سياسات “صحوة التابع” ونقد المأسسة الثقافية..تأملات في بؤس المشروع الثقافي الغائب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قلولي بن ساعد

كتب الناقد الفرنسي إريك مارتي في كتابه (رولان بارت والحق في الموت) متخذا من يوميات الحداد لرولان بارت موضوعا لكتابه (رولان بارت والحق في الموت)، أن موريس بلانشو أصر بشكل مطول على تحدي الفن للموت فيما يخص العمل الأدبي ومساحة الموت فالفن على مايرى موريس بلانشو “يصبو إلى التحكم في الموت والتحكم له علامة في الوقت ذاته على الخطأ” (01).

ومع ذلك فهذا التحكم في الموت الذي أعلن عنه موريس موريس مثلما هجس به الشاعر الكبير محمود دروريش عند ما إفتضى منه القول مخاطبا الموت: “هزمتك ياموت الفنون جميعها”.

لم يمنع المفكر والفيلسوف المصري زكي نجيب مجمود من البكاء بحسرة عندما كان على أهبة الإستعدد لمغادرة الحياة، لم يبك طبعا زكي نجيب محمود خوفا من الموت، فالموت حق. ولكنه بكى بحسب رواية زميله الدكتور فؤاد زكرياء عندما رأى أحلام جيله من النهضويين العرب تتهاوى تحت وقع (إرادة القوة) والإستبداد السياسي الأعمى.

وارتباط القوة بالحيلة السياسية باعتبار السياسة مثلما يقول القدماء هي فن الممكن.

 كما تتجلى في الخطاب النقدي التفكيكي الذي يخصصه الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو لقصص كليلة ودمنة، من خلال كتابه (من شرفة ابن رشد) لتفكيك العلاقة القائمة بين الحيلة والقوة في الخطاب العربي بأشكاله المختلفة.

وليس الخطاب السردي سوى إنعكاس غير واع (لزحام الخطابات) الأخرى بتعبير عبد الله العشي خاصة منها الخطاب السياسي..بقول مضمون هذه الحكاية أنه لا حاجة للأسد للجوء إلى الحيلة فقوته تجعله يترفع عنها. لكنه لو هدده واحد من بني جنسه أكثر قوة منه فسيلجأ لا محالة للحيلة وفي هذه الحالة يتساءل كليطو :  ألا يزال الأسد أسدا…. ؟

الاستبداد الذي تبرره وتؤسس له مذاهب الجهل والعبودية والوصاية الناجمة عن صدمة إكتشاف الحرية ودمقرطة الحياة السياسية.

والذي نتج عنه إستبداد مضاد عرفته الجزائر في التسعينيات من القرن المنصرم في ما كان يعرف (بالحرب الأهلية الجزائرية) بعد توقيف المسار الإنتخابي سنة 1992

في أتون تلك السنوات من زمن المحنة الجزائرية أتذكر أني قرأت مقالا بجريدة الوقت الجزائرية (النسخة المعربة من جريدة الوطن الناطقة باللغة الفرنسية)، أياما قليله بعد إغتيال الناقد و المفكر الحر بختي بن عودة بعنوان (محنة الفلسفة العربية من إبن رشد إلى بختي بن عودة).

 لقد كان واضحا أن الكاتب الحقيقي لهذا المقال الذي لا أعرفه قد تعمد إحفاء إسمه ونشر المقال بإسم مستعار بالنظر للظروف الأمنية الصعبة التي كانت تسود البلد في ذلك الوقت وإستهداف الكثير من المثقفين والصحفيين في حياتهم.

وأتصور أن هذه المحنة لا زالت قائمة لحد الآن بفعل عوامل (الجهل المقدس) بتعبير المفكر الفرنسي أوليفيه روا المستشري في المجتمع ومحاولات (حراس النويا) إحتكار الحقيقة الدينية والحجر على الآراء المغايرة لها وإتهامها بالزندقة والخروج عن النص وعن إجماع الأمة.

ليس في الشارع فقط مثلما كان يحدث ذلك في التسعينيات من القرن المنصرم، بل الآن داخل الحرم الجامعي وبين أقسام العلوم الإنسانية التي كانت مصدر تقدم العقل الغربي ونهضته العلوم الكفيلة بتحرير العقل من أغلال العبودية والتبعية.

 الأمر الذي نتج عنه وقوف التحليل النفسي في عصر ما بعد العولمة وما بعد الحداثة عاجزا أمام مجتمعات غير مؤهلة نفسيا، و تمتلك فائضا في الخوف من المجهول ورصيدا لا يستهان به من المكبوتات السياسية والوجدانية ومن شغور ثقافة الانسجام مع الذات لديها على الصعيد النفسي.

 وتجد في متناولها للحلول السهلة والمريحة ولقيم التراتب الإجتماعي والمهني من دون جهد أو إجتهاد بما في ذلك التراتب العلمي والأكاديمي.

والإنقياد السريع للهاث وراء بعض المكاسب النفعية الضيقة على حساب مستقبل الأجيال الصاعدة، الأجيال التي لا حرج عليها إن ساد بعض مساراتها كثيرا من التأخر في التحصيل المعرفي والتربوي لأنها وجدت نفسها أمام وضع تكاثفت ظروف متعددة في الإبقاء عليه ليضاعف من حالات (التأخر التاريخي) بمفهوم المفكر المغربي عبد الله العروي للمجتمعات العربية عن نظيراتها في العالم المتقدم. أو (التأخر المزدوج) بتعبير الباحث المغربي سعيد بنسعيد العلوي ” تأخر العرب والمسلمين على ما كانوا عليه في العصر الذهبي عصر التدوين / العصر المرجعي الإفتراضي وتأخر آخر هو التأخر عن الغرب الأوربي منذ معاودة الإتصال بذلك الغرب وإعادة إكتشافه ” (02)  ولثقافة اليقين الأعمى ولا تقبل مطلقا بالأسئلة الصادمة الذاهبة ذهابها الحميم لتحرير العقول من غلالات التكلس والإطمئنان الذي نشأت عليها وميزت كل مسارتها العقيمة والأوهام التي صدقتها وإستكانت إليها.

 فقضت على نعمة العقل فيها وعلى قلق السؤال والشك وآفاقه القادرة على زحزحة الوعي الدوغمائي المسيج بقيم الطاعة الفكرية والإمكانات التأويلية التي تتيحها طاقات قدرة السؤال والشك بعيدا عن عنف العقل الوثوقي المطمئن الواثق مما تلقاه كتلميذ غبي أو مناضل في حزب سياسي شمولي مهمته أن يتلقى وينفذ ولا يناقش بل لا يحق له أن يتساءل أو يشكك مطلقا.

ولعل من أبرز الآثار السلبية المنبثقة عن هذا الوضع الميؤوس منه خلو الفضاء الثقافي والفكري مع بعض الإستثناءات الجزئية من نخب ثقافية متنافسة حول جودة الأداء الثقافي والفكري وانعكاساته السلبية على إنتاج المعنى والدلالة. والرهانات المعاصرة لتجاوز أزمة هذا (التأخر التاريخي).

وكل ما هناك هو تنافس على أشده بين أجيال أدبية وقبائل ثقافية وتكتلات فئوية حول النفوذ الثقافي والإجتماعي والسياسي والاكاديمي في أبعاده النفعية والبراغماتية والنفسية والمزاجية التي لا علاقة لها لا بالتربية ولا بالمعرفة والأنساق الثقافية والإجتماعية التي إنبثق منها سؤال الأنا الباحث عن وهج المعرفة بذاته وكينونته ولا ببناء الإنسان بإعتباره الوجود السابق على المعرفة. فالتقسيم الميكانيكي والإداري والسياسي والعشائري والفئوي للأجيال والفضاءات الإجتماعية والجغرافية والإنتمائية والهوياتية في أبعادها الضيقة.

ينتج في النهاية إنفساما وتوترا وتحولا بإتجاه نص آخر هو (النص الغريب عن اللسان)، بتعبير الناقدة الفرنسية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا يقع على عاتقه غياب الأداء الثقافي من لدن المثقف الحر و ترسيخ قيم بديلة للصعود والتموقع و(التشكل الكاذب) بتعبير فيلسوف الحضارة شبنجلر الذي لا يليق بشرف المثقف ولا يتناغم مع ما ينتظره منه الفرد والمجتمع والفئات الإجتماعية التي تعلق عليه آمالا عريضة لتنويرها وتخليصها من الجهل والتخلف والوعي الزائف.

ولا تغرنك أبدا محاولات تسييس الثقافة التسييس الذي حذر منه ومن نتائجه الوخيمة السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن وتحول المثقف النقدي إلى مثقف حزبي لتعويض شرعيته النقدية المفقودة بشرعية أخرى يحاول البحث عنها بين دواليب السياسة والممارسة الحزبية والسياسية فانتماءه الحزبي يمنعه من الخروج عن ثقافة الصف والولاء السياسي الأعمى.

 التسييس الذي كان يرى عمار بلحسن أنه يجري إنطلاقا من مركز السلطة ووفقا لمشروعها والسلطة في مفهوم عمار بلحسن ” هي ” مجموعات وطنية شعبية الجذور عرفت ملذات وإمتيازات التبرجز وتجسدت في شعبوية وريثة الحركة الوطنية الشعبوية بدون أهلية ثقافية أو فكرية ولم تطور ثقافتها السياسية ولم تربط علاقات علاقات حوار وتشاور مع المثقفين فأصبحت نسقا داخليا مغلقا ونظاما إيديولوجيا مقصيا للأفكار والرؤى الأخرى ” (03).

وعملية تسييس الثقافة والمشروع الثقافي الغائب لا تتحمله السلطة وحدها في نظر عمار بلحسن فحتى الأحزاب السياسية الوريثة لها تتحمل نصيبا مهما من مسؤولية تسييس الثقافة الأحزاب التي كان يرى أنها ” أدرجت “مسائل خطيرة كاللغة والهوية في الصراع السياسي مما عكس هشاشة وتسرعا من من أروقة الدولة إلى فضاءات المجتمع ومن السياسة إلى الثقافة ومن الخطاب الحزبي إلى الممارسة الإجتماعية والفكرية ” (04).

من أجل هدف محدد وهو التعامل مع المثقف النقدي بوصفه تابعا لها وليس شريكا في التخطيط للمستقبل المنظور.

 وحتى الحركات الإسلامية فهي لا تشكل في التحليل السوسيولوجي لعمار بلحسن سوى إستكمالا لمشروع تسييس الثقافة التسييس الذي طال أيضا تسييس المروث الديني والإسلامي.

وهكذا حجب هذا التسييس إمكانية ” تفكير علمي أو معرفي حول التراث الإسلامي والشريعة والشورى ومفاهيم الإسلام السياسي والتجارب الإسلامية منذ الخلافة الراشدية والفتنة الكبرى وغيرها ” (05) مما خلف نوعا من الديماغوجية لدى ممثلي الإسلام السياسي والحركات الإسلامية المحتكرين لأبعاد المروث الديني الرمزية والتاريخية والتيولوجية التي لازالت بمنأى عن أي نقد ثقافي أو تاريخي أو قراءة أنطولوجية أو فلسفية  بإستثناء جهود محمد أركون أو بعض المفكرين العرب القلائل كنصر حامد أبوزيد ومحمد عابد الجابري بنوع من الوعي الدوغمائي العاطفي واليوتوبيا المفقودة التي يراد بها دغدغة مشاعر الطبقات المسحوقة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كملفوظ لخطاب سياسي تحول في مرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي) إلى مجرد أقنعة للفقيه السياسي أو آليات للعرض والطلب مفرغة من وهجها وجدواها ومن فاعليتها الإجتماعية والدينية لإكتفاءها بالبعد الشعاري الواجهاتي وبآفاق إعادة إنتاج أخطاء النخب الرسمية العربية الحاكمة في عملية أشبه بتبادل للأدوار لا غير.

وللأسف الشديد لا وجود لمشروع ثقافي في الأفق في مخيال الفقيه السياسي لتثقيف السياسة بدلا من تسييس الثقافة بالمعنى الذي يطرحه عمار بلحسن في مقارباته السوسيولوجية لقضايا الإسلام السياسي والهوية واللغة والسلطة والمثقف عندما يضع تجربة الإسلام السياسي تحت طائلة النقد السوسيولوجي، وكان يرى أن تجربة الإسلام السياسي في العالم العربي “كثقافة و فلسفة و وجود لم تتحدثن ولم تتعلمن أي لم تستقل عن السياسة كمجال روحي و أخلاقي و ديني بسبب ضمور و تراجع النقد العقلاني و المجابهات بين الأنتلجانسيا العصرية و العلماء و رجال الدين الذين بقوا متعلمين و حراس ثقافة تراثية لم تهب عليها رياح و عواصف التجديد و النقد العقلاني إلا قليلا ” (06).

والدليل على ذلك أننا لا نتوفر في جزائر اليوم على بعض النماذج والرموز الثقافية والسياسية والدعوية التي تجمع في رؤيتها بين الإسلام والتنوير على غرار ما كان سائدا في المشروعين الفكريين لمالك بن نبي ومحمد أركون على ما بينهما من فروق في الرؤية والمنهج وأدوات التحليل النقدي.

وفي مسار مفكر عربي هو وائل حلاق، وهو ذو توجه إسلامي مركب بين الحداثة والإسلام الأمر الذي لم يمنعه من توجيه نوع من النقد وهو (النقد المزدوج) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي أولا للدولة الحديثة ثم (لمأزق الحداثة الأخلاقي).

 فالدولة الحديثة في نظره ” ليست مستقرة على نحو مريح في العالم الإسلامي وفي جزء كبير من العالم الأفروآسيوي كذلك تعيش الحداثة برمتها بصورة إشكالية في العالم ككل بما في ذلك أوربا وأمريكا التي أنتجتها مأزقا أخلاقيا يتراوح بين الفراغ الروحاني الخاص بالذات المفككة والغرائزية والنرجسية وتدمير المجتمع العضوي والأسرة والطبيعة ” (07) وهذه أشياء يقول ” لا يمكن فضلها عن مشروع الدولة الحديثة البعيدة المدى ” (08).

وهو لا يتردد في التعرض للإخفاق السياسي الذي ساد تيارات الناصرية والإشتراكية وحتى لتيار الإسلام السياسي الذي وصفه بأنه يفتقد للوضوح الفلسفي حتى الآن.

 وهاهو مفكر بارز بحجم إدوارد سعيد نفسه عندما كان بصدد إستعادة سيرة فرانز فانون الذي غادر الحياة سنة 1961  ولم يشهد فرحة الإستقلال ولم يتمكن من رؤية كتابه (معذبو الأرض) الذي صدر بعد وفاته. لم يتردد أبدا في إفتراض أن فانون حتى لوبقي حيا إلا ما بعد الإستقلال فكان سيغادر الجزائر إلى مكان آخر.

والدليل على ذلك في نظر مؤسس النظرية ما بعد الكولونيالية، أن الكثير من مناضلي حزب جيهة التحرير الوطني أصبحوا بعد الإستقلال مجرد موظفين في جهاز الحزب و الدولة، ولم تنبثق منهم حسب إدوارد سعيد طبقة من المثقفين تحافظ على مسافة نقدية بينها وبين أجهزة الحزب والدولة.

 يحدث كل هذا في ظل صمت المثقف الجامعي وتعاليه عن المساهمة في النقاش الفكري والسياسي لقضايا الديمقراطية والهوية واللغة والبناء السياسي والبناء الثقافي بدعوى إحترام التخصص.

 وهو عذر غير مبرر تفنده بعض تجارب كبار المتخصصين في حقول بعيدة عن العلوم السياسية وعن علم الإجتماع السياسي على غرار المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي يعد أحد عمداء النظرية اللسانية التوليدية.

فتخصصه في اللسانيات التوليدية لم يمنعه من التدخل في الشأن العالمي ومناهضة شتى آليات الغطرسة الغربية على دول العالم الثالث عبر عدد من الكتب التي أدان فيها التدخل الأمريكي السافر في العراق وأفغانستان وغيرها، خاصة في كتابه المهم (الدولة الفاشلة إساءة إستعمال القوة والتعدي على الديمقراطية).

 وهو أيضا أحد الأصدقاء المقربين من المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد.

وكذلك الأمر بالنسبة للناقد والمفكر الفرنسي من أصل بلغاري تيزفيطان تودوروف فتخصصه في النقد الشكلاني والبنيوي وفي حقول السيمياء لم يمنعه من الإنفتاح قليلا على الأخر والخروج من غيتو الصنمية الفرنسية التي فرضتها المناهج النسقية المغلقة، فكتب كتابه (الأدب في خطر).

الكتاب الذي وصف فيه بعض تجاربه السابقة مع النقد البنيوي الشكلاني أشبه بما سماه (الغيتو الشكلاني).

هذا فضلا عن بعض كتبه الأخرى على غرار (فتح أمريكا مسألة الآخر) / (تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية) / (الحياة المشتركة) / (لأمل والذاكرة) / (الخوف من البرابرة ماوراء صدام الحضارات).

الكتب التي حذر فيها من مزالق التنوير ومن صنمية المركزية الغربية ومن “صدام الحضارات ” في التعامل مع الآخر داعيا إلى التمسك (بالحياة المشتركة).

 فعل ذلك، وهو الفرنسي من أصل بلغاري الذي لا يقاسم زملاءه من النقاد الفرنسيين بعض قناعاتهم بخصوص الأصولية الفرنسية ومثالب المركزية الغربية وغيرها من لاءات الإصطفاء والمعيارية الغربية التي تتمتع بها فرنسا الثقافية في علاقاتها بالآخر القادم من مستعمراتها السابقة ومن دول العالم الثالث تحديدا.

 ويفضل بعض الأكاديميين عندنا النشر فقط في المجلات العلمية المحكمة كما يرون.

وهي مجلات لا يتعدى دورها حل مشكلة بسيطة تواجه الباحث في مساره المهنى، وهذه المشكلة تطال رغبته في الترقية المهنية ليس إلا..

وليس في إمكانها حلحلة أزمة التفكير بصوت مسموع خارج قاعات (النقد الصالوني) بمفهوم عمار بلحسن، أو المساهمة المعرفية في تجاوز و(تشريح العواضل البنيوية والتاريخية للعقل العربي).

العواضل التي خصص لها باحث جزائري مجتهد هو الدكتور اليامين بن تومي كتابا مهما يحمل العنوان ذاته (تشريح العواضل البنيوية والتاريخية للعقل العربي).

وهي العواضل التي دفعته لطرح صيغة للتثوير النقدي الذي لا يتنافى في نظره مع ثقافة المراجعة و(النقد الذاتي)، مراجعة ما سماه بعملية الإسترزاق المصطلحاتي من بنوك الغرب لأعادة جدولة ثقافتنا وهو الأمر الذي يرى أنه ” أدى بنا في الحصاد العام إلى الفوضى والبلبلة ” (09).

مستعينا في هذا الصدد بالتعديلات التكميلية للمقاربة مع مع سيغفريد شميدت ونيكولاس لومان من خلال تشريح الوضعية العلائقية للنسق، لا بإعتباره البنيوي المغلق بل بوضعه “داخل المقاربة التواصلية مع الأبعاد السيميائية والثقافية كنسق البيئة ونسق المجتمع ونسق الإقتصاد ” (10).

وهنا يبدوا أن اليامين بن تومي قد وضع في الأفق مشروعه النقدي أمام محك تجاوز ما وصفه بتجاوز العواضل البنيوية لأزمة الثقافة العربية والمشاريع النقدية العربية التي بقيت حبرا على ورق ولم تساهم في تحرير الذات العربية من الوعي الزائف.

وهو لا يعني بالنقد النقد الأدبي فقط بل يعني النقد الثقافي عموما.

 والدليل على ذلك أنه يخصص في كتابه هذا فصولا متنوعة لعدد من المشاريع النقدية العربية، على غرار مشروع محمد عابد الجابري في النقد الإبستمولوجي ومشروع حسن حنفي في علم الإستغراب وثنائية المركز والأطراف عند عبد الله إبراهيم.

ثم نسق العقل المقاوم عند إدوارد سعيد ونسق التجنيس عند عبد العزيز حمودة والأنساق الإقليمية عند محمد مفتاح وغيرهم.

واضعا إياها تحت مجهر الأنساق الثقافية الكلية والجزئية. بما يعني الإقتراب من منظور المفكر السوري هاشم صالح، الذي يعتقد أن هناك (إنسدادا تاريخيا) للذات العربية.

الإنسداد الذي حال دون بروز أو إنبثاق صحوة فكرية على ما يرى هاشم صالح الذي يربط صحوة الفكر بالجرح والمظلومية وليس بالوظيفة التعليمية.

وفي ذهنه تجربة مهمة في الدرس الفلسفي المعاصر وهي تجربة الفيلسوف نيتشة، وهو يراهن بأنه لولا مرض نيتشة لما أصبح فيلسوفا أو مفكرا كان ينقص نيتشة بحسب رؤية هاشم صالح وهي رؤية صحيحة.

” شيئا واحدا لكي يصبح مفكرا كان يلزمه أن يسقط صريع المرض وأن يترك الجامعة ويهيم على وجهه كان يلزمه أن يدفع الثمن باهضا وأن يصل إلى نقطة حرجة تفرض عليه خيارين لا ثالث لهما إما أن يفكر أو أن ينتحر “(11).

مطلقا صيحتة الشهيرة القاضية بأن كل ممارسة حديثة للفلسفة محصنة داخل سعة إطلاع وهمية مرتبطة سياسيا وإيديولوجيا بالكنائس والجامعات والحكومات مآلها الفشل.

لقد كان النقاد الأكاديميون الجزائريون المؤسسون لبدايات تشكل النقد الجزائري المكتوب باللغة العربية محمد مصايف وأبي القاسم سعدالله وعبد الله ركيبي ومحمد ناصر وغيرهم يساهمون في مختلف القضايا الأدبية والفكرية والسياسية المطروحة في زمنهم عبر الصحف الوطنية والجهوية آنذاك.

ولم يتردد هؤلاء الكبار نصا وسياقا في تقديم الدعم الرمزي والمعنوي لغيرهم من الكتاب الشباب آنذاك، كتاب جيل السبعينيات من الأدباء عبر هذه الصحف، وهم الذين لم يشعروهم أبدا بأية دونية أو تراتبية مهنية أو بسودو علمية.

والأمر لم يتوقف عند هذا الحد فكثير من القضايا الفكرية التي طرحت في المشهد الثقافي آنذاك إحتضنتها الصحف الوطنية حتى تلك التي شارك فيها نفر من علماء الأجتماع، مثلما هو الشأن مثلا لذلك النقاش الذي فتحه على صفحات جريدة جزائر الأحداث السوسيولوجي المرحوم عبد القادر جغلول في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم والمتعلق بالبحث عن مشروعية النخبة الجزائرية أو الأنتلجانسيا، وهو نقاش أثمر نتائج فكرية مهمة ساهم فيه العديد من الباحثين.

الأمر الذي دفع الدكتور عماربلحسن بوصفه أيضا أحد المساهمين في هذا النقاش الواسع إلى جمعه والتقديم له في كتاب حمل عنوان (أنتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر… ؟) صدر عن منشورات دار الحداثة في بيروت.

أسوق هذا المثال وأنا أتأمل في دعوة عمار بلحسن لتثقيف السياسة بدلا من تسييس الثقافة وهو يعني بها عدم مردودية النقد الجامعي والصالوني المنغلق، داعيا إلى تعميم الأفكار ونشرها ونقدها على الصعيد التربوي والإعلامي والثقافي وإنتاج المعنى الإجتماعي أي ” عملية تثقفيف شاملة ودائمة من المدرسة والتلفزة والإذاعة والجريدة والحياة اليومية والمقهى والنادي ” (12).

فالأزمة في منظوره عميقة وتطال ” تأصيل وتجذير الديمقراطية في المجتمع والثقافة والإنتقال من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة وهي مهمة جدلية وحوارية بين المثقفين والمجتمع والدولة أيضا ” (13).

ولا علاقة لذلك بما يسمى (الإستمرارية)، إستمرارية ممارسة سياسة الهروب إلى الأمام وعدم مواجهة الذات أو نقدها أو مراجعة السياسات الخاطئة بنوع من (النقد الذاتي) الذي لا يزال المثقف العربي بعيدا عنه ويتهيب من طرحه لأنه يطال الذات العربية التي كان يرى محمد عابد الجابري أنها على الصعيد النفسي ” لاتقبل النقد إلا في صورة مدح أو هجاء “.

علما أن مفهوم الإستمرارية ذاته ينطوي على نوع من الغموض والإلتباس، وغالبا ما يتم القفز على النسق المضمر من المعنى الكامن مما يحيل إليه هذا المفهوم (الإستمرارية) القائم في (الإطار المرجعي) بمفهوم الجابري للمؤرخين و المثقفين المولعين بالدرس الثقافي ما بعد الكولونيالي، ويأتي على رأسهم فرانز فانون وإدوارد سعيد ووائل حلاق وغيرهم وجوزيف مسعد وطلال أسد.

ومن هنا التردد و(الإرجاء) بالمفهوم الدريدي حين يعيد وائل حلاق مفهوم (الإستمرارية) إلى جذوره التاريخية في البلدان ما بعد الإستعمارية التي تخللها على ما يرى ” حكم إستعماري ورد فعل قومي وإستمرارية ما بعد إستعمارية ” (14).

ودليله في ذلك أن” النخبة القومية مابعد الإستعمارية حافظت على هياكل القوة التي ورثتها من التجربة الإستعمارية متبعة السياسة الإستعمارية نفسها التي حاربتها أثناء الحقبة الإستعمارية بعد ما مانالت بلادها الإستقلال ” (15).

وقد ورث هؤلاء بحسب وائل حلاق من الأمبراطوريات الغربية ” دولة قومية جاهزة بكل هياكل القوة المكونة لها لم تكن التكوينات الإجتماعية القائمة قد تهيأت لها على النحو المناسب ” (16).

وعليه فقد أثبتت على مر السنوات فشل تجربة تسييس الثقافة وإنكسار الثقافي لصالح السياسي، ومن غير الممكن إعتبار الإستمرارية على نهج تسييس الثقافة حلا حتى ولوكان حلا مؤقتا.

 الأمر الذي حال دون بروز (كتلة تاريخية) بتعبير غرامشي قادرة على الذهاب بعيدا بأتجاه (تثقيف السياسة) مثلما تمنى ذلك عمار بلحسن بوصفها قوة رمزية أو على الأقل أنتلجانسيا قوية، كما لاحظ ذلك الدكتورعبد القادر جغلول الذي نفى وجود أنتلجانسيا نقدية بالمعنى الدقيق وكل ما هو موجود في نظره “مجموعة من الأفراد بدون أي نسيج فكري أو ثقافي يربط بينهم ” (17).

فهل من الممكن أن نشهد (صحوة المثقف التابع) بتحرره من هيمنه السياسي للإنخراط في المساهمة في خلق المشروع الثقافي الغائب.

 إذ جاز لنا إستخدام مفهوم (صحوة التابع) المفهوم الذي قام بنحته الناقد الهندي مابعد الكولونيالي ديبيش شاكابراتي في كتابه المهم (مواطن الحداثة مقالات في صحوة دراسات التابع ؟)

قبل أن تذهب ريحنا إن لم تكن قد ذهبت فعلا.

 علما أن التابع الذي كان يعنيه ديبيش شاكابراتي في النموذج الهندي لمرحلة ما بعد الإستعمار البريطاني للهند.

هو التابع الذي يعود إلى تراث مدرسة دراسات التابع المدرسة التي أخذت على عاتقها إعادة كتابة تاريخ الهند بعيدا عن السيطرة البريطانية وبعيدا عن إملاءات النخبة البرجوازية التي أهملت مكانة ودور التابع أو المهمش في إدارة الشأن الهندي العام في مرحلة ما بعد الكولونيالية البريطانية.

وقد كان ديبيش شاكابراتي مع ثلة من زملاءه، على غرار هومي بابا وغياتري سبيفاك وغيرهما أحد الباحثين في هذه المدرسة، تحت إشراف المؤرخ الهندي أناجيت جوها وتقاطعه مع التابع الثقافي تحديدا في الحالة الجزائرية في مرحلة ما بعد الإستعمار الفرنسي ليس سوى أحد أوجه التناص التاريخي بين تجربتين من تجارب العالم الثالث، وحدت بينهما الهموم المشتركة والإستعمار المشترك والرغبة قي التحرر أولا من الإستعمار، ثم من النخبة البرجوازية التي يلخصها أناجيت جوها في القول التالي :

” مما لاريب فيه أننا معارضون لجوانب كثيرة من الممارسة الأكاديمية الطاغية في التاريخ وذلك لفشلها في التسليم بدور التابع أو المهمشين كصانعين كمصائرهم وأن هذا النقد يكمن في صميم مشروعنا ” (18).

وهذا حال ديبيش شاكابراتي عندما يريد تخليص التابع من تبعيته فيربط ذلك بما يسميه (صحوة التابع) كي يتمكن هذا التابع من صنع مصيره بيده للمساهمة في كتابة تاريخ آخر هو (التاريخ من الأسفل).

وهو المفهوم الذي كان قد قام بتكييفه مع وضع التابع في مرحلة ما بعد الكولونيالية للهند بعد إستعارته من بعض أعمال المؤرخ الماركسي البريطاني إدوارد تومبسون.

مقرا بالفضل فيه للدرس الماركسي و بأن الماركسية هي التي ألهمته مثلما يقول هو ومن معه من نقاد ومؤرخي دراسات التابع والتاريخ من الأسفل.

عندما وجدوا الحل عند أنطونيو غرامشي الذي أنقذ الماركسية من حتمية إستنفاذها لأدوات نقدها الفعال والمنتج للبرجوازية الثقافية والإمبريالية الثقافية.

 بأن قدم نصوصا ومفاهيما مفتوحة إستثمرت لاحقا في حقل الدراسيات الثقافية عند ما هاجرت نصوص غرامشي إلى بريطانيا فوقع لها ما وقع لغيرها من النصوص و(النظريات المهاجرة). بمفهوم إدوارد سعيد التي أصبحت تشكل رافدا مهما لذلك الحقل الفلسفي الواسع الذي يحلوا للماركسيين الجدد دعوته بالماركسية الثقافية أو ما بعد الماركسية في محاولة من ديبيش شاكابراتي للرد على أولئك المؤرخين البرجوازيين والليبراليين الذين إعتبروا أن ما فعلته مدرسة دراسات التابع لا يعدوا أن يكون سوى ” مجرد تطبيقات للطرائق التي إبتدعها المؤرخون الماركسيون البريطانيون رغم أنها معدلة في ضوء حساسيات بلدان العالم الثالث ” (19).

…………………………

إحالات

01) رولان بارت الأدب والحق في الموت / إريك مارتي ترجمة نسرين شكري ص 13/ 14 منشورات المركز القومي للترجمة القاهرة العدد 2895 القاهرة الطبعة الأولى 2017

02) الإيديولوجيا والحداثة في الفكر العربي المعاصر / سعيد بنسعيد العلوي / ص 197 منشورات دار جداول بيروت / 2012

03) من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة / عمار بلحسن مجلة التبيين العدد 04 / 1992 ص 11 / الجزائر

04) نفس المصدر ص 12

05) نفس المصدر ص 13

06) الحداثة المعطوبة – عمار بلحسن – مجلة التبيين- ص 11 – العدد السابع – الجزائر 1993

07) الدولة المستحيلة الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – وائل حلاق ترجمة عمرو عثمان مراجعة ثائر ديب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت تشرين الأول أكتوبر 2014 ص 285

 08) نفس المصدر ص 285

09) تشريح العواضل البنيوية والتاريخية للعقل النقد العربي دراسة في الأنساق الثقافية العربية الكلية والجزئية – اليامين بن تومي ص 13 منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود الرباط 2017

10) نفس المصدر ص 13

11) الإنسداد التاريخي لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي… ؟ هاشم صالح ص 04 دار الساقي بيروت 2007 بالإشتراك مع رابطة العقلايين العرب

12) من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة مصدر مذكور ص 13 / 14

13) نفس المصدر ص 15

14) الدولة المستحيلة الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – وائل حلاق ص 30/31

15) نفس المرجع ص 30/ 31

16) نفس المرجع ص 30/ 31

17) حوار مع عبد القادر جغلول أنتلجانسيا أم مثقفون أجرى الحوار محمد بلحي جريدة جزائر الأحداث أعاد نشره عمار بلحسن ضمن كتابه ” أنتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر – ص 54 دار الحداثة بيروت 1986

18) مواطن الحداثة مقالات في صحوة دراسات التابع / ديبيش شاكابراتي ص 44 ترجمة مجيب الرحمان دار كلمة / هيئة أبوظبي للثقافة والتراث / الطبعة الأولى 2011

19) نفس المصدر ص 35

 

 

مقالات من نفس القسم