متعة ڤنسنت الحقيقية!.. عن فيلم  Vincent أو ڤنسنت (1982)

1
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحـمد عبد الرحـيم

فى قائمة مُخْرِجِىَّ المفضلين ستجد المخرج الأمريكى، جميل الجنون، تيم بيرتون فى مرتبة متقدمة. ورغمًا عن أن معظم هؤلاء المخرجين قدموا أفلامًا أولى قصيرة مرعبة السوء، لا تشى بموهبة قوية، أو شخصية مستقلة، أو مستقبل باهر؛ فإن بيرتون بفيلمه القصير ڤنسنت يُعد استثناءً لذلك.

بين سن الثالثة عشرة والحادية والعشرين، صنع بيرتون فى الفناء الخلفى لمنزله أفلامًا قصيرة، أغلبها تحريك، كتجارب بدائية ظهر فى بعضها حسّ مختلف؛ غرائبى، وسوداوى، وإن كان مرحًا فى الوقت ذاته. آخرها المعنوّن بـStalk of the Celery Monster أو ملاحقة وحش الكرفس (1979)، والذى أتمه كاملًا بالقلم الرصاص خلال دراسته فى معهد كاليفورنيا للفنون، أهلَّه للعمل فى استديوهات ديزنى بعد تخرجه، كمحرِّك للكارتون ورسام تصوُّرى، ليصبح جزءً من أفلام كبيرة، منها التحريك مثل The Fox and the Hound أو الثعلب وكلب الصيد (1981)، ومنها ما يمزج التحريك بالحركة الواقعية مثل Tron أو ترون (1982).

لثقتهما فى موهبته، وأسلوبه المختلف، منح اثنان من منتجى الشركة الفرصة لبيرتون كى يخرج أول فيلم قصير احترافى له، واهبين إياه 60 ألف دولار ليحوِّل قصيدة كتبها بعنوان “ڤنسنت” إلى فيلم stop motion؛ يتم فيه تسجيل حركة العرائس، بطلة الفيلم، فى لقطات منفصلة، ثم تُعرَض متتالية كعمل تحريكى. وخلال شهرين، أتم بيرتون الفيلم بالأبيض والأسود، كعمل من 6 دقائق.

الفيلم خاوٍ من الحوار، وإنما مروى بالكامل عبر تعليق قادم من خارج الكادر، وتدور قصته عن الطفل ڤنسنت مالوى البالغ من العمر 7 سنوات، وهو طفل مهذب، يراعى شعور الآخرين، ويطيع كلام الكبار، لكنه كثيرًا ما يفارق واقعه، متخيلًا وجوده داخل أفلام الرعب التى قام ببطولتها نجم أفلام الرعب الأمريكى ڤنسنت برايس، ويرفض قراءة كتب الأطفال، مُفضِّلًا روايات الرعب التى كتبها المؤلف الأمريكى إدجار ألن بو؛ ليغرق فى أحلام يقظة مخيفة تتراوح ما بين العيش مع عناكب وخفافيش، إلى إغراق عمته فى شمع ذائب ليحولها إلى تمثال، وتحويل كلبه الطريف إلى زومبى (ميت حى) كى يتصيدا الضحايا فى لندن، وصولًا إلى تصوُّره أن له زوجة تم دفنها حية، ليحفر الأرض بحثًا عنها، مُخرِّبًا حوض زهور أمه فى الطريق إلى ذلك!

تضطر الأم لاتخاذ موقف مع ابنها العجيب، الذى يبدو مكتئبًا ولا يخرج تقريبًا من المنزل، فتخبره أن الجو مشمس، وعليه أن يخرج ليلعب. ولأن ڤنسنت يعيش حالة من الحزن، ويظن أنه حبيس برج اللعنات، انكتم صوته ألمًا، وردّ على أمه بورقة كتب فيها: “أنا أقارب الموت. البيت استحوذ على روحى، ولا أستطيع مغادرته!”، لتغضب أمه، وتخبره مُصحِّحة: “أنت لا تقارب الموت، والبيت لم يستحوذ على أى شىء، إن كل هذه الألعاب فى رأسك. أنت لست ڤنسنت برايس، أنت ڤنسنت مالوى. وأنت لست مُعذَّبًا، أنت طفل فى السابعة، وعليك أن تخرج وتحظى بمتعة حقيقية!”

بمجرد خروج الأم من غرفة ڤنسنت، تنقلب الأمور إلى الشر؛ لترتعش الحجرة، ويخرج من جدرانها أذرع هياكل عظمية تريد النيل من البطل، ويتزايد حضور الوحوش فى المكان (عمته الشمعية، كلبه الميت، زوجته المدفونة.. وآخرين) لدرجة أن ڤنسنت يشعر بوطأة الجنون، لكنه يعجز عن الهرب من حجرته، ويسقط أسير يأس شلَّ حركته، ليردِّد بائسًا بصوت واهٍ جملة من رواية “الغراب” لإدجار ألن بو تقول: “روحى المسجاة أرضًا.. لن ترتفع للأبد!”.

أول ما يمكن قوله بخصوص هذه القصة هو الحمد لله أن بيرتون لم يقدّمها ككتاب للأطفال كما كان ينتوى، وإلا كان كتابًا يُحكَى ليس قبل النوم، وإنما لعدم النوم. فالحق أن العمل، من قصته إلى صورته، ملىء بعناصر مقبضة، ولحظات مرعبة، ناهيك عن بطل مكتئب له أحلام شريرة، لا يتجاوز مشكلته فى النهاية، بل ينتهى شبه ميت! هذا غير معتاد بالنسبة لاستديو مثل ديزنى؛ أفلامه مرحة الطبع، زاهية الألوان، طيبة المقصد، تحوى دروسًا أخلاقية تحض على الخير والتفاؤل، وتؤكد على الطفولة بمعناها البرىء المُبهِج. والسؤال هنا ليس كيف أقنعهم بيرتون بصناعة فيلم، ولو قصيرًا، بذلك المضمون الأدبى أو البصرى؛ وإنما ماذا أراد قوله عبر ڤنسنت الذى يقاسى حياة عابسة كلها كوابيس بشعة؟!

بيرتون لم يرد أن يقول إلا شيئًا واحدًا؛ أن ڤنسنت لا يقاسى حياة عابسة، أو يشاهد كوابيسًا بشعة. حياة ڤنسنت بهذا الشكل هى اختياره، وفرحته الخاصة. وما يراه من كوابيس هى أمور من ابتكاره، وليست مناظر مخيفة يراها فى نومه مثلًا. وما تصنِّفه أنت، أو أمه، كبشاعة فيها، ليس إلا متعة بالنسبة له.

ڤنسنت ليس طفلًا مريضًا نفسيًا، ولا يؤذى أحدًا على الإطلاق. إنه طفل لطيف مُطيع – كما يؤكد مونولوج التعليق ومشاهد الفيلم – يلعب مع كلبه وقطته فى سلام، ولا وجود لذرة كراهية فى قلبه. كل ما نراه ليس إلا ألعابًا فى عقله، صحيح تبدو شاذة، وتفصله عمن حوله، وتبعده عن الخروج واللعب كأبناء سنه، ولكنها تمثِّل الشىء الذى يفضِّله، ويرتاح إليه، كما أن بها صورًا مبدعة، يتصادف أنها مرعبة؛ لكن الرعب فى ذاته صنف أدبى مُعترَف به، وما يفعله ڤنسنت، أو بالأحرى يتصوّره، قد لا يدل على مشروع سفاح، وإنما بذرة فنان.

خوف أمه عليه، وغضبها منه، ونصحها له منطقى وبديهى من أم تحب طفلها. لكن الأمر هذه المرة معروض خارج الإطار التلقينى المألوف الذى سيتبنى نظرة الأم، أو الكبار بشكل عام، فى الحكم على طفل انطوائى، موحش الخيال، لا يلعب الألعاب المعهودة. إن الفيلم بأكمله مروى من وجهة نظر ذلك الطفل نفسه، والذى لا يعذِّبه فى الواقع إلا رفض الكبار لخياله، وإجبارهم له على نوعية متعة لا يرضاها. إن ڤنسنت يعيش العذاب “الحقيقى” إذا ما حاصره الكبار بهذه الأفكار، وأجبروه على الخروج، لتصبح حريته فيما يرونه سجنًا، وسجنه فيما يرونه حرية!

نعم، لابد أن يخرج ڤنسنت من عزلته، ويشم الهواء، ويتعرّف على الناس والعالم، لكن فى الوقت ذاته؛ اتركوا ڤنسنت لما تسموه عذابات، ويسميه هو لعبًا. فهذا هو الشىء الذى يريده، ويحبه، وربما يتفوّق فيه، ليصبح بعدها مبدعًا له، ومتكسّبًا منه. إنكم لو رحمتم ڤنسنت من أفكاركم التقليدية لن تساهموا فى تنشئة مختل أو مجرم، وإنما شخص قد يتحوّل إلى مختل أو مجرم لو ابتعد عن أفكاره غير التقليدية.

لو وسَّعنا بؤرة العدسة قليلًا، ستكتشف أن ڤنسنت هو الحالم الخالص داخل كل منّا. إنه لا يستطيع أن يعيش مكبوتًا بين ضلوعنا، أو عبدًا لأحكام الغير. كل ما يبغيه هو أن يعيش أحلامه. والدرس واضح: دعوا ڤنسنت يكون نفسه، وإلا سيموت؛ أى سيفقد خياله المبدع، وتميّزه، وبالتالى حياته (بالمعنى المجازى). ومن يعرف؟ جائزٌ أحلام اليقظة المخيفة هذه تحوِّل الطفل الانطوائى الغريب ڤنسنت إلى المخرج الناجح الثرى تيم بيرتون.. أم أنها قامت بذلك فعلًا؟!

فى “ضربة معلِّم” أسند بيرتون مهمة التعليق الصوتى للنجم الذى يعشقه بطل الفيلم، ويريد أن يعيش شخصيته السينمائية، ويتشارك معه فى الاسم الأول: ڤنسنت برايس. إن برايس الذى قام ببطولة عدد كبير من أفلام الرعب من الأربعينيات إلى السبعينيات، وصار أيقونة لسينما الرعب الأمريكية، مثَّل هوسًا لتيم بيرتون فى صغره. وڤنسنت، الشخصية، ما هو إلا صورة من بيرتون طفلًا؛ ففضلًا عن التقارب الشكلى الصريح بينهما، كلاهما وقع فى عشق برايس، وسينما وأدب الرعب، ولم يفهمهما الآخرون جيدًا. كما أن ڤنسنت، الفيلم، من أول عنوانه إلى أحداثه، عبارة عن تحية مباشرة لبرايس وأفلامه.

كم أحببت أن بيرتون، المخرج المبتدئ، استطاع إقناع برايس، 71 سنة وقتها، ليروى قصة هوس الطفل / المخرج به. وكم أحببت – أكثر – سعادة برايس بالمُنتَج النهائى، ليصف العمل كـ”أكثر شىء سار ومشبِع حدث لى، إنه الخلود، وهو أفضل من نجمة تحمل اسمى فى شارع هوليوود!”. كما ترى، هذا تكريم من مخرج صغير لممثل كبير، وحلم لفنان بالعمل مع قدوته يتحقّق، مع قدرته على نيل إعجاب تلك القدوة، مُنتجين معًا عملًا مدهشًا يُضاف إلى سيرتهما. جدير بالذكر أنه ستربط صداقة بين بيرتون وبرايس حتى وفاة الأخير سنة 1993، وسيظهر برايس فى فيلم بيرتون الطويل اللاحق Edward Scissorhands أو إدوارد ذو المقصات سنة 1990 فى دور المخترع.

الأداء الصوتى لبرايس كان شديد الطرافة والبلاغة. لاحظ مثلًا ابتسامة تذوب فى صوته عندما يخبرنا أن ڤنسنت، بطل الفيلم، كان طفلًا مثاليًا و”لكنه أراد أن يكون مثل ڤنسنت برايس!”، أو مبالغاته الساخرة عند وصف ألم البطل فى عبارات مثل “عجز عن الحديث لأن سنوات العزلة جعلته شديد الضعف!”، وحسمه مهيب الجدية فى نطق جملة الختام التى تشى بالموت. على مستوى بسيط، جاء الأداء مناسبًا لنبرة الكبار عند سرد قصة مخيفة للصغار، وإن فى إطار خفيف الظل. وعلى مستوى أعمق، مثَّل حضور ڤنسنت برايس، كنجم أفلام الرعب، صوتًا صادقًا لأحلام البطل (سواء بطل الفيلم: ڤنسنت الطفل، أو أصله فى الواقع: بيرتون الشاب)، بل مؤيدًا له؛ ليساند قضية الفيلم، وينطق معناه بطريق غير مباشر. فبرايس هنا لا يعرض ڤنسنت كضحية لحبه؛ بقدر ما يُرهِص بأن منع ڤنسنت من هذا الحب سيحوِّله إلى ضحية. والنبرة الحزينة لصوته فى النهاية ليست حزنًا على حال ڤنسنت، الطفل ذى الخيال الغريب، وإنما حزنًا لما سيؤول إليه لو حُرِم من هذا الخيال. ليبدو برايس كالكبير الوحيد الطيب والمتفهِّم فى هذا العالم، ورسول عالم الفن الذى يبارك أحلام البطل ويرثى قتلها فى النهاية. 

جودة الصورة تتعدى الامتياز. انْسَ كون بيرتون صغير السن، 24 سنة وقتها، بدون خبرة عظيمة فى الإخراج، ولا يعمل بإمكانيات جبارة أو ميزانية فلكية؛ فما ظهر لا يقل جمالًا وقوة عن أعمال مخرجين عظام، يعملون بمبالغ تتجاوز الستة أصفار. انظر للمذاق البصرى للفيلم، واستمتع حتى الثمالة بإبداع الأبيض والأسود، والرسم بالظلال. إن حب بيرتون لسينما الرعب الألمانية، خاصة أعمالها التعبيرية فى العشرينيات، واضح فى ڤنسنت كما فى أغلب أعماله بعدها. هناك ولاء وإخلاص لصورة هذه الأفلام لكن على نحو له شخصيته المتفردة. إنه لا يكرِّر، وإنما يستغل هذا الاتجاه، شاقًا فيه طريقه الشخصى البديع.

الحركة سريعة الإيقاع، تأتى بالشخصيات من الظلال، أو تُظهِرها من تحولات الكتل العادية حول البطل. ليس فى ذلك سينما مشوِّقة جذابة فحسب، وإنما تعبير عن عالم البطل الذى يفيض أحلامًا غزيرة أيضًا. تصميم الشخصيات حدِّث فيه ولا حرج، ڤنسنت هو بيرتون، بملامح بريئة رغم خيالاته، وعيون متسعة ترى ما لا يراه الغير، لكن مهمومة منكسرة لعدم فهم الغير لصاحبها، وشعر منكوش يتطابق وشعر بيرتون المنكوش منذ صغره إلى الآن؛ حتى وهو فى السابعة والخمسين من عمره!

رءوس الكبار، كالأم والعمة، تظهر أعلى من الكادر دائمًا. من ناحية، يتماشى هذا مع رواية الفيلم كله من وجهة نظر ڤنسنت الطفل ضئيل الحجم، ومن ناحية أخرى، يعكس نوعية علاقة ڤنسنت بالكبار عمومًا؛ فهم قوم ضخام يكادون يبتلعونه، وصلته بهم تكون إما عبر يد العمة التى تربِّت على رأسه فى حنان، وإما سبابة الأم التى توجِّه اللوم وتصدر الأوامر؛ وهو ما يجعل هذه المسافة دائمة الطول بينه وبين رءوسهم تصرِّح بابتعاده عن أفكارهم، وحياتهم، وتدعم استقلالية عالمه، والذى قد يرفض السماح لهم بالتدخل فيه لأكثر من ذلك.

من أروع ملامح الفيلم قطة ڤنسنت، طويلة الذيل، التى يفتتح الأحداث بحركتها. فبعد قفزها من السور فى اللقطة الأولى، ستدفعك انسيابية جسدها ونعومة حركتها إلى تصديق أنها مرسومة، وتتحرك بطريقة الكارتون، بينما هذه القطة عروسة تتحرك بنظام تسجيل اللقطات. كاتب هذا المقال، وعدد من فنانى الرسوم المتحركة الشباب، عاشوا هذه الحيرة سنة (2005) مع فيلم بيرتون التحريكى Corpse Bride أو العروسة الجثة، من فرط انسيابية الشخصيات ونعومة حركتها، ظانين أنه computer generated & animated أو عمل يتم تصميمه وتحريكه بالكومبيوتر، كأحدث أنواع أفلام التحريك فى عالم اليوم، لنتفاجأ جميعًا فى النهاية بأنه عمل stop motion يقوم على عرائس تتحرك بتجميع لقطات مصوَّرة لها. أى أن بيرتون مُصر على إذهالنا فى شبابه، وإلى الآن!

كتب كين هيلتون موسيقى الفيلم، مستوحيًا لحنها الرئيسى من لحن قديم بعنوان The Streets of Cairo أو شوارع القاهرة، والذى يُعرف أحيانًا بـThe Poor Little Country Maid أو خادمة الريف الصغيرة الفقيرة (ويقترب من لحن الأغنية الشعبية العربية “كنت فين يا على”). فى الأساس يرتبط هذا اللحن بأغانى الأطفال الشعبية وأفلام الكارتون المرحة، كما أنه مستعمَل بوفرة من قِبل الموسيقيين الذين يفترشون الأرض فى دول مثل الهند، عازفين للثعابين كى ترقص، لذلك يشيع فى خلفيات الأفلام التى تصوِّر الشرق (مثل تترات بداية الفيلم الأمريكى Abbott and Costello Meet the Mummy أو أبوت وكاستيللو يقابلان المومياء (1955) الذى يدور فى مصر). أى أن بيرتون، بذكاء ملحوظ، اختار لحنًا يقع فى المنتصف بين إيحائه جوًّا طفوليًّا، وجوًّا مخيفًا أيضًا؛ وكأن الفلوت الذى يعزفه ڤنسنت على نحو برىء فى لقطة البداية قد يكون لإخراج ثعبان سام من جعبة ما! باقى الموسيقى على الأرغن جسَّدت هديرًا صاخبًا لأحداث لا يراها إلا البطل، واقتربت بالفيلم من أفلام الرعب الصامتة التى كان يُعزف بجوارها الأرغن. لنقضى الوقت بين براءة الطفولة، ورعب الخيال، وأسى البطل فى قهره ودفعه نحو “العادية”؛ لاسيما مع عزف الفلوت الذى يختم الفيلم فى رثاء بيِّن.

تظل لحظة النهاية هى أجمل لحظات الفيلم إخراجيًا؛ حيث تتحرك الكاميرا متراجعة للوراء بسرعة، ليظهر ڤنسنت مُلقَى على الأرضية كالصريع، بينما مساحة السواد تكبر وتكبر أعلاه، ليس كحجر مهول جاثم فوق صدره، وإنما كمن يُدفن تحت اكتئاب ثقيل يتزايد حجمه، مما يسبِّب غصة مؤلمة لا تنزاح بسهولة.

جاء تعليق الفيلم / قصيدة بيرتون مُعبِّرًا، وتشابه مع قصص الأطفال التى كان يكتبها المؤلف الأمريكى ثيودور سوس چيزيل، المعروف بـ”د. سوس”، حيث الشخصيات خصبة الخيال، والأفكار السوداوية، والحس الكوميدى، والسرد المقفَّى (د. سوس واحد ممن غيَّروا أدب الطفل للأبد، وكان من ملهمى بيرتون فى طفولته). إن النص يقدم قصة غير موجّهة للطفل، فى إطار قصة الطفل، لتبلِّغ معنى للطفل داخلنا؛ وفى ذلك إبداع نادر. مع استنكارى لافتقار القصيدة إلى تنوع المفردات؛ ليشمل نصها القصير ذكر كلمة nice مرتين، و horrible مرتين، و ghoulish مرتين، و tormented مرتين، و beautiful ثلاث مرات، إلا أن هذا لم يمنعنى من الافتتان بها، وحفظها عن ظهر قلب، لأردّدها مع الفيلم فى كل مشاهدة جديدة!

بقدر ما تتشابه ملامح بيرتون مع ڤنسنت، تتشابه ملامح فيلمه القصير هذا مع أفلامه الطويلة اللاحقة كمخرج. ليصير الفيلم مثل مفكرة صغيرة تضم أحلام بيرتون المستقبلية الكبيرة، ويمكن من خلاله تأصيل عالمه الفانتازى القادم. فالكلب الزومبى ستجده مجددًا فى Frankenweenie أو فرانكنوينى (2012)، دودة الرمال المتوحشة التى تظهر مرتين ستجدها مجددًا فى Beetlejuice أو عصير الخنفساء (1988)، الطفل الموهوب البرىء الذى يعيش مظلومًا فى عالم الكبار ستجده مجددًا فى Edward Scissorhands أو إدوارد ذو المقصات (1990)، الحضور ممتلئ القد للأم ستجده مجددًا فى Sleepy Hollow أو سليبى هولو (1999)، وهناك ظهور خاطف لشخصية جاك سكلينجتون والذى سنشاهده كملك القرع العسلى فى فيلم بيرتون مؤلفًا ومنتجًا The Nightmare Before Christmas أو كابوس ما قبل عيد الميلاد (1993)، وأخيرًا، فكرة الإنسان المختلف عن المجموع، الموصوف منهم كـ”غير طبيعى”، هو البطل عند بيرتون، خيِّرًا كان أو شريرًا، ناجحًا أو فاشلًا، وذلك لإيمانه أن هذا النوع دومًا ما يكون “فوق الطبيعى”، مالكًا موهبة فريدة لا تتوافر عند الباقين من الطبيعيين، وهو ما ستختصره جملة فى فيلمه مخرجًا Batman Returns أو عودة الرجل الوطواط (1992) تقول: “إن هؤلاء المدعوين أشخاص عاديون هم من يخذلونك دائمًا”؛ وهى فى اعتقادى جملة / مفتاح لفهم شخصية بيرتون وأفلامه. 

من المفارقات اللاذعة أن بيرتون بعد عامين من ڤنسنت سيكتب ويُخرِج بتمويل ديزنى فيلمًا قصيرًا جديدًا بعنوان Frankenweenie أو فرانكنوينى (1984)، والذى – عكس ڤنسنت – قابل هجومًا ضاريًا من الشركة، وصل إلى حد فصل بيرتون من عمله، بتهمة تبديد نقود الشركة فى صناعة عمل يخيف الأطفال. المفارقة لم تكن بين نجاح عمل وفشل آخر. المفارقة اللاذعة كانت أن بيرتون فى غضون سنوات قليلة جدًا بعد فصله، سينجح كمخرج أفلام طويلة، وتحظى أفلامه بشعبية واسعة وإيرادات شاهقة، وتتهافت وراءه شركات هوليوود، لدرجة أن ديزنى ستدعوه للعمل كمؤلف ومنتج فى فيلم The Nightmare Before Christmas أو كابوس ما قبل عيد الميلاد (1993)، وفيلم James and the Giant Peach أو چيمس والخوخة الضخمة (1996)، ثم يعود إليهم مخرجًا فى فيلم Alice in Wonderland أو آليس فى بلاد العجائب (2010)، وفيلم Frankenweenie أو فرانكنوينى (2012)؛ والذى لم يكن سوى نسخة طويلة من فيلمه السابق عندهم، والذى طردوه يومًا ما بسببه. أرأيتم كيف انتصر، وينتصر، ڤنسنت.. أقصد بيرتون، على الكبار!

ڤنسنت (1982) فيلم يثير مشاهديه بفنه وتمكنه، ويتنبأ بصانع أفلام بارع الخيال والحرفة، ويدعونا لتفهّم كل ڤنسنت، داخلنا أو خارجنا، حتى نتركه يعيش “متعته الحقيقية”.

………………….

نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 42 / يونيو 2015.، ثم أعيد نشرها فى مجلة كراسات الفيلم القصير / العدد الأول / أكتوبر 2019.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم