ليلة القبطان الأخيرة

أسامة كمال أبوزيد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسامة كمال

 حين نزل القبطان من القطار نسى كل شىء.. نسى من يكون.. ومن أين أتى… وما هي وجهته بالرغم من أن بيته على بعد خطوات من محطة الوصول.. تذكر فقط صوت وشيش البحر وفترات متقطعة من طفولته: ثلاثة أطفال يسيرون معا كظل واحد لشقاء واحد، يعبرون حاجز الخوف الفاصل بين سماء حي العرب الفقيرة الى سماء حي الافرنج المفعمة بالثراء على الطرف الآخر من الحياة..

رأى الثلاثة البحر عن بعد، لم يدركوا حينها إنه ليس بحرا بل قناة من الماء والماس، على صفحة مائها تعبر السفن من كل بقاع الارض وتطفو وتنتصب كقباب سحرية زاهية..

دخل الثلاثة محل (سيمون أرزت) الفخم الملتمع بلمعة وسحر مياه قناة السويس، وغافل أحدهم البائع وسرق آلة كمان مدهشة وأهداها للقبطان لأنه يعلم مدى عشقه لأوتارها وهيامه بأنغامها..

تذكر القبطان كيف تسلل وحيدا الى الميناء مدفوعا بغواية المغامرة ودخل إلى احدى كبائن السفن الراسية ووجد بداخلها أقلاما وألوانا مفعمة بغبشة الأحلام، فرسم وطاوعته الخطوط والظلال والألوان، وكانت هناك عينا تراقبه بإعجاب بسبب جسارته وجرأته في الصعود الى السفينة وما أبدعته يداه من رسوم نابضة بالحياة.. بعدها توثقت العلاقة بين اثنين: الطفل والرسام الذى كان يراقبه في الكابينة والذى حاول اقناعه بان يرحل معه الى باريس لكنه خاف ورفض وركض بعيداً عبر الشوارع والأزقة والبيوت ليختفي عن البحر والميناء…

……….

قبل ثمانين عاما تدافعت الأمواج كما لم تتدافع من قبل، وتدفقت الأمطار كما لم تتدفق من قبل، وهلت اسراب النوارس وصدحت على لمعة مياه الميناء معلنة لحظة بدء أحلام القبطان، لكن عاما بعد عام تيبست الأحلام على رمال الشاطىء، فغادر القبطان البحر الى نيل القاهرة، وجاب فيها وصال يعب من بهجة أضوائها مغتوياً بكل الفنون: الشعر، السرد، الموسيقى، المسرح، السينما…

وعن البحر جاءت مجموعته الاولى بعنوان ( الموجة ) لكن ظلت عينيه مشدوهة بسحر عدسات السينما التي ظلت ضنينة عليه وبعيدة عنه حتى ابتسم له القمر ورضى عنه البحر بعد أن اقترب جسده من الستين عاماً وتعطرت روحه برحيق طفولته البعيدة وأخرج للسينما فيلم القبطان، ولم يترك فى الفيلم حلماً من أحلامه إلا ونسج منه ضوءًا وكأنه يشعر أن القبطان ليس له غير حلم واحد ينقب عنه من لمعة الميلاد إلى انطفاء الجسد..

في الفيلم كان القبطان والبحر والمدينة أبديين ضد الزمن، وعاشقين للحياة وحالمين بالبعيد، وعلى الطرف الآخر منهم يحاول المأمور أو الحكمدار تنفيذ الأوامر وفرض النظام والإمساك بذلك الحلم الحاضر الغائب في شخص القبطان ومريديه، ويظل ينقب عنه وعنهم كمن ينقب عن سر الأحلام وهى تتصاعد من القلوب إلى السماء، وحين يفشل في ادراك السر يغادر مدينة البحر في نفس القطار الذى جاء به ليبقى القبطان حادياً للأرواح الحرة الطليقة برغم أن القطارات لن تتوقف عن إرسال ضباط جدد يحاولون فرض النظام، لكنهم أبدا لن يدركوا سر البحر أو معنى عشق الحياة..

……

بعد ستين عاما كاملة ترك القبطان غبار القاهرة إلى ندى أحلامه القديمة في مدينة البحر، جاء الينا حاملا ذكرياته وأيامه التي اثقلت روحه وجسده، حكى لنا عن: سماء طفولته الملونة بلمعة ماء البحر وعن تمرده الأبدي على أي سلطة تكبل روحه وعن حكاياته السينمائية المفعمة ببراءة شيخ عاد الى براءة أرض ميعاده.

حكى لنا يوما: انه ركب حافلة ركاب بها أربعة عشرة فردا في رحلة بين مدينتين بامتداد البحر.. في الحافلة حكى كل فرد دون اتفاق عن حياته بما فيها من عذابات عديدة و لحظات ضنينة من السعادة، وكأنهم جلسوا في سيارة اعترافات وتطهروا من آلامهم أمام البحر حتى أن كهلين فقيرين: رجل وامرأة كانا يجلسان في ركنين متباعدين حكيا عن حاجتهما للدفء والونس بعد تفرق ورحيل كل من حولهم، فتعاطف معهم الجميع وانتهت الرحلة بزواج الاثنين أمام البحر وسط احتفاء كل رفاق الرحلة من السائق الذى تبرع بأجر الرحلة الى السيدة العجوز المكلومة بوفاة ابنها، والتي تكفلت بأجر المأذون، الى الاستاذ الجامعي الذى تعالى على الركاب في بداية الرحلة ثم ما لبث أن صار واحدا منهم وأعد للعروسين حفلا فريدا رقص فيه الجميع على ايقاعات السمسمية الحميمة وألقوا الورود معا ودون اتفاق على مياه البحر فطفت وغطت صفحة الماء بين المدينتين..

……..

ثلاثة أيام مرت دون ان نراه أو نسمع صوته.. ظننا في البداية انه عاكف على حلم فيلم جديد أو انتابته حالة شعرية غاب فيها وتفرغ لها أو ارتحل في رحلة اكتشاف لمكان آخر بعيد أو ذهب معتزلا زاهدا أمام معشوقه البحر لكن ظلت دخلنا جميعا اجابة واحدة لم تستطع أن ننطق بها حتى الى أنفسنا..

هل هي النهاية.. هل هى ليلة القبطان الأخيرة؟

…..

في الطريق الى بيته انتابتنى مشاعر شتى، ما بين الخوف والاحساس بجلال اللحظة البرزخية الفاصلة بين عالمين لا يفصل ببينهما سوى باب للخروج الى وميض النهار البعيد، فالقبطان ليس شخصا عاديا كغيره من البشر هو مزيج من الدم واللحم والاحلام، كل نبضة فيه تنبض بالحرية من الوريد الى الوريد، يتنفسها كما يتنفس الهواء، هو والبحر سواء بسواء ليس لهما بداية أو نهاية، فحكايات القبطان وأساطيره تبدأ من حيث تنتهى، وتنتهى من حيث تبدأ من جديد، نهاية على بدء، وبدء على نهاية.. بحر الحكايات يتدفق على شفتيه ولا يتوقف ابدا..

……..

كان الوقت ليلا والشارع خالي تماما، أكاد اسمع صوت رجفة قلبى في الطريق اليه.. وقفت أمام بيته، زجاج الواجهة مغبش بنور أخضر حالم صافى يتسلل من الكوة بما يوحى أنه في الداخل.. دققت دقات خفيفة على الباب دون رد، فاتصلت به على هاتفه، فسمعت من الداخل دور ( نوح الحمام والامرى) المثبت منذ عرفناه على نغمات هاتفه.. دقائق مريرة مرت تخيلت فيها انه بالداخل مستلقيا على سحابه من سحائب أحلامه، نظرت خلفي فوجدت باب شقة جيرانه وكأنني أراه للمرة الأولى رغم زياراتى المتكررة له،سألتهم عنه أجابوني بصوت خائف مرتجف بانهم لم يروه منذ ايام، وبعدها اختفوا من أمامي وكأنهم غابوا في سماء أخرى بعيدة..

تيقنت داخلي انها النهاية، لكننى تمنيت أن أكون واهما وأن القبطان نائما أو غائبا عن الوعى.. فتحنا الباب، سمعنا أنغام تنبعث من مكان غير معلوم وأصوات صحبجية يغنون معا دور ( زارنى المحبوب) وصورة فوتوغرافية تغطى الحائط كاملا لثلاثة أطفال يركضون أمام البحر فى بهجة تتعدى عنان السماء

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون