيبها من الأكل، وللجسد نصيب أيضا، وأنا على وشك أن أضع أول ملعقة في فمي، وجدتها جانبي، مباشرة، على المقعد المجاور، كيف قفزت في أقل من ثانية لست أعرف، ولا أعرف كيف تبعتها أنا قافزة في الثانية التالية على طاولة الزوجين المجاورين لنا،  تقف “إيثار” ضاحكة، تأتيني لتهديء من روعي، القطط لا تأكل البشر، تقول وعودها النديً لا يعرف أن يستقيم من شدة الضحك، أطلب منها إبعادها، فتقول سأفعل، تعاليً فقط معي، أنتبه حينها لكوني على طاولة غرباء، أعتذر وأعود بحذر، أقف قبالة طاولتنا منتظرة أن تنصرف القطة، تربتُ “إيثار” عليها تحملها وتضعها أرضا بجانبها، تطلب مني الجلوس في غمرة ضحكها المتواصل، ما أن أستجيب حتى تعود القطة البيضاء البضة إلى جواري من جديد، تنفلتُ مني صرخة صغيرة هذه المرة، يجيء من في الداخل على الصوت، أشكو لهم الوضع، إيثار لازالت تضحك، تحاول السيطرة على القطة وزحزحتها من جانبي، لكنها لا تفلح، تقترح تبادل المقاعد، لكنني أصر على رحيلها، كيف لقطة باقتحام مطعم؟!، يحاول النادل معها دون جودى، يحملها للخارخ فتدور وتدخل مجددا، لم يسبق لي تناول الغداء مع قطة من قبل، أقف وأجلس، تمشي وتقفز، نلعب لعبة مضحكة، القطة عرفت أني أخاف منها، بدلنا الطاولة ولا فائدة، تبعتنا مرة أخرى، ضحكات إيثار لا تنتهي، أحد صغار الأسرة المجاورة لنا يتطوع بحملها بعيدا، يمسد جسدها بحنو ويضعها فوق ساقه تاركا طاولة أسرته، أنظر نحوه بوجل، إلامً ستفضي هذه المناورة الجديدة، الأسرة تنتظر صغيرها ليعود لطعامه، أنا أيضا لم آكل بعد ولا إيثار الضاحكة بلا توقف، تنادي الأم صغيرها فيعود بالقطة، ما إن يجلس لطاولته حتى تنزلق مجددا عائدة إلينا، يحاول الصغير القيام مجددا فتزجره أمه لينهي طعامه، الزوج من الطاولة الأخرى جاء متطوعا هذه المرة، زوجته عند طاولتهما لكنها واقفة، تنتظر ماذا سيحدث، يحاول حمل القطة لكنها لم تسمح له، تتململ بين يديه وتنزل تحت الطاولة، تنضم ضحكاته لضحكات إيثار، يلمح وجه زوجته الغاضب فيعتذر عائدا إليها، لست أذكر بقية تفاصيل المناورات، غير أن القطة خرجت في الأخير على يد صاحبة المطعم، خمس دقائق وعادت بفرقة قطط، لم أكن لأتناول غدائي أبدا مع قطة، الأمر إنتهى بست قطط سمان وقط هزيل حول مائدتنا، تركتُ لهم طعامي والتصقت بحائط، جانبي رشدي أباظة يبادل إيثار ضحكاتها المتقطعة بين ملعقة لفمها وقضمة لقطة جانبها..

………………………..

الأربعاء

أحب يوم الأربعاء محبة خاصة، لستُ أذكر لهذا سببا واضحا، الأمر لا يتعلق بطبيعة المرور في القاهرة على أية حال، فجميع أيامها سواء، أو هكذا باتت منذ سنوات لم أعد أذكرها، وأحب “لمياء” أيضا، ولتلك المحبة أسباب كثيرة، لا تعني أحد غيري، اليوم الأربعاء موعدنا، محبتان معا كافيتان لصنع سلام كبير وصبر، موعدنا في السادسة مساء بشارع شريف، لم نحدد موقعا بعينه، ما نجده خاليا من الأماكن فيه سنسعد بالجلوس به، هي لا تحب الضوضاء وأنا لا أحتملها، مؤخرا باتت معظم الأماكن هنا كذلك، الإزعاج سيد الموقف، والزحام أيضا، وصلتُ أولا وهاتفتها، طلبت مني الجلوس في أي مكان وإبلاغها به، أحب كوستا شريف عما عداه من الأماكن بوسط المدينة، ولكنه ودائما الأكثر ازدحاما على الإطلاق، في طابقه العلوي أنتظر عشر دقائق إلى أن أجد طاولة خالية، عشر دقائق لا يهم، أتجاهل الموسيقى العالية، تدور عيني مع الجالسين، من منهم ينتوي القيام قريبا، أعطي اهتماما خاصا لطاولتي المفضلة، طاولة النافذة الجانبية، تطل على ما بين البرجين، يبدو أن الحظ سيبتسم، قامت الفتاة التي كانت تجلس عليها مخلفة بعض رماد السجائر ودخانها، أجلس سريعا، أخرج دخاني من حقيبتي، بماذا سأتلهى إن لم يكن به، تزعجني تلك الأصوات العالية ولكني سأنتظر، الجو بارد في الخارج، أوزع اهتمامي ما بين الدخان والطريق الصغير بين برجي الإيموبيليا، أهاتف “لولو” -كما يحلو لي أن أدللها- إنها السابعة إلا الربع، قالت الطريق مزدحم، قلتُ لا يهم لا تقلقي، أنا هنا، كان لقائنا الأول على أرض الواقع، كل ما بيننا من صداقة ومعرفة سابقة كان افتراضيا، في هذا اليوم عرفتُ كيف تتأخر “لولو” عن مواعيدها أربعة ساعات كاملة دون مبالغة، ليس ذلك أغرب ما في الأمر، الأغرب أن أنتظرها!، لم أحتمل ضوضاء كوستا لأكثر من السابعة والنصف، خلفتُ دخاني ورماده لفتاة سمراء جميلة تنتظر الدور، ونزلت لما بين البرجين بالشارع، بات الهواء البارد منعشا بعد موجة الاختناق بالداخل، انتظرتُ ساعة ونصف لن تتأخر أكثر، أقول لنفسي، ليس من المعقول أن أمشي دون أن نلتقي بعد كل هذا الوقت، بين البرجين كان صامتا مظلما، رحتُ أراجع في عقلي تسلسل أحداث قصتي الأخيرة، أعرف أن أقرب أصدقائي سيلومون عليً مجددا، يخبرونني بشكل فردي ويرهبونني بشكل جماعي، أني لا أفتأ أكتب ذاتي، أولئك القريبون منا بشدة الذين يعرفون كافة تفاصيل ذواتنا، حينما يطلبون منا أن نكف الكتابة عن أنفسنا، لا يدركون أن هذه الأنفس التي يتحدثون عنها لا يعرفها الآخرين، لا يعرفون عنها شيء بالمرة، هم يملون المزيد من معرفتنا، بينما هناك بلايين البلاين من البشر لم يروا لمحة واحدة مما يملونه هم، نحن لا نكتب لهم بالأساس، لا نكتب لأحد بعينه، نحن نكتب للكتابة أولا وقبل أي أحد، نكتب الكتابة لذاتها، تتخذ شخوصا وبلدانا ومهاجع وحدائق وأفكار ورؤى، تتخذ بدائل من هذا وذاك، وتظل هي كتابتنا نحن، نفس الكتاب الذين يكتبونها بصيغ عدة، أعرف أني أضع تفاصيلي دوما في الشخصيات، مهما بدت هذه الشخصيات بعيدة عني في كل شيء، تفصيلة هنا وأخرى هناك، لا أفعلها عن عمد، تتسرب مني، أشعر دوما أني أكتب تحت تأثير سحر ما، قوة كبرى تجعلني أكتب في لا وعيي، في حالة لا هي باليقظة ولا بالنوم، حالة سفر، تعلق بفضاء لا أرتاده سوى وأنا أكتب، في حال المراجعة أستيقظ، أمحو الكثير مما كتبت، وأبقي على ما أرتضيه، أروح في جدل نفسي والأصدقاء إلى أن تظهر “لولو” هانم التي لم تظهر بعد، أصبحت الثامنة والنصف، مكالمة جديدة تؤكد لي فيها أنها اقتربت من وسط المدينة لكن الطريق شبه متوقف، محبتان معا كافيتان لصنع سلام كبير وصبر، لا بأس، لن أتركها تصل إلى هنا لمقابلة الفراغ بعد كل هذا الوقت، أقطع الشارع إلى “سمير وعلي” بعض الأقلام بألوان عدة ودفتر صغير، أمام الباب أتذكر “بولين” وأبتسم، أعود للداخل مرة أخرى لجلب آخر لها، هذه المرة أستند لدقائق على زجاج طاولة العرض، أكتب في دفتري الجديد بعض الكلمات حول جدل الذات والآخر، على الأغلب سأنسى تفاصيل ما دار في عقلي بمجرد وصول لمياء، ستعترف بين يدي في الساعة العاشرة أنها مرت لشراء بعض أدوات الزينة من متجر صغير بالقرب من بيتها، ستبتسم كطفل يعرف محبة أمه كأكبر الأشياء التي يثقها في هذا العالم، وهي تخبرني كيف تسرب منها الوقت دون أن –تشعر- أمام عشرات الاختيارات، ستريني أقلام حمرتها الجديدة بلون البنفسج والبرتقال، وظلال جفونها الترابية التي تتماشى مع بشرتها البيضاء، لن نجد مكانا عند وصولها بكوستا، لذا ستعترف وتبتسم بين يدي في مكان آخر، ممر صغير من ممرات شارع شريف الكثيرة، على ناصيته ماكدونالدز ويحوي مقاه صغيرة عدة، أخترتُ واحدا أعرفه من قبل، عرفاني به “إبراهيم” و”ساندي”، شقيقي الصديق وصديقتي الشقيقة، “لولو” أيضا كانت صديقة بنكهة الأخوة، سأبقى بالشارع ساعة أخرى قبل أن تصل، سأتمشى نحو محال شريف الشهيرة بمحتوياتها المستوردة، أدوات للتجميل وعطور وآلات كثيرة مستحدثة للعناية بجمال المرأة، تؤلم عيني الأضواء الباهرة، لا إلهام يخصني سأجده هنا، أعود لظلام الإيموبيليا، ثمة ضوء شحيح لم أتبين مصدره، يأتي من الأعلى وينعكس على مستطيل الزرع القابع في المدخل، هنا سأبقى لبعض الوقت، سأشرد مع مقطع قديم من غنوة حلوة مصدرها داخلي أنا، لم يكن هناك صوت، فقط موسيقى خافتة، محمد القصبجي .. ليلى مراد، صوتها لم يكن حاضرا فقط روحها الحلوة، وروحه العبقرية، من الزجاج الجانبي لكوستا ألمحهما معا، ليلى ومحمد، كانا جالسين قبالتي، ليلى تصدر ضحكتها التاريخية للعالم، أرى نصف وجهها، نصف هذه الضحكة بشكل جانبي، ذلك النصف وحده قادر على محو هموم الدنيا، والقصبجي يجلس باسما بود منصتا باعتناء، أتحرك صوب الزجاج الذي يجلسان خلفه، قبل أن أصل بخطوة واحدة أمطرت عليً سماء الإيموبيليا، لم يكن ماء، بل حبوب عقد مفروط من اللولو، تنزل الحبات على رأسي، تنزل حولي باندفاع رشيق، ترتطم بالأرض وتقفز لأعلى قليلا، اللولو في كل مكان، أرفع رأسي للأعلى، أفتح كفاي، لازال اللولو ينهمر وأنا تحته فاغرة فمي..

……………………………….

الخميس

بدون مقدمات كعادتنا نلتقي، محادثة صغيرة مع أحدهما بالهاتف، على الأغلب أحمد، يجيء ومعه إبراهيم، كعادتهما أيضا يسيران بحمول كبيرة فوق ظهريهما، خاصة إبراهيم، حقيبة ظهر كبيرة بتُ أعدها جزء من جسده، الحاسوب والكاميرا وكل لوازمها الكثيرة، وكأنما العالم فيلم يستعد دوما لأخذ لقطاته تباعا في كل خطوة يخطوها، أما أحمد يكتفي بحاسوبه والدواء، بعض الكتب ودفاتر الرسم أو أوراقه البيضاء وأقلام الفحم والرصاص، هو الآخر يلتقط الدنيا بطريقته، أمام بوابات الحسين نلتقي، ليست بوابات المسجد القديم، بل تلك الأمنيًة المستحدثة، وقتٌ وكلمات ودودة وبسمات حقة ومفتعلة لنعبر من هنا بعوالمهم اللاتي على ظهورهم بسلام، الكوكب سيارة مفخخة، تخبرني نقاط التفتيش وجنود الأمن على سطح الأرض، نعبر ظافرين بعون الله، لم تكن لنا وجهة محددة، بعض السير سويا يكفينا، يأخذنا أحمد للمحل الذي جلب منه “البرقع” لإبتسام، أخبرته أني أريد واحدا، لم أجد هناك الذي كان في خيالي، جميعها سوداء مثقوبة بل مجرد خيوط متشابكة لا تخفي شيئا، أردتُ واحدا حريريا بلون الياسمين البلدي، توقفنا أمام الزي بتلك المحال لبعض الوقت، معظمه سيجذب السائح، لستُ بسائحة!، ضحكا معا بصوتهما الواحد في ذات اللحظة عندما اشتريتُ “صاجات” الرقص، لم أرقص مرة أمام أي من إخوتي، حتى في أفراح العائلة، بل تحديدا في مثل تلك التجمعات، لم يسألني أي من شقيقاي لماذا جلبتها، لا يعرفان ماذا تخفي النساء في مراياهن الخاصة، في الحجرات المغلقة ترقصن جميعا وإن كن لا يُجدن الرقص، ترقصن لأنفسهن وحدها، فوحدها تستحق، أمام باعة المسابح وسجادات الصلاة وقفنا أكثر، يتحول العالم لخليط لوني مبهر، تلفنا الدهشة البهيجة نحن أسرى اللون، كلٌ منا لأسبابه، لو لم تكن تلك القيود الأمنية المشددة لوقف إبراهيم لتصوير فيلما أو ربما رسم أحمد ذلك العالم على أوراقه العريضة، محظوظة أنا بالكتابة، آخذها معي للبيت، بعيدا عن عيون الأمن والناس وشكوك الكافة، نتجول طيلة الليل على أرصفة المكان الرضيً، بعد ساعة سأقع في غرام سجادة بلون التفاح، صاحب البيع غادر للصلاة منذ قليل، بعد وقت أمضي غير سعيدة لأنه تأخر، سيجلبها لي أحمد ذات يوم، كأرق المفاجآت التي تلقيتها في حياتي، تمنيتُ لو جلسنا قليلا لكنهما يقدسان المشي، ربما لو كان للسير آلهة لكانا شقيقاي أولهما، الناس هنا أكثر من أي شيء، متراصون على المقاهي بتعابير شتى على وجوه جادة وإن حاولت التملص من ذلك، لا أعرف لماذا أراها هكذا، جادة، ربما هو ما يوحدهم في عيني، حتى تلك الضحكات الصاخبة من بعض الزبائن ونادل هنا وآخر هناك، لم تخفي جدية الجميع، الناس وقوفا متبعثرين، بجدية أكبر من جدية رواد المقاهي، الكل يقف لحاجة، بائع ومشتري ومنتظر، ليست هناك واجهات زجاجية وحواجز كالتي في كل أماكن البيع عادة، بضائع متروكة للعيان، الكل يمسك بيديه ويجرب ما تشتهيه عينيه، اشتريت قرطا نحاسيا على هيئة “مخرطة”، هكذا أسماه البائع لي، يأخذه للداخل لتلميعه، يلفه على آلة كهربية دوارة، ما أن يمس قرصها المعدني النحاس يصير شمسا صغيرة في يدي الرجل، يلتقط أحمد وإبراهيم لي صورا باسمة به في ذلك الخان الطويل، خلفي شموس كثيرة في ذلك الليل الذي وقع دون أن نلحظه، شموس من قناديل زجاجية تلفها أطر النحاس البهي ومرايا وفوانيس، يلتقطا الكثير من الصور بهواتفهم فالكاميرات باتت ممنوعة هنا، قارئة الكف الصغيرة تسحب كفي فجأة بعد أن دخلت في إحدى الصور دون مقدمات، أضحك وأسحبه بهدوء، أخبرها أني أعرفه جيدا –حظي-، تغلبني وتجذبه من جديد، أسرح في تكوينها الصغير، طولها عدة أشبار، نحيلة، لها بسمة عريضة وصوت عال وضحكة حاسمة، كانت ترتدي جلبابا أسود يكبرها بقياسين على الأقل، ترفع شعرها الداكن ب “منديل” نسائي مزركش بالأخضر والأزرق، لم أسمع كلمة مما قالت، ضاع صوتها في ضجيج الدنيا، يمنحها شقيقاي ما لم أره وتمضي راضية، في آخر الليل آلهة السير تمنحاني ساعة من الجلوس، على المقهى المنفتح بطنه على الشارع مغني رقيق الحال والصوت، يضع ساقا فوق أخرى ويحرق سجائره بنهم، ظل يضرب على عوده حتى آذان الفجر “كل ده كان ليه لما شفت عنيه”، تتبخر الناس شيئا فشيئا، وكأنما هي صور في فيلم، تنمحي بالتصوير البطيء، مع ساعات الصبح خلا المشهد كاملا إلا من ثلاثتنا، الشمس الحقيقية هذه المرة ولدت كاملة دفعة واحدة، ربما أنا التي لا تلحظ الأشياء سوى بعد تمامها، أو بعد أن تصر هي على لفت إنتباهي الغائب دوما، الصوت يسبق الصورة كشريط فيلم تالف، الحياة تعود فعليا، ولكنها ليست التي كانت هنا في الليلة الفائتة، لم أتبين شيئا واضحا في البدء، رغم تبدل الضجيج الليلي بصمت لطيف، صمت موشى بأصوات طيور لم أرها، تبع صوت الطيور أصوات أخرى غائمة، علت شيئا فشيئا، لا أذكر جملا واضحة، هتافات عالية تسب المحتل البريطاني، كانت تظاهرة، طلقات رصاص متبعثرة خشنة لحقت بأصوات الهتاف، أجذبهما في يدي، أختبيء فيهما وأخبئهما عندي، يربتان على كتفيً معا، أنا لستُ خائفة، إلا عليهما، للآن لم نرى شيئا، الشارع غائب والطريق فراغ، ليس سوى المحال نصف النائمة لم يأتيها أصحابها بعد، نقف مكاننا دون إتفاق، نرسل أسماعنا للخارج، خارج حيز رؤيتنا، طلقة تلي أخرى على مسافة دقيقتين تقريبا، وصوت الهتاف مندفع يرد عليها بكل عافيته، لم أفسر هذه المرة سوى كلمة “مصر”، يبدو أنهما سمعاها مثلي، تبدت على وجوهنا بسمة واحدة وتحركنا معا ناحية الصوت، كانوا بعيدين جدا، كموج يتدافع نحونا ولا يصل، نمشي باتجاههم فيطول الطريق، يناديني باسمي صوت لا أذكره، نلتفتُ جميعا، كانت جالسة على الرصيف، نذهب إليها سويا، لم أعرفها في البدء، شابة حلوة الطلة لكنها حزينة، حزينة حزن قريب، لم يعمل الزمن عمله فيه بعد، دققتُ النظر فعرفتها، كانت “مريم” مريم رضوان، حبيبة فهمي عبد الجواد، الأولى والأخيرة، تمنحني لفافة صغيرة دون كلمة واحدة، تضغط على يدي وتستأذن في الرحيل، لم يعد للرصاص صوت، ولا للهتاف أيضا، ندور حول أنفسنا، على بعد خطوات حواجز الأمس المعدنية، نخرج ممسكين بأيدي بعضنا البعض في طابور قصير، في التاكسي أفتح لفافة “مريم”، لأجد برقعا حريريا بلون الياسمين البلدي ..

……………..

الجمعة

عند مدخل العمارة التقيتها، كانت تنتظرني عائدة من الخارج لنصعد سويا، لست أدري من أين عرفت أني أخاف المصاعد بشدة، ركبنا معا، ضغطت الزر على رقم لم أتبينه، كنتُ أنظر لفستانها المنفوش، طالما أحببت ذلك الفستان، كانت ترتديه في الأوبرا عندما غنى لها عبد الحليم “قولي حاجة”، إنطلق المصعد ولكنه انقسم نصفين، صعد النصف الذي أنا به وبقى نصفها في الأسفل، انتابني الخوف والدوار، جائني صوتها بعيدا بتلك البحة التي أحبها،

: استنيني قصاد الشقة رقم 3

نزلتُ وانتظرتها كما قالت، جاءت بعد قليل، أدارت مفتاحها في الباب وتراجعت للخلف مشيرة لي بالدخول أولا، كان بهوا طوليا فسيحا، يبتدأ بنافذة واسعة عالية بلا زجاج أو شيش، نافذة لها سور أبيض اللون عليه بعض أصص الزرع الفخارية الصغيرة، كانت أول ما واجهني عندما دخلت، مضينا يمين البهو، كانت الكراسي متراصة بشكل متقابل، نظام أوحى لي بصرامة تستولي على جو المكان، كانوا جلوسا عن يميني ويساري، أشخاص أنيقين في بساطة شديدة، بعض الفساتين النهارية لها ألوان ربيعية فاتحة  وبعض البدلات وربطات العنق الحمراء، كانت جميعها حمراء وهو ما لفت انتباهي بشدة، لم ألحظ وجوه، لا أعرف أحدهم، أنا أكيدة،  لذا دققت في الملابس وحدها، أدركت اختفاء “نادية” فنظرت خلفي منادية، لم ترد، يبدو أنها تتفقد أحوال الطعام بالمطبخ أو تبدل ملابسها، عندما وصلتُ لصدارة المشهد بوغت بوجود أمي، كانت ترتدي ثوبا حريريا فضفاضا أسود اللون، وكان جدي جوارها، من فرط فرحتي بوجوده لم أسلم على أمي، إنكببتُ فوق جدي بكامل جسدي، عناقا لم أعانقه لأحد من قبل، كم كنتُ أفتقد هذا الرجل، بعد أن جاوزتُ الأربعين عرفتُ أنه كان دوما الرجل الأهم في حياتي كلها، يداه لازالت تربت على ظهري، وروحي تغوص به كليا، ضحك وضحكتُ بعلو الصوت، لم أسمع صوت ضحكته الصافية منذ وقت طويل، نسيت كل الحضور الذين لا أعرفهم جميعا، حتى أمي ونادية نسيتهم، بعد وقت عادت نادية، هذه المرة في فستان أزرق ضيق يتخذ شكل جسدها، لازال شعرها مرفوعا للأعلى وبعض خصلاته الذهبية ملقاة على جبينها بحنو، تبتسم وتشير لنا بالدخول نحو قاعة في الجهة المقابلة، لم يكن الطعام، مائدة مستديرة عملاقة، قسمت الحضور للجلوس عليها بلافتات صغيرة تحمل الأسماء، جاء مكاني بعيدا عنها، لم تعد أمي هنا، ولا جدي، قد غادرا دون أن أودعهم، الآن تفحصتُ الوجوه بعناية، لكني لم أعرف أحد مرة أخرى، هي تعرفهم جيدا، تنادي الجميع باسمه مجردا ببساطة شديدة، تلف كلماتها تلك البسمة الهادئة، لا أعرف لماذا دعتني اليوم، في الأسبوع الماضي حدثت مشكلة كبرى بالجامعة، مشادة كلامية أفضت إلى شجار، كان أحد الزملاء ينتقد دور المرأة المصرية في العمل العام ساخرا بشكل لاذع، لم أكن طرفا في الحوار، كنتُ على طاولة الكافتيرا المجاورة أراجع بحثي عن “تروفو”، لم يعد بمقدوري المواصلة مع تمادي استفزازات الزميل، الأصوات علت وتجمهرت الطلبة، سألتُ عن مكتب رئيس الجامعة الذي لم أزره يوما، كانت هناك تراجع تلالا من الأوراق فوق مكتبها، للمرة الأولى أراها تضع نظارة طبية، نظارة سميكة ذات سلسال ذهبي طويل، لا أعرف لها سوى تلك السوداء القديمة مع أحمد مظهر، أطلعتها على الأمر باختصار فطلبت رقم هاتفي، مشيتُ دون أن أفهم، مساء الأمس جاءني صوتها المميز من رقم لا أعرفه، حددنا موعد اليوم دون تفاصيل، طلبت مني سرد الواقعة أمام الجميع، ساد الصمت، وزعت نظرة حاسمة على كل الحضور وهي تطلب منا إعداد تقرير جماعي عن تاريخ المرأة المصرية في العمل العام خلال المائة عام الماضية، أخبرتنا إنه يمكننا تقسيم العمل لمراحل زمنية، كما شددت على أن نبقى في أماكننا حتى الانتهاء من العمل!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون