جاروبا نوشو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 61
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ميثم سلمان*

     لو لم التقِ هذا اليوم برجل اسمه "تافون" لما كنت لأتعرف بشكل جيد على أصل ديانة الـ "تونغاي". هذه الديانة التي سمعت عنها أول مرة قبل أربع سنوات عندما قام أحد أتباعها بقتل قطة وديعة بطريقة وحشية.  

 التقيت بهذا الرجل في إحدى الحدائق العامة بمدينة أدمنتون الواقعة غرب كندا عندما أخذت ابني آدم، ذا الثلاث سنوات، ليلعب بألعاب الأطفال الموجودة وسط الحديقة. كان تافون أيضا يصطحب أبنه الذي هو بعمر مقارب لعمر آدم. تافون، رجل تظهر عليه الجدية والوقار. يبدو عليه انه في بداية الخمسينات من عمره. يمكن أن اقدر انه يكبرني بست أو سبع سنوات. لكنه أقصر مني رغم أنني متوسط الطول. شعره الاشيب مصفف بعناية. حليق اللحية والشارب ويضع نظارات طبية كبيرة تحتل مساحة ثلاث أرباع وجهه والباقي عبارة عن منخرين وفم. كان يحمل بيده شعرة قهوائية اللون طويلة وسميكة. قال لي إنها شعرة حصان كان قد جلبها معه من قريته الواقعة في أحدى جزر المحيط الهادي. يضع الشعرة بواحد من مناخيره بين الفينة والأخرى ويدفع رأسه للوراء ثم يعطس عطسة كبيرة.

     بدأت الحديث مع تافون عن أجواء الربيع التي نعيشها في المدينة هذه الأيام وما شابه من مواضيع عامة يتداولها الناس في مثل تلك اللقاءات لبداية حديث عابر ولمجرد تزكية للوقت. كنت أجاهد لفهم لكنته الإنگليزية الغامضة. كانت تبدو لي كشخص يقضم جزرة بفم فاغر مع كل كلمة ينطقها. طقطقة عسيرة الفهم. من المؤكد أن لكنتي الإنگليزية هي أيضاً غير واضحة لديه فالإنكليزية هي ليست لغتي الأولى وتطغى عليها لكنة عربية واضحة. كما أن كلٌ منا يطلب من الآخر أن يعيد عبارته أكثر من مرة كي نفهمها جيداً.

فانون أباح لي بالكثير من معلومات عن حياته دون أن أكلف نفسي بالسؤال عنها. كأنه شخص حرم من الكلام لسنين طويلة. بدا لي كرجل ليس له أصدقاء في هذه المدينة التي قال لي إنه هاجر إليها قبل سبع سنوات، 2008.

بمجرد معرفتي أنه من أتباع ديانة “التونغاي” أخذتْ قملة الفضول تنهش في رأسي. فقد كنت قبل لقائي بهذا الرجل أبحث عن معلومات بخصوص هذه الديانة التي صارت مشهورة بعد جريمة قتل القطة. لكنني لم أعثر على معلومات كافية عنها، حتى في الأنترنيت. حيث وقعت هذه الحادثة في مدينة صغيرة تقع بالشرق من مدينة أدمنتون التي أعيش فيها مع زوجتي وأبننا الوحيد آدم منذ أكثر من عقد من الزمان.

استهجن بشدة جميع الكنديين هذه الجريمة خصوصاً بعد أنتشار فيديو قصير يصور الحادثة المروعة كان قد صوره شاب كندي وهو الوحيد الذي شهد الحادثة. انتشر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي حينها بسرعة هائلة. حتى إن البوليس استخدمه في تحقيقاته.  

يظهر في الفيديو رجل يهرول في حديقة عامة نحو قطة مرقطة كانت تتبول على شجرة ضخمة أوراقها خضراء كبيرة وثمرها يشبه كرات بنفسجية صغيرة. عندما يصل الرجل للقطة يركلها بقوة وهو يصرخ بأعلى صوته: “جاروبا نوشو”. تطير القطة وترتطم بحاوية أزبال كبيرة قريبة وتسقط على الأرض، والدم يغطيها بالكامل. يسحق الرجل رأس القطة بقدمه وهو مازال يردد: “جاروبا نوشو”. المصور يصرخ بلغة انكليزية: “توقف، توقف. ابن القحبة!”. بعدها يهم القاتل بمغادرة الحديقة مخلفاً وراءه آثار دم قانية اللون على الرصيف وهو يرفع قبضتي يديه للأعلى مردداً نفس العبارة بصوت خشن وعال لا يخلو من فخر وكأنه يتلو دعاء النصر. وهو ماجعلني أحفظها مُذاك اليوم الذي شاهدت فيه الفيديو.

 الإعلام الكندي حينها ركز على هذه العبارة كمحاولة لمعرفة دوافع هذا الرجل للقيام بفعلته. وقد تُرجمت العبارة بمساعدة مترجمين من جالية هذا القاتل الى اللغة الإنگليزية كالتالي:   “Glory to the God Jarroba”يمكن ترجمة هذه العبارة إلى: “المجد للإله جاروبا”.

صار ذكر اسم هذا الإله مثار ريبة واستهجان بين الناس رغم أنهم لا يعرفون ماهي طبيعة هذه الديانة التي أتى بها “الإله جاروبا” وما فحوى تعاليمه. حجتهم في انتقاد هذه الديانة هي ببساطة وقوع جريمة قتل باسم هذا الإله “جاروبا”.

فمثلاً، في تلك الفترة التي زامنت وقوع الجريمة، لو صرخ رجلٌ بعبارة “جاروبا نوشو” في حافلة مزدحمة لقفز الركاب من الشبابيك، ولسان حالهم يقول: “اللعنة على هذا الخراء جاروبا”.

تبين من خلال اللقاءات الكثيرة مع مواطني هذا القاتل أن هناك ديانة تدعى “تونغاي” تقدس شجرة اسمها “هوساس”، وكان هذا القاتل الذي هاجر تواً إلى كندا قد شاهد تلك القطة وهي تتبول على شجرة ما تشبه بحجمها وأوراقها الخضراء الكبيرة وثمرها البنفسجي إلى حد ما شجرته المقدسة فامتعض من فعلة القطة وهمَ للإنتقام منها.

معظم أتباع هذه الديانه استنكر الجريمة مؤكدين على حقيقة أن دينهم يدعو للسلام والمحبة ويرفض العنف بشتى أشكاله، وأن هذه الفعلة المشينة ماهي إلا عملٌ فردي لا يمثل جميع أتباع الديانة. وهذا ما أكده أحد أفراد ديانة التونغاي في لقاء تلفزيوني، وطالب حينها أهالي المدينة الكنديين أن يبتعدوا عن التعميم الذي هو مظهر من مظاهر العنصرية وكذلك عدم التمييز ضدهم بسبب هذه الفعلة.

في عام 2011 الذي وقعت فيه الجريمة حاولت التعرف على تفاصيل أكثر عن هذه الديانة أو شجرة هوساس المقدسة لكنني لم أفلح. إلى أن التقيت بالسيد تافون هذا اليوم في الحديقة العامة. سألته بدون تردد عن أصل هذه الديانة فور قوله إنه من أتباعها.

 “ماذا قلت؟”، رد على سؤالي وهو يعدل من نظارتيه.

 أعدت صياغة السؤال بطريقة أخرى مشدداً على مخارج الحروف وأنا أعدل من جلستي على المسطبة الخشبية لمواجهته وكأنني أطلب منه مشاهدة فمي حينما يقذف الحروف: “ممكن تحدثني عن ديانة التونغاي؟”

“وماذا تعرف عن التونغاي؟”، سألني وهو يهز يده اليمنى.

قلت له بشيء من التردد: “أنا أعرف أنكم تقدسون شجرة  أسمها هوساس ولا تسمحون لأي كائن المساس بها حتى لو كان قطة.”

قال وهو يحدق بصره في وجهي حتى أوشك بؤبؤا عينيه أن يخرجا من محجريهما: “بالتأكيد أنت تشير لواقعة قتل القطة؟”

       صحيح.

       اسمعني جيداً يا أخي. دعني أحدثك عن ديانتنا قليلا.

“وهذا هو ما أريده”، قلت له والتشوق واضح على ملامحي. 

       قبل ألفين سنة تقريبا كان مؤسس ديانتنا اسمه تونغة العظيم. هذا الرجل كانت عنده معجزة فهم لغة الشجر.

حاولت كتم ضحكتي الساخرة متسائلاً: “عجييب! وهل الشجر يتكلم؟” لكنه رد علي بسرعة وكأنه كان يتوقع مثل هذا التساؤل: “طبعاً! طبعاً! طبعا! أليس ورق الشجر يتحرك؟ وعندما يتحرك، ألا يصدر أصواتاً؟…هذه الأصوات هي شفرات سرية من العالم الآخر لا ندركها نحن البشر.” ثم أضاف بتوتر وكأنه يعلم ابنه الصغير: “مفهوم؟”

“لكن يا أخي، هذه الأصوات ليس لها أي معنى. مثلها مثل صوت تساقط المطر مثلا أو صوت الضراط”، قلت له مع أبتسامة عريضة للتخفيف من جديته ثم ضحكت. لكنه حدق في وجهي بصرامة دلالة على عدم استساغته لعبارتي.  

ثنى ساقه اليمنى ووضعها على المسطبة ليكون قبالتي مباشرة وبدا عليه الحماس في الحديث محاولاً تفسير ما يريد قوله بجهد عالي. قال بعد أن استنشق كمية من الهواء فارشاً منخريه حتى كادا أن يلامسا أذنيه: “اسمعني، تأكد أن هذه الاصوات لها معنى. نعم لها معنى. صدقني. وكان تونغة العظيم هو الوحيد القادر على فك هذه الشفرات.” ثم شبك ذراعيه على صدره وأطرق رأسه قائلاً: “كيف لي شرح هذه المعجزة لك؟ كيف؟ كيف؟”

     لم أشأ مجادلته في هذا الأمر فما يهمنى حينها هو التعرف على معتقداته وليس الخوض في نقاش ديني. فقلت له: “يبدو أن السيد تونغة كان شخصاً فريداً من نوعه وربما كان مبعوثاً من كوكب آخر!”

     بدا عليه الانشراح وكأن عبارتي هذه، والتي لم تك أكثر من مجاملة له، إعلاناً لإيماني بما يطرحه. صفق بيديه وقال بفرح: “نعم! نعم! تونغة العظيم كان المبعوث الأوحد للإله جاروبا، يا أخي العزيز”.

“أمممم، وكيف كان يفسر كلام الشجرة؟”، سألته بطريقة من يريد الاستفسار عن أمر مثير.

       كان تونغة العظيم يبقى فوق شجرة هوساس العظيمة لأيام عديدة. وبعد نزوله يترجم للناس ما كانت تقوله تلك الشجرة المقدسة. هذه الشجرة كانت نادرة جدا بظلها الوافر وحجمها الهائل وثمرها الذي لا ينضب. كانت أغصانها متشابكة كسجادة مما يصعب التوغل بين ثناياها. لكن تونغة العظيم هو الوحيد الذي كان يتمكن من تلسقها للقمة والبقاء هناك ماكثا كطير على أحد أغصانها الكبيرة. مفهوم؟

       عجيب! وكيف كان تونغة يأكل ويشرب ويذهب للحمام؟

       اسمع، اسمع أخي، بما أن تونغة العظيم كان مرسلا من الإله جاروبا المعظم فهو ليس برجل عادي. حيث كانت له معجزات كثيرة ومنها إنه يستطيع العيش لأيام بدون غذاء وشراب ومنطقيا هو لا يحتاج للذهاب إلى الحمام. مفهوم؟

       أوكي، أوكي، وماذا كانت تقول هذه الشجرة؟

       أوه، يا آلهي المعظم! الشجرة المقدسة كانت تنقل لتونغة العظيم تعاليم الإله جاروبا وآوامره. الإله كان يأمره بأن يجمع الناس على ديانة التونغاي. وهذه التعاليم نتوارثها شفاها أب عن جد. مفهوم؟

       طيب وأين هذه الشجرة الآن؟

     أخفض حدة صوته وحرك بؤبؤي عينيه يميناً ويساراً قائلاً: “المعجزة بهذه الشجرة يا أخي إنها قد اختفت بعد موت تونغة العظيم. وأجدادنا الأوائل بنوا سوراً عالياً دائري الشكل في ذلك المكان.” ثم أضاف وهو يقرب رأسه مني وكأنه يهمس لي بمعلومات خطيرة: “اسمع، اسمع يا أخي، نحن نعتقد أن شجرة هوساس العظيمة ستعود يوماً ما. و، و، وربما ستظهر يوما ما في أي مكان في العالم. وسيعود معها تونغة العظيم ليترجم لنا شفراتها. مفهوم؟”

       أها، ولهذا ظن صاحبكم الذي قتل القطة أن الشجرة التي تبولت عليها تلك القطعة كانت قد ظهرت للتو في كندا.

     تململ تافون في مكانه وتظاهر بأنه يراقب ابنه الذي كان مستمتعاً في لعبه مع ابني آدم  ثم قال: “اسمع، هذا القاتل مجنون ولا يمثلنا كلنا. حيث ظن أنه رأى شجرة هاساس المقدسة وقتل القطة لأنها تمس قسدية الشجرة. هناك شروط كثيرة يجب توفرها لظهور الشجرة المقدسة. مفهوم؟” ثم دس شعرة الحصان في أنفه وقبل أن يعطس أخرح منديلاً كان قد اسمرّ لونه الأبيض من كثرة الاستعمال ليغطي به أنفه أثناء العطاس.

     كنت أرقب حركاته بهدوء، وبعد أن أنهى تنظيف أنفه دس المنديل مجدداً في جيب بنطاله. قلت له: “لكن هذا لا ينفي حقيقة أن تعاليمكم تنص على قتل كل من يمس هذه الشجرة . تقتلونه وترددون عبارة “جاروبا نوشو” التي عرفها العالم بعد حادثة القتل. فلو توفرت شروط ظهور شجرتكم المقدسة وكانت هذه الشجرة فعلاً هي الشجرة المنتظرة فهل من حق أي شخص من أتباعكم قتل من يمسها؟”.

       اسمعني جيدا، رجاءا، نعم هذه تعاليمنا التي توارثناها وهي مقدسة عندنا لكن أغلبنا لا يطبقها بحذافيرها. فالزمن قد تغير. ألا تفهم ما أقول؟ 

     لم أستسغ طريقته بالحديث التي لا تخلو من حدة وتشنج وكأنه يحدث طفلاً غير مطيع خصوصا وهو يكاد يكرر كلمتي “اسمع، مفهوم” مع كل جملة. مما دفعني لتغيير طريقة حديثي معه بعيداً عن المجاملات. في تلك اللحظة لم أعد آبه لردود فعله.

عدلت نظارتي الشمسية ثم مددت يدي اليمنى أمامي وقلت: “عجييييب أمرك يا رجل! أنت تقول إنها تعاليم متوارثة ومقدسة لديكم ومع ذلك لا تطبقونها بحذافيرها لان الزمن قد تغير. وفي ذات الوقت تغضبون إن انتقدها أي شخص. أليس هذا مضحكا؟ طيب، لماذا تتوارثون تعاليما وتعتبروها مقدسة إذا كانت مرفوضة من أغلبكم ولا تناسب هذا الزمان؟ إنه حقا تناقض كبير!”

وقف قبالتي محاولاً شرح فكرته بشيء من التوتر مستعينا بكلتا يديه قائلا: “اسمع، نحن لا نستطيع رفض أي تعاليم مبعوثة من الإله جاروبا لكننا لا نطبق كل ما جاء بها الآن. هذا كل مافي الأمر. صدقني. مفهوم؟”

Really strange!“، قلت.

     بدا تافون كمن يفقد صبره وقال بنبرة توتر: “ألا تقل لي بحق الإله ما هو الغريب والعجيب بالموضوع؟  كل ما أقوله هو موجود في كل الديانات؟ مفهوم؟”

    حينها وقفت متأهباً للمغادرة ووضعت كلتا يدي في جيبي سترتي الرياضية ثم قلت بثقة: “أسمعني جيدا، أنا أتعجب من هذا الكلام. أليس الاحتفاظ بهذا النص واعتباره مقدساً يعطي المسوغ لبعض المجانين في ديانتكم لتطبيقه؟ لماذا لاتقولون للعالم إنكم لا تؤمنون بأي فقرة تشجع على العنف في تعاليمكم المتوارثة إن كنتم لا تؤمنون بها حاليا؟ مفهوم؟”

     قبل أن أنهي عبارتي كان تافون يحدّق في وجهي ملياً وهو يدس بعصبية شعرة الحصان في منخره الأيمن تارة وفي الأيسر تارة أخرى حتى عطس عطسة كبيرة. حينها لم يستخدم منديله لصد الرذاذ المتطاير من منخريه. حيث كان علي التحرك جانباً لتجنب ذلك الرذاذ الرطب واللزج كي لا يغطي وجهي. حيث كانت عطسته قوية. قوية جداً سمعها كل من كان في الحديقة ثم ألحقها بعبارة “جاروبا نوشو” حتى إن آدم ركض نحوي مفزوعاً.

 فتلقفته حاملاً أياه إلى صدري وغادرت الحديقة فوراً.

………………

*كاتب عراقي يقيم في كندا

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون