الولوج في سجن التبعية طواعيةً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 1
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

    د.نعيمة عبد الجواد

   ألم تتساءل يوماً عن أسباب ما يطرأ عليك أو على المجتمع من تغييرات، وقد تكون جذرية في الذوق أو السلوك؟ ألم يؤرقك الهاجس المتمثل بكيفية حدوث هذا التغيير عليك دون أن تعي أو تدرك؟ فالوقوع في هوة التغيير قد يحدث بشكل سلس، لا تدري مبدأه، ولا تستطيع السيطرة على أبعاده.

   ففي الآونة الأخيرة – على سبيل المثال – طرأت على مقاييس الجمال – لدى كل من المرأة والرجل على السواء – تغييراتٌ غير مفهومة، وبمحاولة استقصاء الظاهرة يلاحظ أن مقاييس الجمال تتغير من حقبة لأخرى، والغريب في الأمر أننا في كل حقبة نتقبل هذا التغيير بصدر رحب. فمثلاً، في العصور القديمة كان من أهم مقاييس الجمال عند النساء هو تمتعها بوزن زأئد، وكلما زاد وزنها دل ذلك على أنوثة طاغية.

    وبالمقارنة، يلاحظ أن مقاييس الجمال الخاصة بالنساء حالياً تشدد على النحافة الزائدة، ويا حبذا لو برزت بضعٌ من عظام الجسد؛ فجمال النساء حاليا يكمن في الرشاقة، والتي على إثرها ظهرت تجليات أخرى إزاء الجمال ومقاييسه، للحفاظ على تلك الرشاقة ومن أهمها المداومة على أداء الرياضة البدنية. ومن الغريب أيضاً، أن ذلك المفهوم انتشر كانتشار النار في الهشيم.

    وفيما يبدو أن تلك الظاهرة كانت الأقل ضرراً وصدمة للباحثين في أسباب هذه الظاهرة؛ حيث أن المفاجأة الكبرى هي تغيير مفهوم الأناقة بشكل عام. فبعد أن كانت قمة الأناقة الملابس الباهظة الخامات اللافتة بقصاتها المبتكرة، صارت الملابس الممزقة المتسخة هي قمة الأناقة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل صارت قيمة الملابس تكمن في مقدار تمزقها واهترائها واتساخها، بل مدى قدرتها على كشف أجزاء البدن.

   وبالوقوف عند تلك الظاهرة التي تتلاعب بالذوق والسلوك والأخلاق، بشكل واضح نجد أن تلك التغييرات لا تأتي بشكل عفوي، بل إنها خطوات مدروسة تسعى إلى السيطرة على الوعي الجماهيري وتشكيله، وفقاً لخطط مسبقة، ولقد تنبه لذلك الأمر العديد من المفكرين والفلاسفة منذ عقود طويلة.

   ومن أجل حبك التلاعب بالأدمغة والأذواق يلاحظ طرح العديد من الخيارات التي هي في الأساس وجه واحد، لفكرة واحدة فقط – وإن اختلفت أيدلوجيا الطرح – ومن ثم يتوهم الفرد أنه هو من قام بالاختيار في حين أن الفكرة كانت مطروحة مسبقاً وليس لفرد أي خيار حتى يرفضها أو يبحث عن حقيقتها أو حتى مدلولها.

   ومن فلاسفة العصر الحديث الذين تنبهوا لتلك الظاهرة كان الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد لوي بيير ألتوسير Louis Pierre Althusser  (16 أكتوبر 1918-22 أكتوبر 1990) عند شرحه للإيديولوجيات الماركسية. ولقد كانت نظريات ألتوسير من القوة التي جعلتها تؤثر على أجيال لاحقة من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين  الذين أثروا العالم بنظرياتهم وأفكارهم، مثل ميشيل فوكو (Michelle Foucault)، و جاك داريدا (Jacques Derrida)، وجوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، ورولان بارت (Roland Barthes)، وجيل دولوز (Gilles Deleuze).

ويؤكد ألتوسير في كتاباته أن عندما يعتنق المرء إحدى الأيدلوجيات فإنها تعمل على السيطرة على أفكاره وأفعاله. وعمل ألتوسير على إيضاح هذا المفهوم عند مناقشته لمعنى كلمة “فرد تابع”(1) (subject) الذي يحمل في طياته ازدواجية في المعنى. فقد يشير معنى المصطلح إلى “شخص لديه وكالة ما أو حيثية”، وعلى النقيض تماماً قد يعني “شخص واقع تحت هيمنة سلطة عليا”. والمحك هنا هو نوع الأيدلوجية التي يعتنقها الفرد التابع.

ومن ثم صاغ ألتوسير مصطلح “المساءلة”2 (Interpellation) والذي يبحث في طبيعة ووظيفة الأيدلوجية وفي نفس الوقت في طبيعة ومعنى مصطلح الفرد التابع. وفي هذا الإطار يعتقد ألتوسير أن “المساءلة” (Interpellation) تصف العملية التأسيسية للأيدلوجيا (Ideology) والتي من خلالها يمكن استدراج أحد الأفراد  (individual)في المرحلة التجريدية قبل أن يكون إيديولوجية محددة وفي هذه المرحلة يتم تغذيته بإحدى الأيدلوجيات عينها والتي من بعدها يصبح فردا يتميز بسلوك ما.

ومن الممكن تطبيق ذلك المفهوم في معناه المبسط – على سبيل المثال – على صناعة الأفلام في يومنا هذا. فجميع الأجيال السابقة تتساءل عن انحدار الذوق وكيف اختفت منظومة أفلام الزمن الجميل التي تتميز برقي المضمون والموضوع، وعلى النقيض يمجّون الأفلام التي تروج للعنف وانحطاط الأخلاق. في حين نجد أن من ينجذب لذلك اللون من الأفلام العنيفة المنحدرة الذوق الشباب الذين خرجوا توهم من الفئة العمرية التي كانت تميزهم كأطفال، وقد ينجذب لها أيضاً فئات عمرية أكبر أو حتى بعض من الأفراد البالغة الناضجة ممن لم يحظوا بكم مناسب من التعليم والثقافة أو ممن ظلوا طوال حياتهم على هامش الحياة؛ ومن ثم وجدوا في تلك النوعية من الأفلام معلماً. وعلى هذا يلاحظ من ينظر بعين فاحصة للعملية برمتها أن شركات الانتاج هي المستفيد الوحيد من الترويج لتلك الفكرة التي جعلت منها هاجساً مسيطرأ على العقول جمعاء، شاملة بذلك من يمجون هذا الطرح الأيدلوجي الذين شيئاً فشيئاً سوف تستدرجهم الفكرة؛ حيث سوف تبدأ في مستهل الأمر وكأنها محاولة للاستطلاع والنقد، لكنها تنتهي إلى الوقوع في براثن هذا الطرح الواحد؛ ومن ثم تعددت الأيدلوجيات المتبعة، ولكن في نهاية المآل تم تحقيق النتيجة المرجوة عند تقديم هذا الطرح الغريب، ألا وهي: هيمنة الأفلام التي تدعو للعنف ونبذ السلوك الراقي.

   وبالنظر إلى أفلام فترة السبعينات، يلاحظ أنه قد اعتراها تغيير جذري سلخها عن رقي أفلام الستينات وموضوعاتها العميقة، والتي قد تكون مأخوذة عن أعمال أدبية شهيرة؛ ولقد ساد أغلب أفلام تلك موضوعات إيروتيكية دخيلة على المجتمع الشرقي، وترويج لأزياء السبعينات التي اتسمت بالتحرر الشديد، ولقد تفاقم ذلك التدني عند نشر مجموعة من القيم والسلوكيات الدخيلة على المجتمع الشرقي. وكان صدى ذلك التدني هائلاً على الحياة الاجتماعية والثقافية؛ حيث انتشر التحرر في الملبس، ومطالبة المراهقين والشباب بحقوق دخيلة على مجتمعنا المحافظ، بل انتشر في المجتمع فئات تدعى ب”الهيبيز” تدعو للحرية الكاملة وتعاقر الكحوليات وتتعاطى المخدرات.

   وبدراسة تلك الظاهرة عن كثب، تبين أن تلك السلوكيات ما هي إلا تقليد دون فهم لظاهرة انتشرت في أوروبا، والتي كان السبب في ظهورها المفكر والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر Jean-Paul Sartre الذي أصّل الفلسفة الوجودية في فرنسا بعد أن نقلها عن الفلاسفة الروسيين والألمان عن طريق محاضرات نارية، تكالبت عليها جميع فئات المجتمع وخاصة الشباب.

    ففي دعوته الإنسانية Humanistic دعا لإعطاء المزيد من الاحترام لحريات الفرد وإرادته الحرة للتعبير عن الذات أعطى للحريات الفردية الجانب الأكبر. بسبب أن الحرية كانت مطلباً عالمياً، خاصة أن العالم كان قد خرج منذ فترة ليست بالبعيدة من تبعات الحرب العالمية الثانية؛ فانتشرت مفاهيم سارتر ليس فقط في جميع أرجاء أوروبا ولكن أيضاً في العالم أجمع، لكن نجد أن تلك الفلسفة قد انزوت فجأة، عندما تنبهت الدولة إلى أن الوعي الذي صنعته وجودية سارتر كان ذا صدى مدمر، حيث التقطها العديد من الفلاسفة والمفكرين وأججوها ببث المفاهيم العبثية ومسرح القسوة والتي نتج عنها انتشار “فلسفة الانتحار” (Philosophy of suicide)  والتي هي تتويج لحريات الفرد والتي تخوله الحق في إزهاق روحه لطالما كان غير سعيد في حياته. وعلى إثرها انتشرت حوادث الانتحار الجماعي.

   ونستخلص من ذلك أن الأيدلوجيا لها القدرة على خلق وعي جماهيري في إحدى المجتمعات، والذي قد يكون من القوة والرسوخ الذي تجعله ينتشر ليس فقط بين الدول المختلفة، بل قد يكون عابراً للقارات. وبتطبيق نظرية “المساءلة” (Interpellation) لألتوسير نجد أن الأيدلوجيا قد جعلت من “الفرد الحر” الذي له الحرية في تكوين ما يحلو له من مفاهيم (Individual) “فرد تابع  (Subject)لقناعات غريبة قد يرفضها إذا لم يكن قد تم بث ذلك الوعي بداخله.

——————–

1 لقد قمت بترجمة مصطلح  (Subject) ب “فرد تابع” لأن المعنى المرجو لا يتأتى أبداً إذا تم ترجمته ب “شخص”.

2 لقد قمت بترجمة مصطلح (Interpellation) ب “مساءلة” لأنه حتى الآن لم يتم ترجمة هذا المصطلح بشكل رسمي في العالم العربي، وكلمة مساءلة هنا تفيد المعنى المنوط للمصطلح الانجليزي والذي يعني “يتساءل بشكل رسمي عن سياسة ما أو شأن حكومي”.

مقالات من نفس القسم