الروائي جوزيف كيسيل في سوريا:  حكايات رحلة سنوات العشرينات(1/ 5)

جوزيف كيسيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة:  سعيد بوخليط

 لا ينبغي قط الشروع في الحكي عن سفر:  تترصدنا الهزيمة منذ البداية.  فكيف،  سنبقي للسهم حركته،  وقد سقط عند قدم المرمى؟ هل بوسعنا التكلم عن عبور،  بينما ترنّح سفينة لم يعد،  يصب في أوعية تأرجحه الحسي،  أو يرسم الصحراء اللامتحركة،  ولايسمع لعجلات السيارة صريرا، فوق رمالها الذهبية؟ كيف،  يمكننا تذوق غاية الجزع واللذة،  تعبير شكل جديد،  ولعبة إضاءة،  ثم أثواب،  عندما لا تصير مجرد مشاهد عابرة،  بل ذكريات مترسخة وميتة،  متوارية في مقبرة الذاكرة؟ لكن ما العمل؟ إذا عشقنا،  فينبغي الإفصاح عن موضوع هذا العشق.   

نعم،  أعشق الشرق. ليس الأدب،  من ألهمني هذا الذوق. كنت أشاهد وأنا في سن الثامنة، على ضفاف الأورال، قدوم قوافل بخارى وفارس،  يقودها القيرغيزستان،  تنم جباههم عن ذكاء متواضع. اللوحة الرفيعة، التي يرسمها خيط من الجمال على الشفق،  وجثو هذه الإبل الرائعة بعيونها الصبورة والواسعة،  لقد عرفتها قبل أن أكتشف السيارة. الضوء الكبير المركز، والأبدي حيث تحوم الطيور الكواسر، و فضاءات تشعرنا بالله،  ليس الله المختزل دينيا،  لكنه إله الأراضي والبحار والنبات والحجر،  عدْو الجياد البرية،  والمشي الجميل لكائنات بدائية- كل ذلك غذى، عيني البريئتين، ولن أنساها أيضا- أجدها ثانية،  ما إن تصير السماء أكثر علوا وجفافا وقسوة،  بحيث يأخذ الناس نظرة الدواب بأحلام عميقة،  وتصير الحياة بغتة أكثر رحابة وهدوءا،  تتنفس مثل صدر ناعم عديم الشفقة.  

شغفي بالشرق، لا يمثل عذري  الوحيد للرغبة في التكلم عنه،  لأني لا أعرفه جيدا. إننا لا نذهب إليه،  وينبغي أن يأتي إليكم،  مما يقتضي وقتا. والحال، أني قضيت خلال مرتين،  ما بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع،  في سوريا.  هذا،  كل شيء. ثم،  تطلعت إلى اختبار التجربة كصحفي،  بمعنى قضاء أغلب يومياتي مع جنرالات وموظفين كبار. لكن على القارئ،  أن لا ينتابه الفزع،  فلن نخضع هنا لتحقيقات هؤلاء. مع ذلك،  وجهت هذه الانشغالات أسفاري حسب مسار المغامرات والمعارك،  فنعثر بالضرورة على أثر ذلك في هذه العلاقة. على الأقل، هل حاولت أن أصف سوى من أمسكت بهم شِباك الشرق،  ويحملون فوقهم،  انعكاس صداه المثير للمشاعر.  

لا ينقاد هذا العمل علائقيا وتركيبيا أو يحكمه – كل امتثال خطي يبعث على الضجر-  خط سيره الخاص، فقط يعرض صورا،  لا أقل ولا أكثر.   

                 نظرة على بيروت  

فقط أجسام وروائح،  وأطياف مختلفة على رصيف بيروت! هاهو،  رجل أشقر جدا،  من الصنف المنغولي !خاطبتُه بالروسية، لكنه لم يفهم شيئا. في المقابل، أجابني زنجي،  بتلك اللغة. شركس،  أتراك،  ألبان،  عرب وإثيوبيون، جميع هؤلاء يعج فوق بعض الميترات المربعة لرصيف الميناء. أسمال رثة، أصوات وشمس.  إنه،  الشرق.  

هذه التناقضات،  والجمهور المختلط،  والفوضى والبريق،  تعكس وضعية البلد ذاته حيث رسوت.  

سوريا؟ ماذا نعرف عنها ؟ لنعترف بالأمر، دون كبرياء مزيف: فقط بعض الوقائع التاريخية المبهمة، حول الحروب الصليبية،  ثم بعض الصفحات الشهيرة،  والأسماء الجميلة لدمشق وتدمر والفرات. ذاك،  مجمل زادي بالنسبة لبلد كبير وخصب،  يعيش تحت الانتداب الفرنسي. لكن، من يبين أهمية هذا الانتداب؟ ثم يستطيع تحديد- سوى مختصين قليلين- المظهر السياسي لهذا البلد؟ من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتلْ؟.  في الحقيقة،  إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة،  فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا.  

سوريا،  مهد الحضارات ومكان العبور المختار منذ الأزل،  أثر غناها وجمالها،  دون تدخل، في كثير من الشعوب. هذه الأرض، حيث تنمو بقوة ملتهبة،  الاعتقادات الأولى،  وكذا الهرطقة، التي تضلل وتخلط. أعترف بتواضع، أني لم أستوعب خلال أولى أيام إقامتي في بيروت،  شيئا بخصوص ما يتداول أمامي من أحاديث.

العلويون،  الهاشميون،  الموارنة،  السنة،  الشيعة،  اليونان الأرثوذوكسيون،  الطائفة السورية-الفلسطينية،  قطاع الطرق،  المتمردون وكذا دروز الجبل ودروز حوران، اللبنانيون والسوريون والدمشقيون،  إلخ، فكيف يعترف بعضهم ببعض؟ تحوي سوريا، سبعة وعشرين ديانة، تمثل كل واحدة منها قومية، ويلتمس هذا السديم التأثيرات الأكثر تنوعا، روحيا وماديا.  

مع ذلك، بعد انقضاء أيام قليلة،  بدأت أتمكن من تفكيك شفرة الطلاسم، الذي يبدو مستعصيا على الفهم. تتبدى الخطوط الكبرى، بلا شك،  بالتبسيط لايمكن الإحاطة بمختلف حيثيات المشهد، لكنه الوسيلة الوحيدة لكي أفهم وأعبر عن مافهمت؟.  

إذن، على وجه التقريب،  لكن بوضوح: توجد في سوريا،  ثلاثة أقطاب للثقافة والقوة. المسيحيين في الغرب وكذا الساحل، وداخل لبنان. الدروز، في الجنوب والجنوب الشرقي. ثم المسلمين، بنسبة كبيرة،  على امتداد باقي البلد.  

يمثل المسيحيون حوالي خمسمائة ألف نسمة، والمسلمون زهاء أربعة ملايين وخمسمائة ألف،  ثم الدروز ما يقارب مائة وعشرين ألفا. أرقام، بقدر ما تظهر كيفية توزيع العناصر الإثنية داخل سوريا،  فإنها تشير على التوالي إلى أنشطتهم. بالتالي، على الرغم من النقص العددي المؤثر،  للمسيحيين والدروز،  فلا يتوقفون عن شد الانتباه نحوهم. وضع،  يفسر بسهولة:  للمسيحيين قوة الثقافة الأوروبية إلى جانب ثرائهم. أما جماعة الدروز، فتعتبر شعبا فقيرا،  بيد أنه مقاتل.  

تشكل كل واحدة من هاتين الطائفتين،  كتلة تصمم للدفاع عن مصالحها وتقاليدها. في حين تنتظر الطائفة المسلمة، بكيفية غير محددة،  وصبورة، وفظة، اندفاعة تتأتى لها، لكنها تجهل مصدرها. تنتابها، حركات متشنجة،  بين الفينة والثانية. حينما يعبر ملهم،  فضاء مدينة ما…، أو تلقي زعيم عصابة لمعونات مالية.

بما أنها لاتعرف ما تريده،  فكل التطلعات جائزة بالنسبة لمن يلازمهم طموح كبير،  وبعضهم يحلم سلفا،  بتولي العرش،  الذي تبوأه،  خلال فترة الملك فيصل. هكذا، تتحرك المطالبة بالعرش.

كنت صاحب حظ وافر، عندما تمكنت من الولوج إلى منزل،  الأمير عبد المجيد،  أكثر المؤثرين في طائفة المسلمين.  صادفت عنده اجتماعا بين أبيه الأمير حيدر،  المنحدر من سلالة النبي محمد شريف مكة،  وقائد ينتمي إلى الدروز بمثابة خليفة محتمل مستقبلا،  يقول عن نفسه بأنه صديق مخلص لفرنسا،  ثم أمير عربي شاب مرافق للمطالب بالعرش،  وأخيرا سيدة فرنسية متقدمة في العمر.

ناولوني،  على نحو طقوسي،  فنجان قهوة وسجائر. الأمير حيدر، صاحب وجه نبيل جدا،  يبتسم بهدوء. كان الأمير عبد المجيد، مرتديا على الطريقة الأوروبية،  وبدا غير مهتم  بالمحادثة،  لأن المتكلم لحظتها،  رئيس الدروز.

لقد أوضح بطلان نظام ديمقراطي، بالنسبة لشعب لازال خاضعا لأسس الفيودالية،  من ثمة ضرورة وجود مَلِك. ثم أضاف،  لا أحد من بين كل سادة سوريا الكبار،  يمتاز دون غيره، بالعِرق أو الاسم، وأن تعيين أحدهما في العرش،  يخلق أحقادا ومنافسات لا حدود لها،  بالتالي وحده الأمير عبد المجيد،  بوسعه فرض نفسه،  بفضل أجداده وصداقاته،  ضمنهم ابن سعود سلطان منطقة نجد وملك الحجاز.    

هممت بالمغادرة وأنا مقتنع،  لكن ما إن وصلت عتبة المنزل،  حتى وردت إلى أذني الجملة التالية:  ((أبدا لن يقبل مسلمو سوريا،  شخصا أجنبيا مَلِكَا عليهم،  أو لكي يتحقق له  السعي،  يلزمه الإفصاح عن نزعة قومية إلى أبعد حد. تلك حالة فيصل، وأنتم تعرفون نهاية المغامرة)).  

سمعت منهم أحاديث عن أفراد آخرين،  يطالبون بالعرش،  لكن يجد كل واحد أمامه، معارضا يقدم أدلة مقبولة. فهذا مشايع للإنجليز،  والثاني زالت حظوته نتيجة الخيانة،  والآخر من طبقة الشركس، يكره الشعب، وذاك فقيرا في أمس الحاجة إلى دعم مادي.

وقد يئست،  من استجلاء جوهر الأمور،  سعيت أن أكون سعيدا أكثر مع المسيحيين. لقد استدعوني إلى حفلات، تميزت ببذخ مفرط،  وكذا زيارة أمكنة تذكر بقصور ألف ليلة وليلة. صادفت  نسوة،  يتزينن بأحجار كريمة،  وعيونهن جميلة غير مبالية،  مثل جنان مهجورة،  ورجال بملامح دقيقة وشبقة.  

تكلمت معهم سياسيا،  غير أن لغتنا لم تكن نفسها. توخيت التبسيط، لكنهم يعقدون الأمور بمتعة،  فلا شيء واضحا أو مباشرا في نقاشاتهم. يجرون خلفهم حمولة ماض من العبودية،  والتكتم،  والديانات السرية، هكذا يطغى عليهم تحفظ الشرق. في الحقيقة،  لا يمارسون سوى شعيرة واحدة: تلك المتعلقة بالمال. يقول أحدهم، إننا متحضرون جدا، عن خوض صراعات، ولانعرف سوى حياة الأعمال.

بهذا الخصوص، عشت واقعة ذات قيمة أساسية، مما يتحتم استعادتها في هذا المقام: ديبلوماسي سابق يسكن بيروت، ثري جدا،  ويحظى بشهرة واسعة. كان قد التمس من أحد أصدقائه القادمين إلى سوريا، وهو قائد عسكري فرنسي،  أن يشتري له من باريس حلي لؤلؤة. فعلا، وعده الضابط  بتنفيذ طلبه،  لكن لحظة وصوله بيروت،  تبين له،  ضياع الحلي،  مما دفعه إلى الإسراع مستفسرا صديقه عن ثمن تعويضه:

-خمسة وعشرون ألف فرنك،  أجابه الثاني.  

حين سماع الضابط العارف ببعض المعطيات حول المجوهرات، قيمة  المبلغ، أبدى اندهاشه،  واتصل فورا بالصائغ. الأخير، أخبره أن الثمن الأصلي الذي اشتريت به اللؤلؤة،  لايتجاوز خمسة عشر ألف فرنك. هكذا، توجه إلى الدبلوماسي،  مشحونا بكل الغضب،  الممكن تصوره قياس الموقف كهذا. بيد،  أن الأخير، لم يتردد مجيبا إياه،  بكل تلقائية:  

– أردتها صفقة تجارية، لكن خطتي باءت بالفشل، هل تريد خمرا؟

من البديهي،  في ظل معطيات كهذه، أن السياسة في سوريا تأخذ إيقاعا خاصا،  فبأي منطق ستخاض هناك الحروب؟.  

                 في حدائق دمشق

تمتد بين بيروت ودمشق،  مسافة مائة وخمسين كيلومترا،  أي مايقارب ساعتين ونصف بالسيارة،  أو اثنتي عشر ساعة بالقطار.

للأسف،  حتى اللحظة ليس من حقك الاختيار. في ضواحي دمشق، والطريق الملتوية بين جبال وعرة،  ومقفرة،  وكثيرة الأحجار مع انبعاث طلقات البنادق وحدها من كل مكان. لذلك،  يستحسن الاستسلام إلى القطار.

يسير بطيئا،  بارتجاجات لينة،  مخترقا سهولا،  خصبة،  بشكل مذهل،  يتسلل بين مضايق مهجورة. بل يقدم بطؤه هذا، بسخاء إلى العين،  مناظر رائعة. صخور ملتهبة بالشمس، تطوي بين ثناياها السرية،  ثلوج الشتاء بِكرا. سيول، تسرع صوب الرمال البعيدة وأكثر الاخضرارات روعة،  تعمل على تشخيص،  منتزهاتها  المندفعة.  ضياء على امتداد السماء الصافية،  وألوان حارقة. كل ذلك،  يبلغ أقصى حد زخمه.

فجأة،  بزغ  وجه بين هذه المناظر المتألقة،  ومقصورة القطار، عاد بي غريزيا مثلما هو،  إلى الوراء: شعر سابل بتسريحة قصيرة، جبهة صغيرة جدا،  تظهر صاحبها كأنه ينتمي إلى حيوان ثدي. جسد زيتي،  بلون داكن،  أنف أفطس،  عينان نهمتان،  مثيرتان،  ومتسلطتان. لاأرى عبر فتحة نافذة،  سوى هذا الرأس المرعب،  وفوهة بندقية تتجاوز الكتف الأيسر.   

صديقي في السفر، الضابط الذي يحارب منذ ثلاثة سنوات في سوريا،  تبسم من اندهاشي.  

– إنه أحد أتباعنا،  يقول.  

لم أستوعب الأمر جيدا،  فاستطرد شارحا:  

– إيه نعم. منذ أشهر قليلة، كانت باستمرار الطريق بين بيروت ودمشق،  مقطوعة نتيجة صنيع طرف لصوص. لكننا اشتريناها، بحيث يحرسونها الآن،  النتيجة انعدم كل خرق. هكذا،  خلق قطاع الطريق،  أتباعا لهم. مسألة،  تكلف ما يناهز ألف فرنك شهريا،  للفرد الواحد، غير أن المبلغ يعتبر أرخص، من مباشرة حراسة عسكرية على امتداد الطريق.  

تنفس ثم واصل حديثه:   

آه !لو أمكننا أن نفهم في فرنسا، أن الإنفاق أحيانا،  يعتبر أفضل وسيلة للادخار !كم من الدم والمليارات، التي بوسعنا توفيرها في هذا البلد،  بتسديدنا لما ينبغي تسديده.  

صمت،  أشعل غليونه. تتناوب،  الجبال والوديان، نصب عيني وفق إيقاع رائع وفطري. بين الفينة والثانية، يلقي وجه أشعث نظرة على مقصورتنا ثم يختفي. إنهم،  فرق حمايتنا في الخارج،  يقومون بدورتهم،  من موطئ إلى آخر.

ثم تبدو حفرة الأمطار،  المجرى المبارك،  الذي يغذي بزبده سحر واحة دمشق،  على امتداد هذه المنطقة الصحراوية. لقد أزهرت،  منذ مدة،  الأشجار المثمرة،  بأوراقها الناعمة،  وصارت كثيفة الجذوع والأوراق،  فتسطع الغزارة من هذه الأرض المشبعة بالطراوة. هكذا،  يتقدم القطار نحو المحطة،  وسط حديقة غناء.  

حدائق دمشق،  الأكثر جمالا قياسا لمختلف ما شاهدت !متموجة،  وذات أريج، تحتوي بعناقها العذب،  الأحياء التائهة التي ستعدل باسترخاء اتجاهها، بفضل رحمة تلك الأشجار. يبدو أنه، وسط هذا البحر الكبير الأخضر،  لن تجسد المنازل سوى مراكب، غير متراصة جيدا.

حدائق دمشق،  الأجمل بالتأكيد،  لكنها من جهة ثانية الأكثر خطورة. لأنه في خضم حمى خضرتها،  ثم وراء جذوعها المعمرة طيلة مائة سنة،  ما العمل ان باغتنا قاطع طريق،  متواريا هنا أو هناك؟ كيف يتأتى لنا،  طرد المتمردين من هذا المكان الدغل الخصب؟ نحتاج في سبيل ذلك إلى سلاح. أيضا، هل بمقدورنا أن  نفتش كل حاجز،  ونحوم حول كل شجرة؟

منذ التمرد،  الذي تكفل فقط بمواجهته – ينبغي الإقرار بذلك- قصف الجنرال “ساراي” (وحده ربما أنقذ ذلك اليوم الانتداب الفرنسي)، تأوي حديقة الغوطة في دمشق كل العصابات المستأجرة،  من قبل الجماعة السورية-الفلسطينية، التي تدير التمرد،  انطلاقا من القاهرة. يتوزعون هنا في مكان آمن، مختفين،  يقيمون الكمائن، بصبر مشرقي متهور،  يغامر دون احتراس كاف. يهاجمون،  في الغالب ليلا،  المراكز العسكرية.

تضفي هذه المراكز،  على المدينة وجها خاصا. أن نتخيل،  بالتالي الخنادق الأرضية،  والأسلاك الشائكة والحصون التي تبرز منها فوهات الرشاشات المستديرة واللامعة، كل الحرب  اختصارا في الحركة الشرقية لشارع يعبره  عرب كهول مهيبون ونساء محتجبات،  بينما ينبعث الصوت النافذ للمؤذن من صومعة قريبة.     

هذه المراكز العسكرية، نوعين: إحداها يشرف عليها “الآفاق الزرقاء”، مثلما يلقب هناك الجنود الشباب. الثانية، يسيطر عليها الموالون  لنا. لقد قضيت ساعات،  داخل إحدى أكثرها أهمية،  والمعروف بالميدان.  

مركز الميدان،  عبارة عن منزل مهترئ جدا. حجرة في الأسفل مظلمة وفسيحة،  تراكمت داخلها أفرشة،  أربعين شخصا. نلج عبر سلم مرتج،  نحو السقف،  أو بالأحرى شرفة محصنة بأكياس فوق الأرض،  حيث يقبع الجنود المراقبون. نعم،  مررت من هناك.  

دخان حاد،  يخنقنا:  إنه دخان احتراق كامل لمنزل،  يبعد عنا قليلا. كم هي متراكمة الحواجز،  والجدران الصغيرة،  والممرات،  والأبواب. يدرك المقاتلون أن عدوا لاذعا،  بوسعه الاقتراب،  دون أن يتم رصده على بعد أمتار قليلة من الموقع،  وقد تحدث معركة معه ضارية،  بواسطة سكين وسط هذه المتاهة الضيقة.   

الأشخاص المحيطين بي، جديرين  بالوضع.  لا شيء،  يحيل لديهم على العسكرية. ألبستهم وأثوابهم،  متباينة كثيرا ورائعة. وحده تزينهم،  بتلك الذخائر الملفوفة على صدورهم،  يوحدهم ثم ما تحويه أياديهم  من بنادق، تحسبا لأي هجوم مباشر. لا تحيل،  وجوهم على الحرب، لكن أساسا حروب العصابات. جميعهم، تموقعوا عند الجانب الفتاك للمغامرة والموت.  

من أين أتوا ؟من يدفعهم،  لقاء راتب زهيد،  إلى المجازفة كل يوم بحياتهم تحت ركام أحجار،  تتهاوى أمام رصاص،  تقذفه بنادق خفية،  وغير مرئية؟ماض قتالي،  بالتأكيد كما الحال مع الشركسيين، المجندين هنا من طرف الأتراك، وتوظيفهم كمقاتلين مرتزقة. أيضا،  حافز حقد عرقي وديني،  كما الشأن مع الأرمينيين المتعطشين للانتقام،  من المسلمين. لكن خاصة،  لا ينبغي التشكيك، في هذا النزوع اللا متوقع نحو الخطر،  والحاجة لمنح الموت أو تلقيها، كما يطويها بعض الأشخاص داخل ذواتهم،  مثل أكثر السموم قهرا وفتكا.    

لنستمع إذن،  لحكاية هذا الجسور،  الرشيق،  والنزيه الذي لا يخفض أبدا عينيه.  شخص ألباني، ابن ثري تاجر بالجملة.  في سن الثانية عشرة،  سرق والده كي يشتري بندقية. على الفور،  استعاد  منه السلاح.  لكن الصبي  كرر سرقته ثلاث مرات،  من أجل نفس الهدف،  دون أن ينجح قط. خلال المحاولة الرابعة،  سيفر ببندقية مع الرعاة،  صوب الجبل.  

لحقه أبوه نحو عين المكان، غير أن الابن تمادى في عصيانه،  ثم حدثت بين الشخصين المنتسبين إلى فصيلة الدم نفسها،  مواجهة بالبندقية دامت ثلاث ساعات.  انتهت بتعرض الأب لإصابة ثم تخليه عن الأمر.  أما الابن فقد انخرط  في صفوف الجيش الصربي وخاض معه حربا بطولية. تحقق السلام،  مع ذلك ظل متمسكا بموقفه.  

أصبح ثائرا مقدونيا تركيا،  لكن امرأة تسببت له في خصومة مع جنرال عثماني،  فانتقل إلى خدمة الفرنسيين. شجاعته جنونية، بحيث يهاجم وحده ثلاثين لصا مسلحا،  وعندما يصاب بجرح،  يطلب كمكافأة،  كأس خمر.  

كان غائبا،  في الوقت الذي أنصت لحكايات مغامرته،  يوريها شاب  كسرت ذراعه. ثم،  هاهو،  يعود ويداه مملوءة،  بورود طرية حمراء كلون الدم. لقد ذهب كي يقتطفها من حديقة، تعتبر قاتلة بالنسبة للآخرين،  مسرعا بتقديمها إلى قائده،  بعيون حيوان عنيف متأهب دائما للموت.   

. . . . . . . . . . . . .

المصدر:  جوزيف كيسيل:  في سوريا؛ غاليمار؛2014.  

 

 

 

مقالات من نفس القسم