صريع الغواني

موقع الكتابة الثقافي art 18
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد يوسف

للغواني في الذاكرة الثقافية معان سلبية. وهي معان موروثة تتلقاها العقول بالقبول والتسليم. والغواني ليس اسما ولكنه لقب يطلق على المرأة التي انطلقت في طريق الغواية وتآلفت معها. غير أنها لا تكون غانية إلا إذا كانت على قدر عال من المواهب والمكتسبات. أعني المواهب الخلقية، والمكتسبات الاجتماعية والثقافية. وهذا يدعونا إلى القول إن الغانية هي المرأة التي غنيت بمالها وجمالها عن غيرها، فصارت مخدومة لا خادمة، ومرغوبة لا راغبة. وهي ذات تدلل ونفوذ وسلطان هيأ لها التلسط على قلوب الناس وعقولهم.

 وهذا اللون من النساء لون معروف منذ القدم في المجتمعات العربية وغيرها من المجتمعات. فهي امرأة شريفة، حرة. والشرف والحرية وصفان دالان على الطبقة الاجتماعية التي تنحدر منها تمييزا لها عن غيرها من النساء الجميلات. فهي معروفة النسب، مصونة وراء الحجب، لا تعرف الابتذال ولا الترخص، ولا التهتك، وإن كانت لها مغامراتها التي تحرص على كتمانها. وكانت المرأة في المجتمعات القبلية تحظى بمكانة مقدسة. فمن أجلها تقاتل القبيلة دفاعا عن حماها الذي يضاف إليه –مع المرأة-مواقع مرعاها، ومواقع تجارتها، والحلفاء وهم القبائل الأخرى التي لا تقوى بنفسها على حماية وجودها، فتعقد حلفا مع القبائل القوية للحماية والدفاع المشترك، والتجارة والرعي المشتركين.

ومن ثم فإن الغانية امرأة على قدر رفيع من الحسب والنسب والثقافة والجمال. وهذه المرأة هي فاطمة امريء القيس، وعبلة عنترة، وهريرة الأعشى، وهند عمر ابن أبي ربيعة، وعزة كثير، وبثينة جميل، وولادة بنت المستكفي غانية ابن زيدون، وغيرهن من النساء الكثيرات في تاريخنا العربي الاجتماعي في البلاد العربية، وفي مصر.

وإذا كانت المرأة الغانية قد حظيت بهذا الشرف الرفيع، فإن حياة التحضر والترف لها نساؤها اللائي يستجبن لمتطلباتها. ومن هذه المتطلبات اللهو والمتعة، والغناء والطرب مما يمكن اختصاره في المتعة الحسية التي لا ينطفئ غليلها أبدا. وفي هذه المجتمعات، بحث الرجال عن النساء غير المصونات. فكانت المحظيات والسراري والجواري والإماء. وكان هذا اللون من النساء متفاوتا في المواهب الخلقية، والمكتسبات الاجتماعية والثقافية. فكان منه المرأة الغانية التي حظيت بالجمال الأخاذ، واكتسبت المقدرة على مسامرة الرجال بما حصلته من أفانين القول والغناء والموسيقى، والعلم باللغة والفقه. لذا كان الخلفاء العباسيون يحرصون كل الحرص على حيازة الصفوة من الغانيات نوعا وعددا.

فالغانية إذن هي امرأة شريفة حرة تعيش وراء الحجب وتشغل بال الرجال وقلوبهم إلى درجة الأسر. فكان الرجل اسيرا لغانيته مع أنه يلهو ويرتع مع نساء مبذولات في دور المتعة والغناء والشراب. وهي أيضا امرأة مجلوبة تتقن كل أساليب المسامرة والمنادمة، وقد تكون ملكا لرجل، أو غير مملوكة لأحد ولها دار معروفة وأوقات معلومة.

والغانية بهذا المعنى ليست سقط متاع، بل هي امرأة ذات نفوذ، ومقدرة على التحكم وتغيير المسارات، يرفضها الفكر المحافظ، وتنبذها التقاليد، ويأباها العرف، ويهجوها علية القوم، وكبار الوجهاء في العلن، ولكنهم مع ذلك لايفرطون فيها، ولا يعيشون بغيرها لأنها تشبع الوجه الآخر من وجوههم. ويطلبون ودها على الدوام، وهذا سر بقائها منذ أقدم المجتمعات إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. فهي الصاحبة والخليلة، ومستودع الراحة السري. وقد أفاض الشعراء في هذه المسألة. وجعلوا هند علما على كل امرأة غانية. ومن ذلك قول عمر ابن أبي ربيعة

                ليت هندا أنجزتنا ما تعد      وشفت أنفسنا مما تجد

                واستبدت مرة واحدة          إنما العاجز من لا يستبد

                كلما قلت: متى ميعادنا       ضحكت هند وقالت بعد غد

وقول أبي تمام

                فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها      سجية نفس. كل عانية هند

فهند التي ذكرها عمر ليست امرأة معروفة بهذا الاسم ولكنها علم على كل غانية، وهي عنده غير المرأة المصونة من آل نعم التي كتب عنها قصيدته المعروفة. وهند هذه امرأة لا تفي بما تعد، وشيمتها المطل، تبيع المتعة، وقادرة على إقناع كل رجل يطلب ودها، لذلك وصف ابوتمام كل امراة غانية بالغدر. فكل غانية هند. وزاد العرب فجعلوا هند علما للرجل، كما هو علم على المرأة

وغانية اليوم غير غانية الأمس، اتخذت لبوسا جديدا، وسلكت مسالك شتى في التأهيل والتدريب، والتزين والتوسل بوسائل لا حصر لها. وجوهرها المرأة، وعمادها آنية المتعة بكل مشاربها. كانت في الأمس مقصد من يريد، واليوم تقتحم كل من يريد ومن لايريد، فأنت لا تذهب إليها، ولكنها تأتيك حيث أنت. والزهو بصحبة هؤلاء-في زمننا-لم يعد مما يشين ولا مما ينقص من القدر، بل إنه إعلان عن فحولة المال، وفراغ الوقت، ووفرة الطاقة. وإطلاق لقب الغانية يتوقف معناه على قصد من يطلقه، وعلى سياق الكلام، وعلى مكانه ووقته من الليل أو النهار. ومن ذلك إطلاق هذا اللقب على شاعر علم من شعراء القرن الثاني الهجري.

ف “صريع الغواني” لقب التصق بشاعر هو مسلم بن الوليد الذي لم يكن من أهل الجاه والسلطان، ولا من أهل اللهو والمجون مثل الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع، ولا حماد عجرد ولا والبة بن الحباب، ولم يكن شاعرا ذا رؤية فكرية فلسفية مثل أبي نواس الذي عاقر الخمر وتغنى بها، وتغزل بالجواري والغلمان، واطمأن لإبليس ومدحه واستفتاه. لم يكن مسلم بن الوليد الشاعر المولود بالكوفة 140 هجرية من أهل هذا الفريق ولكنه مثل أهل الكوفة والبصرة وبغداد يحب الشراب والغناء والموسيقى ونوادي الأنس والجمال. أحب كل ذلك في سني عمره الأول، وكان فرحا بموهبته الشعرية المبكرة فرحا كبيرا. وكان الشعر باب الغنى والشهرة وذيوع الصيت. وسبيل الرقي. وكان خلفاء بني العباس يحبون المدح أكثر من غيرهم لتوطيد أركان ملكهم على أسس عقائدية أصولها هاشمية عباسية. وكانوا أسخياء مع الشعراء المقتدرين على المدح. لذلك كان مسلم متطلعا إلى بلوغ بغداد والوقوف على أبواب الشهرة والمجد. فمدح وعرف بالمدح وكان كغيره من شعراء المدح يستهلون قصائدهم بالنسيب والغزل وذكر النساء. ومدح هارون الرشيد بقصيدة ورد فيها:

                وما العيش إلا أن تروح مع الصبا   صريع حميا الكأس والأعين النجل

فنال استحسانه وأطلق عليه لقب” صريع الغواني” فعرف به. ولا ضير من ذلك. ولكن الضير لحق بالرجل حين استقر في وجدان المتلقين لشعر مسلم أنه من اللاهين العابثين صرعى الغواني. وسيرة مسلم سيرة تقول إنه كان رجلا خاشعا وقورا محبا للحياة في غير اسراف ولا تهتك ولا تقتير، وكان كريما مع نفسه وأهله وأقرانه. فكان ينفق كثيرا مما يأتيه من مال لقاء المدح على حياته ومحبيه. ويقال إنه تزهد أخريات حياته ورثى زوجته حين ماتت على غرار ما فعل جرير، ولم يكن مسلم حفيا بهذا اللقب. وكره في أخريات حياته أن ينادى بصريع الغواني كما ذكر صاحب الأغاني في الجزء التاسع عشر.

ولم يكن مسلم أول شاعر ورد لديه تعبير الأعين النجل، ولا أول شاعر عرف بأنه صريع الغواني، ولكنه الشاعر الوحيد الذي التصق به هذا اللقب. فقد سبقه إلى ذلك الشاعر عميرة القطامي التغلبي الذي توفي قبل ميلاد مسلم بعشر سنوات. فقد قال:

                صريع غوان راقهن ورقنه     لدن شب حتى شاب سود الذوائب

وهو من قصيدته التي مطلعها:

              نأتك بليلى نية لم تقارب         وما حب ليلى من فؤادي بذاهب

ومع أن جريرا – وهو أسبق من عمير ومسلم-حين ذكر العيون التي في طرفها حور، ذكر أنها تصرع ذا اللب حتى لا حراك به، بما يعني أن مادة صرع وردت لديه في سياق تأثير العيون، فلا نعرف أحدا من النقاد او المؤرخين أطلق عليه لقب صريع الغواني والتصق اللقب بمسلم الذي لم يرد لديه ذكر الغواني كما ورد ذكرها عند عمير القطامي التغلبي، أو كما ورد عند جرير في سياق تأثير العيون على ذوي العقول. ومن ثم فإن التفتيش عن ألقاب الشعراء والمفكرين والكتاب في تاريخنا مطلب لا فكاك منه.

فقد عرف أبو العتاهية بأنه شاعر الزهد لكونه كتب شعرا كثيرا في التهوين من شأن الحياة، والتعظيم من شأن الموت، والتنبيه إلى مصير الحياة والأحياء. وحقيقة الأمر أنه ليس من الزهاد وإن تفرغ لهذا اللون من الشعر. فمثله مثل من يكتب عن التصوف وليس متصوفا، ومن يدرس الفلسفة لطلاب العلم، ولكننا نعبث حين نطلق عليه أنه فيلسوف، أو أنه صوفي من أهل الكشف والطريق. فأبو العتاهية نفسه كان يعيش حياة الناس بما فيها من متع حسية وعقلية، وما فيها من بؤس ونعيم، وقد انتقد سلم الخاسر أبا العتاهية كما انتقد شعره حين قال:

                      ما أقبح التزهيد من واعظ     يزهد النــــــــاس ولا يزهد

                       لو كان في تزهيده صادقا    أضحى وأمسى بيته المسجد

وأبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم بن سويد. لم يذع صيته باسمه بل ذاع بكنيته التي تشي بالذم والانتقاص المردود إلى العته. وتداول المؤرخون والنقاد هذه الكنية المشينة وجعلوها لقبا، ولايتذكر أحد ما في هذا اللقب من سوء. وإذا كان أبوالعتاهية قد ناله السوء من لقبه، وإذا كان مسلم لا يروق له لقب “صريع الغواني” لما فيه من لمز وهمز أخلاقي، فإن الحسن بن هانيء الحكمي، اشتهر بكنيته “أبونواس” الذي صار لقبا من ألقابه يشي بالحسن والتدلل والجمال. فأبونواس كان يختال بجماله وهو صبي في حانوت العطار بالبصرة. فالقلنسوة التي كان يلبسها فوق رأسه، يخرج منها ذؤابتان من الشعر يمينا ويسارا على جبهته يختال بهما، فأطلقت عليه هذه الكنية اعترافا بما كان عليه من وسامة. والعجيب أن أبانواس على الرغم مما اشتهر به من تمرد وولع بوصف الخمر والتغزل فيها، لم يطلق عليه أحد لقبا ينتقص من خلقه ولا من سيرته.

ولأبي العلاء شأن آخر مع البحتري وأبي تمام. فمع أن لكل منهما كنية عرف بها الأول” أبوعبادة” والثاني” أبو تمام” فإن أبا العلاء حين شرح شعر كل منهما أطلق على الأول” عبث الوليد” وعلى الثاني” معجز حبيب” تهوينا من قدر البحتري، وتعظيما من شأن ابي تمام.

وقد تبين لنا بعد كل هذا السرد أن تاريخ الأدب بما فيه من مواقف وأحكام لا يخلو من تحيز، ولا يخلو من مغالطات. ولنا أن نتناول أحكامه ومواقفه بحذر وبصيرة وانتقاد، وألا ننقاد وراء ما هو متواتر وذائع بين الناس وعلى صفحات أمهات الكتب، وألا تخدعنا الأسماء المشهورة قديما وحديثا فنصدقها ونسلم لها عقولنا.

مقالات من نفس القسم