معركة السيف والكلمة

معركة السيف والكلمة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرانسوا باسيلي 

نظرة علي مشهد 

ماذا يفعل الكاتب العربي في مجتمعٍ ما هو إلا سجن كبير، يقف علي بابه سجانٌ ضخم مسلح لا يسمح بحركة أو كلمة إلا بإذنه؟ سجانٌ قد يكون هو الحاكم نصف الإله، وقد يكون هو التراث السائد الذي يحكم علي من يخالفه بالكفر والخيانة والهرطقة والجنون؟ 

هل يقول ما يريده السجان أو التراث الخانق؟ أم يقول ما في قلبه وضميره سافحاً حياته علي مذبح الصدق واحترام الذات؟ هل الفكرة الحرة الحقيقية صارت لعنته التي تطارده ويطاردها، تذبحه ويذبحها، بلا أمل في مصالحة وعناق؟

وماذا يفعل الكاتب العربي وهو يري كل ما حوله من مدنٍ ودول وبلاد وشعوب وحضارات تنهار وتسقط وتخرب بفعل حروب وصراعات ورايات عبثية بدائية تحمل غبار الكهوف السحيقة لتدمر ما بقي من شبهة إنسان كان بائساً مشوهاً في وطنه وصار هارباً مشرداً منبوذاً في الأرض؟

هل يمكنه أن يتجاهل ما حوله من سقوط عربي تاريخي هائل ليجلس قارضاً لشعر أو كاتباً لرواية لا علاقة لها بما حولها، وكأن الكاتب يقيم في بيت هاديء علي شاطيء بحيرة في سويسرا؟

 

أنظر إلي الخراب العربي الهائل الماثل أمامنا اليوم، ثم اقرأ ما يكتبه الكاتب العربي اليوم، لتدرك مدي الهوة الإنسانية الأخلاقية المأساوية التي تحتوي الجميع. 


رأيت السيف يبرق  

العذاب الأعلى للكلمة هو إدراكها الباهظ لحقيقة أنها تظل حبرا على ورق بينما يتغير الواقع حولها بفعل السيف وفعاليته.

والعذاب الأعلى للكاتب ينبع من إدراكه الفادح لحقيقة أنه لا يملك في العالم سوى الكلمة، بينما يملك غيره السيف.

وبينما تتأجج الحياة بعنفوانها ووحشيتها، ويقف الموت بنهائيته وحسمه، فوق حد السيف، لا يتأرجح فوق حروف الكلمة.. سوى الحلم!

وبينما يسكب الكاتب عصارة فكره وجهد عمره داعيا لفكرة أو لرؤية لا يكاد يرى لها أثرا، يسقط السيف مرة واحدة، فتتدحرج الرؤوس وتشتعل الثورات وتتغير الموازين، فالسيف- بصوره المختلفة من حديد قاطع إلى مال أو نفوذ أو بطش أو سلطان – هو المهيمن الأعلى في كل مكان.. على الأرض والخبز والمادة والثروة، أي على الإنسان والمجتمع والتاريخ والمستقبل.

 رأيت الكلمة تحلم

وكاد أن يكون حكم السيف على تاريخ العالم، أن يكون طغيانه وسلطانه، قطعيته وحسمه وإرهابه، كاد أن يكون ذلك مطلقا وشاملا...

لولا أنه في مقابل السيف، في الطرف الآخر، على النقيض منه، في مواجهته، كانت هناك دائما، وفي البدء : الكلمة!

وقفت الكلمة، بكل هشاشتها وتجردها، بكل هلاميتها وأثيريتها، وقفت عبر التاريخ لتكون هي المقاوم والمناوئ الأول، والمحرض المؤلب المؤرق العنيد.. ضد السيف وفي مواجهته..

ولأن سر السيف يكمن في قدرته الحاسمة على فصل الرأس عن الجسد.. كان لابد لمن يقاومه أن يكون بلا جسد على الإطلاق. كان لابد أن يكون الخصم حلما، شعرا، فكرة، رؤية، شوقا، طموحا، تصوفا، جموحا وخروجا.. كل ما لا جسد له...كان لابد أن يكون كلمة.

وبينما يثير السيف في الإنسان أسوأ ما فيه : العدوان والعنف والقتل والإرهاب.. أو الجبن والذل والرعب والخضوع ، كانت وما تزال الكلمة تنتشل في الإنسان أجمل وأنبل ما فيه : أشواقه وأحلامه وعطشه للحب والسلام والعدالة والحق، أفراحه بالحياة وبالآخرين، ورفضه للظلم والألم والدمامة..

المجابهة
في كل عصر لابد أن تقع المجابهة بين السيف والكلمة..

يرتفع السيف ويهوى، فتقدم رأس المعمدان على طبق، يلمع السيف في الشمس آمراً، فتحرق كتب ابن رشد، وينفي شوقي ويعتقل الجواهري ويطارد البياتي..

ويتململ السيف في جرابه قليلا فتفتح السجون أبوابها للشعراء والكتاب من اليمين واليسار، وتزين الصفحات بقصائد المديح والمبايعة وتغير الكلمات ألوانها وثيابها لتتلاءم وتتواءم مع السيف وأوامره..

لكن تظل هناك دائما كلمة ترفض أن تتغير أو تنحني أو تستحي أو تتهيب.. تظل هناك دائما كلمة ترفع رأسها أمام السيف بجرأة وتهور.. ينطق بها نبي أو شاعر أو كاتب أو فيلسوف أو صعلوك أو طفل..

تظل هناك دائما كلمة تؤرق السيف وتبارزه، تفقأ عين المهرجان الكاذب والموكب المزيف، تعلن بنزق أن الإمبراطور بلا ثياب، تظل هناك دائماً كلمة قادرة ثائرة طائرة فوق الأسوار وخارج الأسلاك الشائكة وأبعد من أنياب الكلاب البوليسية، تظل تتطاير كالسر من شاعر إلى شاعر.. تظل منفية ومصادرة، ممنوعة ومطلوبة ومحاصرة.. كالمرض وكالحشيش وكالجريمة.

تظل الكلمة هي الأمل الوحيد والحلم الجميل والخلاص المثير.

الكاتب 
الكاتب الأصيل هو بالضرورة إنسان وحيد في العالم.. وحيد بالعالم..إنسان بلا أحد. مقطوع من شجرة.. تفصله عن العالم والآخرين هوةٌ من أحلامه وآلامه وآماله، وفضاءاتٌ مهولةٌ من همومه الكونية الباهظة.

إنه وحيد لا ينتمي لأحد لأنه يصر على الانتماء للكل، يصر على احتضان الإنسانية جمعاء، وعلى حقه في احتمال آلامها كلها، يصر على مسؤوليته الأدبية عنها.

ينتمي الكاتب الأصيل للإنسانية لذا لا ينتمي لإنسان، لا يستطيع إلا أن يعتدي على أحلام الآخرين وآلامهم ، مستولياً عليها لنفسه، لتصبح هي ألمه الخاص وحلمه الشخصي.

الكاتب الأصيل وحيد لأنه مريض بالطفولة ، يصر على أن يظل طفلا بريئا وعلى أن يظل يرى العالم طفلا، ويظل يطالب العالم بالطفولة وبالبراءة وبالصدق وبالدهشة لنفسه وللعالم ، ويظل يلاحق العالم بالأسئلة الأساسية الباهظة الصعبة، ويفتش بإصرار عن أحلامه وطيوره وأناشيده التي لم تولد بعد.

لذلك يظل الكاتب وحيداً في العالم، لا يملك سوى كلمته، يترك الكاتب أباه وأمه ويلتصق بالكلمة، ويكون الاثنان جسداً واحدا.

والكاتب الأصيل – في نفس الوقت – هو أكثر من شيء واحد، إنه دائما مجموعة متناقضات ومجموعة أزمنة وأمكنة ومجموعة شعوب، إنه تلخيص للتاريخ وللإنسانية وتجميع لهما.. تلخيص للمستقبل وعطش له.. فلا يستطيع إلا أن يضع عينا على الماضي وأخرى على المستقبل، لا يستطيع سوى أن يكون هادما وخالقا في آن ، لذا يظهر له الأعداء من الماضي والحاضر معا، ولذا يكون المبدع الحقيقي صعبا وخطرا ومتناقضا ومعقدا.

إنه لا يستطيع ان يكون سهلا.. بسيطا.. أو واحدا.

إنه وحيد لكنه ليس واحدا.

يقيم الكاتب العربي في أراضٍ وأزمنةٍ ومجتمعاتٍ معادية له، فهو صوت غير مرغوب فيه، عملة غير مقبولة ولا موثوق بها ولا متداولة، والسيف العربي مسلطٌ دائما يبرق أمام عيني المبدع العربي وفوق رقبته.

وهو ليس سيف السلطة وحدها..إنما هو أيضا سيف القيود والأغلال المستقرة في ضمير مجتمع الكاتب المكبلة له تصورا وخيالا وإيقاعا وذوقا وفكرا ولغة ومنطقا، سيف هذه الترسبات الحضارية المعلق فوق رأس المبدع العربي يأخذ في عالمنا العربي أبعادا أوسع واكثر شيطانية من أمثال هذا السيف في المجتمعات الأخرى.

ومأزق المبدع العربي هو أن دوره الأساسي يكمن في عملية الهدم والبناء لخلق الجديد ودفع الحضارة، بينما كل ما حوله من فكرٍ وقيم ومعطيات وتقاليد تحاصره في صورة محصنات ومحظورات ومسلمات لا يمكن الاقتراب منها أو لمسها، ولذلك لا يمكن للمبدع العربي الأصيل إلا أن يكون من الخوارج، والا أن يكون من الجوارح والصقور، إلا أن يقف من شعبه موقف النذير والشعلة والريح، حارقا النباتات الميتة.. ومقوضا للأقبية العفنة.

إن المبدع الأصيل لا يملك إلا أن يقف من مجتمعه وشعبه موقف المعارض حضاريا، وليس فقط المعارض سياسيا أو ذوقيا أو منهجيا، لا يملك إلا أن يقف موقف المنتقد الغاضب حضاريا، المشترط المسائل الملاحق المهتم الحزين المحب المفترس حضاريا.

المستقبل

منذ خروج المستعمر الأجنبي، منذ أكثر من نصف قرن، والشعوب العربية تمتلك المقدرات والثروات المادية والتاريخية للتقدم الحضاري اللائق .. وما فعلته – وفعلناه- حتى الآن هو إهدار هذه النافذة الزمنية النادرة في مسيرات سلفية بالغة التدمير للذات، في إجترارٍ ضار لمسلماتٍ ظاهرية فاقدة للأهلية، لم تعد صالحة سوي للمقابر الجماعية، تتسربل أساساً في أردية التدين السطحي الاكروباتي الذي أصبح فارغاً من كل معني إنساني وكل مظهر جمالي، هذا التدين السطحي الخانق كان وما يزال هو اللعنة التاريخية التي تلاحق كل محاولات النهضة، ولا يمتلك هذا التدين السطحي المبتذل سوي حد السيف يرهب به كل من يحاول أن يفكر فكراً إنسانياً عصرياً، فيرمي التفكير بتهمة التكفير. 

لا يملك المبدع ترف الصمت أمام الضياع المأساوي لهذه اللحظة والشرفة التاريخية الفريدة التي يسد السيف عنها هواء الحرية، عليه أن يرفع الكلمة سيفاً فكرياً مضاداً يقارع به سيف التدين السطحي المكفر المكفهر القاتل. 

 

لأن في كل عصر لابد أن تقع المجابهة بين الكلمة والسيف، وعصرنا هو الأكثر إلحاحاً علي ضرورة وقوع هذه المجابهة.

 

مقالات من نفس القسم