حسني حسن
راح يُصغي لصوت وابل المطر وهو يدق، بعنفٍ جامح، زجاج نافذة حجرة النوم. كانت الستارة الثقيلة مسدلةً تماماً، ففكر أنه لن يتأتى له أنْ يلمح البرق وهو يتوامض في الأفق، وأنَ كل ما عليه، في هذه الحالة، هو أنْ يسترسل في تخيلاته المبهورة بالضوء كلما أتاه قصف الرعد، وكركبة عجلات السماء خلال ترحُلها الغاضب. منذ زمنٍ بعيدٍ، زمنٍ يعود إلى مرحلة الطفولة الباكرة، وهو يشعرُ بالسحر، يَشيعُ في أعطاف وجوده، عند إبصاره لسهم البرق، المُكَهرب الخاطف، الذي يسبق قعقعات الرعد. حاول أنْ يستسلم لدفء الفراش، وأنْ يعود إلى النوم مجدداً، لكن بلا جدوى. أزاح الأغطية الوبرية الناعمة، فندت عنها تنهيدة خافتة، وهي تتقلب في السرير لتواجهه. همستْ، وكأنَما في الحلم:
– برد.
أحكم لفَ الغطاء حولها، وصولاً إلى كتفها المستديرة البضة، وسرح ببصره، للحظاتٍ، فوق وجهها الغافي، وجسدها اللين الساخن، في منامتها الخفيفة الشفافة، وخصلات شعرها المبعثرة، بفوضى لذيذة محَببة، على جبهتها المُنداة بعرقٍ ليليٍ نفاذ الرائحة. فكَر، مُتحيراً، في كل تلك الوفرة، وذلك الثراء الفادح، اللذين يبيتان مُلاصقين لجسده، المُنهك المُترهِل، وسأل نفسه عن ينابيع عذاباتِ الوحدة، وعن صحراواتِ السأم المُتوسعةِ في الروح. ابتسم بأسى، وق فز من الفراش، بتصميمٍ، متوجِهاً صوب المطبخ ليشربَ بعضَ الماء البارد، وليُعدَ كوباً من الشاي الساخن، قبل أن يجلس إلى مكتبه، بالغرفة المجاورة، ويُمسِك بالقلم.
قبل موته بيومين، يومين اثنين لا أكثر، أتاه صوتُ صديقه على الهاتف، يزفُ إليه، بفرحٍ مُريب، نبأ نجاح صفقته الأخيرة:
– أخيراً اشتريتُها.
فهل كان يحدسُ بأنه قد أبرمَ آخر صفقاته، الناجحة، في الوقت المناسب تماماً؟. يقولون إنَ المُوشكين على الرحيل يستشعرون، بكيفيةٍ ما، دُنو الملاكِ الأسود مِن حياضِهم، ويسمعون، بآذانٍ ما، وقعَ خُطوه الوئيد المُترصِد، وهو يقترب. عاجلَه الصديقُ بالسؤال:
– وأنتَ، ماذا فعلتَ في مقبرتِكم؟
لم يكنْ قد فعلَ شيئاً. فعلى خلاف عادته، لقي نفسه غير مندفعٍ لإنجازِ تلك المهمة، المزعجة، التي وضعها إخوته على عاتقِه. يعلمُ أنَه سيعهدُ بالمدفن للمقاول، كي يعيد بناءه، بعد أن نالت مِنه يد الزمن، حتى باتت عظام الوالدين ُعرضَة للانكشاف، لكنَه يَعلمُ، كذلك، ثِقلِ تلك المهمة على روحه. تمنى، في أعماقه، لو يُعطيهم ما يحتاجونه من مالٍ على أن ينهض أحدٌ، غيره، بهذا العبء المضني. وبَخه صديقه:
– منْ ينهض عنك بعبء لملمةِ عِظام الآباء؟ ثَمة أشياءٍ لا تُشترى بنقود.
عاودته مَلاماتُ الصديق وتوبيخاتُه، فيما كان يبكيه، بصمتٍ، أثناء توسيدِ جثمانه التراب، مدشناً استغلاله، اللا واعي، لصفقته الظافرةِ الأخيرة. رددَ في سره:
– في سوق الحياة يا صديقي، ثمة أشياء لا تُشترى، رغم أن البائعين كُثرٌ، أكثر مما يلزم بكثير.
أتراه يستطيع، مثلاً، أن يشتري صاروخا،ً أو مكوكاً فضائياً، ليعتلي متنه، ويسافر به، ربَما من دونِ عودةٍ، باتجاه الفضاء الكوني؟. نعم، لعلَه يستطيع!. كان قدْ قرأ، في مكانٍ ما، عن تلك الرحلات، مدفوعةِ الأجر، التي توفرها وكالات الفضاء، الأمريكية والأوروبية والروسية، لمنْ يرغب، ويقدر على دفعِ الثمن، في السفر للفضاء. سمعَ أنَ الروس، بالخصوص، كانوا قد عرضوا تخفيضاً سعرياً، مثيراً ومُسيلاً للعاب، لقضاءِ بضعة أيامٍ، أو أسابيع، لا يتذكر بدقة، على متْنِ محطتهم الفضائية الشهيرة “مير”، ربعُ مليون دولار أمريكي للمسافر الواحد. عرضٌ يُداعب الخيالَ بشدةٍ، إذْ ما قيمة ربع المليون دولار ذاك مُقابل انفلاتِ المرءِ من جاذبية الأرضِ، ولو لبضعِ ساعاتٍ، لا أيامٍ، ولا أسابيع؟. إذا،ً يا صديقي، هي أشياءٌ تُشتَرى، غير أنَ الأمرَ ربما كان يتعلقُ، فقط، بكميةِ المال اللازمِ لإنجاز صفقة الشراء! فلو أنَه لديه ربع المليون دولار أمريكي، أما كان بمُكنتِه أنْ يصعد إلى “مير”، كما صعد “جاجارين” ذات مرة، ليرى بعينيه، على البُعدِ، ضآلة، وتفاهة، تلك الحصاة الصغيرة المرمية على حافة نظام شمسي، ضئيلٍ وتافه، مرمي، بدورِه، على جانبٍ منزوٍ مِن مَجرةٍ متوسطةِ الحجم، مِن بين بلايين البلايين مِن المجراتِ المبذورةِ في حقلٍ كوني لانهائي الأبعاد، ضمن ما لانعلم من الأكوانِ الموازيةِ أو البديلة؟ أو ربما ليصغي، كما كذبوا عليه في طفولتِه المُضمَخةِ بالأساطير الإيمانية، على نحوِ ما أصغى “جاجارين” ذاته، إلى صوتِ الآذان المرفوعِ من منارات “القاهرة” المحروسة، وهو يترجع مُتصادياً بالفضاء الكوني؟ أوَ لمْ يكن ذلك كفيلاً، وحده، بحلِ مشكلة الإيمان، المُلتبِس، لدى عقلٍ وضعي متشكك كعقلِه، وروحٍ قلقة حائرة مثل رُوحِه؟.
– في سوقِ الحياةِ يا صديقي، كلُ شئٍ يُباعُ ويُشتَرى، والأمرُ المهمُ، فحسب، أنْ يكونَ لديك ما يرغبُ الآخرون في ابتياعِه مِنك، وأنْ تمتلكَ، بالمُقابل، ثمنَ ما يعرضونه عليك لتشتريه.
قبل أكثر مِن ستين عاماً، نجح “السوفييت” في إرسالِ بطلهم القومي “جاجارين” إلى الفضاء الخارجي، ثم إعادته إلى الأرض، مرةً أخرى، سالماً. لا يَعرفُ، على وجهِ اليقينِ والتحديدِ، مالذي تعنيه كلمة “سالما”ً المخطوطة هنا، فلربما ما كانت تُشير إلَا إلى كونه أُعيد للأرض وهو قادرٌ على معاودةِ التنفس مِلء رئتيه بالأكسجين غير المُعبأ في اسطواناتٍ معدنية، أو وهو يسترجع عادةَ المشي بخطواتٍ، ثابتة متزنة، لقدمين تُلامسان أديماً تُرابياً، يشدُه نحوه، ويوثِقه إليه، بجاذبيةٍ لا منظورة لكتلةٍ، مُحددةٍ ومَحدودةٍ من المادة، تَلوحُ للقدمين البشريتين، البائستين، رهيبةً وكُلية القدرة. الأهم؛ أنَه ركبَ صاروخَه، وغادر، مُمتطياً صَهوةِ المُخاطَرةِ باحتمالاتِ اللا عودة، ثُم عادَ. أمَا “ابراهيم” فقد ركبَ دراجةً بُخارية، ومضى يتوهمُ أنَه يطيُر بها، تحت البيتِ، في زُقاقٍ نحيلٍ بعرض ستةِ أمتار، أو أقل قليلاً، قبل أنْ يتعثرُ “مكوكُه الصيني”، ذو الإطارين، بحجر صغير وينقلبَ به، ليرتطم رأسه بحافة الرصيف، الحجرية، فيدخل في غيبوبة لعدة أيام، ويموت.
– ليسَ عندي غيره، هو وأخته، يا أستاذ، كل ما طلعتُ به مِن الدنيا.
بدت المرأة، الصعيدية العجوز، كتجسيدٍ كلاسيكي لمأساةٍ مُكتملةِ الأوصاف. كانت تُجِهد نفسها للظُهورِ بمظهرٍ مُتماسكٍ، حابسةً دموعَها، التي تُومض في عينيها، الذابلتين المُحمرتين، بالسهرِ وبالبكاء. لاحتْ له، في ضُمورِها وجلبابِها، الأسود السابغ، وهي تُناوله عُبوة المياه الغازية بالحجمِ العائلي، كطائرٍ مُعتمٍ للحُزنِ، حطَ على قلبه، في فسَحة الدكان الضيق، المُعَلق على بابه لافتة تُشير إلى أنَه تحت إدارة “المعلم إبراهيم”. اليوم ذهب “إبراهيم”، وما تبقى مِنه سوى اسمِه، المُخَلدِ، فوق اللافتة المضيئة، ووجعٍ مُقيمٍ، حتى آخر نفس يترددُ في صدر أمه المكلومة.
– عِنده أولاد؟
– بنتٌ عمرُها ستة شهور، لمْ يفرحْ بها.
– احتسبيه عند الله يا “أم إبراهيم”. أنتِ مؤمنة.
– حسبنا الله ونِعم الوكيل، يا أستاذ.
من بين قصصِ “تشيكوف” العديدة التي يُحبُها، كثيراً ما يتذكرُ قصتَه القصيرة تلك عن الحوذي الذي مات ابنه في نهارِ اليوم السابق، وخرجَ هو، بعربته وحِصانه وحُزنه، يقطعُ شوارعَ المدينة، طولَ الليل، ينقلُ السكارى واللاهين وبنات الطرقات والمرابين والتجار، وحتى الخادمات، مِن دونِ أنْ يجَد لدى أحدٍ منهم بعضاً من فائضٍ كي يستمع لشكايتِه الحزينة عن فقيده الصغير، فرَاحَ، في الأخيرِ، يبثُ لوعتَه إلى حصانه الجائع المسكين، هو أيضاً.
لمْ يفهمْ بعد، لنَ يفهمْ أبداً، لماذا يقسو القدرُ، هذه القسوة كلُها، على الآباء والأمهات، فينتزعُ أبناءهم من بين أحضانهم، وتحت سمعهم وبصرهم، ليُسلِمهم إلى الفناء؟.
أيةٌ حكمة تثوي تحت مثل تلك المصائب المتنَزلة ِعلى رؤوسٍ وأرواحٍ تترنحُ، أصلاً، أسفل ضربات المطارق، اليومية التافهة، للحاجات والإحباطات؟
– يستحيلُ ألَا يكونُ في الكون معنى أبعدَ مما تراهُ أعيننا هذه. ليس عدلاً، بالمرَةِ، أنْ يُوجد كلُ ذاك الشر، وكلُ أولئك الأشرار، ثم تنتهي حياتُهم، وحياتُنا، مِن دُونِ حِسابٍ ولا عقاب.
كانت قد صرخت فيه، ذات مساء، وهما يتابعان شريطاً وثائقياً عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في “البوسنة”. وقتها، شعرَ بالزُهدِ، ورُبما بعدمِ الجدوى، في الانخراط بالنقاش. لمْ يقلْ لها إنَ الخيرَ، كما الشر، هما دوماً أشياءَ نِسبية، ولا إنَ فِكرتَها عن العدالة هي محضْ فكرة افتراضية، ولا إنَه ليس ثَمة حتمية لانتصار قيمةٍ ما، وظهورها النهائي والغائي على نقيضها؛ لا الخير، ولا حتى الشر، وإنَ الوجودَ يمضي مُترنِحاً بالصُدفة والعشوائية، وبغير قليلٍ، كذلك، من الغباء، وإنَ الاستمساك بضرورةِ وجودِ مُخططٍ، غائي هادف وذي معنى للوجود، إنَما هو، وبحدِ ذاتِه، أجلى برهانٍ على الغباءِ الوجودي.
– هل سمعتِ عَن مِعزَى “تشيكوف” يا عزيزتي؟
– ما لها مِعزَى “تشيكوف” هذه أيضاً؟
ردَت بتبرمٍ، ولعلها كانت تحدسُ ما تخبئه لها أسئلتُه، عادةً، مِن تَهكمٍ أو سُخرية.
– وصَف “تشيكوف” الحياة، في مناسبةٍ ما، قائلاً إنَها تُشبه أرضاَ جرداء، يسقطُ عليها المطر مِن دونِ سابق إنذار، فتنمو فيها الحشائش، تتسعُ المروج الخضراء، وتتفتحُ فيها الزهور من كلِ لونٍ وصِنف، فيفرحُ بها الناسُ فرحاً عظيماً، ثم تأتي مِعزَى عابرةٌ، لتهرسَ الحشائش بحوافرِها، وتلوكَ الأزهارَ بين شدقيها الجائعين، وهكذا…
– وهكذا ينتهي كلُ شئٍ، أليسَ هذا ما تريدُ قولَه؟
أحس بضيقِها يبلغُ ذُروته، فآثر أنْ يحني رأسه للعاصفة، قليلاً. صمتَ لدقائقٍ راح يُصغي فيها لزخاتِ المطر على زجاجِ النافذةِ المُوصَدةِ، و يرشفُ مِن كأسِ الشاي المنسيةِ فوق المكتبِ منذ الفجرِ، ثم يكتبُ:
– أو لا ينتهي أيُ شئٍ بالمرَةِ، فكيف ينتهي ما لمْ يبدأُ أَصلاً؟.