بيلسان.. والبحث عن الحلم الضائع

بيلسان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شوقى عبد الحميد يحيي

        على الرغم من أن الغزو الفرنسى (النابليونى) وقع على روسيا فى العام 1812، إلا ان تولستوى لم يكتب رائعته الخالدة “الحرب والسلام” عنها، إلا بداية من العام 1865. أى بعد ما يزيد عن النصف قرن، ليكشف عن تحولات المجتمع الروسى بعد ذلك الغزو.

غير أن التحولات المجتمعية فى وطننا العربى، وفى مصر خاصة، وخلال عشر سنوات فقط، كان من التأثير الدافع للروائيين، أن يشحذوا هممهم، ويشرعوا أقلامهم، لاستنطاق تلك التحولات، عبر رؤى إبداعية، تحمل من الإبداع والتخيل، ما يحيل التاريخ إلى عمل فنى، دافع للهمم، ومحرك للتحول من الجمود والصمت، إلى الحركة والإيجابية، على عكس ما ألفته المنطقة العربية من ثبات فى الحركة، وتشبث بالماضى الذى لم يعد صالحا للحاضر.

وإذا كانت قد تعددت تلك الروايات، إلا ان أحدثها “بيلسان” للروائى الذى اختطفته الكتابة للطفل من الكتابة للكبار “أاحمد طوسون” صاحب “مراسم عزاء العائلة” (2006)، “تأملات رجل الغرفة” (2011)، و”رقة القتل” (2015). ثم ليعود تحت ضغط الواقع وفورانه، الكاتم للبركان تحت السطح، ليقدم “بيلسان” (2021)[1]. والتى صدرها بذلك الإهداء الشاعرى النابض بالألم، والذى يصلح أن يكون العتبة الأولى – لا العنوان- والكشاف الذى لابد للقارئ أن يحمله للسير عبر دهاليز الرواية ومنحنياتها، كى يصل إلى الضفة الأخرى من نهرها المتدفق.

فبعد أن قامت هبة الشعب التونسى، بثورته الشعبية الرائدة فى 17 ديسمبر 2010، وهروب رئيسها زين العابدين بن على، إلى خارج البلاد. تحدث الكثير من المحللين والسياسيين فى مصر، أن مصر ليست كتونس، وأن ما حدث بها، لايمكن أن يحدث فى مصر، متناسين أن وحدة الشعوب العربية، ليست فى الموقع الجغرافى واللغة المشتركة فحسب، وإنما أيضا فى وحدة التاريخ والمصير.. وفى الحياة السياسية. فما كانت دوافع الثورة هناك لاتختلف كثيرا عنها هنا. بل تشابه المحرك الأساسى فيهما، بطريقة موت “بوعزيزى” هناك وموت “خالد سعيد هنا. ولذا لا تخلوا رواية طوسون، من الإشارة إلى تشابه الأسباب، ووحدة المصير، والتى تكشف عنها تلك الإشارة { شاركته نفس الحجرة التى كان يسكنها معه جمال الوحش فى شقة تجمع ثمانية أشخاص، من جنسيات مختلفة، سودانيان وسوريان وعراقى وتونسى، جمعنا الاغتراب عن الوطن من أجل لقمة العيش أو الهروب من أوطان ضاقت بأهلها بعد أن روعها الفزع}ص116. وكأن الدول العربية، أو أغلبها على الأقل، قد أصبحت طاردة لأبنائها، لا سعيا فقط من أجل لقمة العيش، وإنما { الهروب من أوطان ضاقت بأهلها بعد أن روعها الفزع}.

ولم يكن طوسن بمستطيع عرض تلك التحولات المجتمعية، إلا بالخدعة الروائية التى يعرض فيها سارده، إلا بعرض نفسه على الطبيب النفسى، ونعنى بالخدعة، أن السارد يذهب إلى الطبيب النفسى، وهو لا يعرف لما ذهب إليه، فيطلب منه الطبيب أن يكتب ما يشعر به. لتكشف المقابلة عن رؤية الكاتب لتلك التغيرات، حين يتحدث السارد إلى الطبيب، وقد انتحل شخصية صديقه، فيسأله الطبيب: هل شارك فى 25 يناير؟ وهو يعلم أن صديقه شارك بالفعل فى الثورة، فيجيبه بالإيجاب. ثم يسأله الطبيب وهل شاركت فى 30 يونيو؟ فيصمت السارد، فهو غير متأكد من أن صديقه شارك فيها أم لا. ليتكشف الموقف، أن الوفاق كان مع الأولى، وعدم الوفاق مع الثانية. أما لماذا؟ فهو ما تكشف الرواية عنه.

ونعلم فى النهاية بأن السارد كتب ما يشبه حياته، وبينما هو فى طريقه لتسليم ما كتبه للطبيب النفسى، يقابل صديقه “حامد وجدى” صاحب المكتبة، فيجد نفسه يقم الأوراق له.. ويقول الصديق، الذى اخبره من قبل بأنه يملك خيال روائى {أعرف ان كثيرا من المشاكل التى حكيتها مجرد أكاذيب صغيرة ليست لها أسنان، ولن تعض أحدا، أكاذيب لحظية تتوالد على المقاهى وفى صحبة الرفقة وتموت بعدها… فى مساء ليلة قائظة، قال لى حامد بعد أن ابتعدنا عن رفقتنا: ” انت حكاء بارع .. تمتلك خيال روائى.. احتفظت بلفتة حامد فى خور عميق بقلبى.. ولم أكن أعلم أننى سأكتب حكايتى كاملة بحثا عن باب للخروج من هذا التيه الذى أعيشه}ص163.

فيخبره حامد، بأن ما كتبه إن أعجبه، سينشره. وكأننا أمام رواية داخل الرواية، تماهيا معا، مثلما تماهت الشخوص، بحياتها، ومعيشتها، ووجودها الفردى، داخل تحولات المجتمع، فاصبحت الشخوص، معبرة عن تلك التغيرات، كما أصبحت تلك التغيرات مؤثرة فى حياتها. لتبرز براعة الكاتب فى إذابة الخاص فى العام، والعام فى الخاص، حتى اصبح التفريق بينهما، أو وضع خط فاصل بينهما، شئ يصعب تواجده، فكان على القارئ أن يقبل التماهى بين الرواية الداخلية والخارجية، كما التماهى بين الشخوص والأحداث، فلا عليه إلا أن يقبلهما كوحدة واحدة.

فيقدم الكاتب شخصية السارد “شكرى الملاح” –على المستوى الشخصية- بالصور التى تربى عليها، حيث يفرض عليه الآخرون، ما يجب عمله، وما لايجب، حتى نشأ على الاستسلام لرغبات الآخرين، يقودونه، دون إرادة منه، وليصبح شخصيه باهتة، إن لم تكن معدومة{لم أصادف فى طريقى مرآة أرى فيها نفسى، تمسح عن وجهى أصباغه وألوانه الزائفة، وتكشف عن وجهى الحقيقى، ولم أسع للحصول عليها.. مراياى كلها عكست الصورة التى رسمها  لى الآخرون، الصورة التى أرادوها ولونها وفق قواعدهم وقوانينهم وشرائعهم. لم أفكر أبدا أن أصبح نفسى، وأن أطلق العنان للطفل الذى بداخلى.. لم أمارس الحياة كما هو متوقع لأى طفل، مكتفيا بالمشاهدة والمراقبة بفم مفتوح كفم سمكة}ص17. فضلا عن أن مثل تلك الشخصية، بعد أن تجاوزت مرحلة الطفولة والشباب، واصبحت تُدرك ما هى عليه، فكان منطقيا أن تذهب إلى الطبيب النفسى بحثا عن علاج، والمثير للدشهى أن يصبح دوره ال44، بما يعنى أنه ليس فردا، وغنما هو المجموع.

ومن بين ما فُرض عليه، دون إختيار، زواجه من “مرام” الذى يعتبر زواج صالونات، فبترشيح ممن تعتبر الخاطبة تقدم للزواج منها، كذلك كل من تعرف عليهن “إلهام” و “بيلسان”، كن هن اللائى تقدمن منه، وهن أصحاب المبادرة فى الفعل.  لنشعر بالتشابك (الداخلى) الذى يجعل من السارد، معادلا موضوعيا للشعب المسلوب إرادته، والمسير وفق ما تراه السلطات، فنراه يخاطب أمه- فى داخله- فتربيته لم تكن لتسمح له بالمواجهة- {الولد الذى يراعى دوما الحلال والحرام والأخلاق وقيم المجتمع، الآن يا أمى تبدو الأخلاق والقيم، تلك الحبال التى شددتم وثاقى بها، مجرد كذبة كبيرة كالديمقراطية التى آمنتْ وحلمتْ بها إلهام، ثم أفاقتْ منها على كابوس. هل تعرفين إلهام يا أمى؟ .. إنها تشبه كثيرات من بنات  جيراننا وأصحابنا والبنات اللائى يسرن فى دروبنا الضيقة ويحلمن بفارس أحلامهن  يأتى فوق جواد أبيض ليخرجهن من الزنازين  التى نزج بهن فيها منذ ولادتهن حتى نحملهن فى نعوشهن إلى زنازينهن الأخيرة. … زنزانة جديدة  شيدناها من الأكاذيب والأوهام، اكاذيب ثلجية  تجعلنا كائنات مجمدة فى توابيت تشبه تلك المومياوات التى تطالعنا فى كتب التاريخ، ولكن بلا تاريخ أو حاضر أو مستقبل}ص18.

كذلك، عندما يغادر السارد إلى المطار، وكأن الريح تحمله إلى حيث الحرية، والابتعاد عن الأرض المشدود إليها، تثور المشاعر{بينما على مقربة من سمعى تتردد أصداء الهتافات فى كل مكان، “عيش، حرية، عدالة إجتماعية… يسقط يسقط حسنى مبارك .. الشعب يريد إسقاط النظام … الشعب يريد.. .. نعم … مع الأيام والشهور والسنين التى انفلتت من بين يدى دون أن أشعر، اكتشفت أننى أريد إسقاط النظام، سئمت من كل الطاعة التى قدمتها لأبى ولرؤسائى ولمرام. }ص17. فإنطلاق الطائرة نحو التحرر، يرافقه إنطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير {ما زلت أتذكر رائحة ذلك المساء. ذلك الأريج الذى لا شبيه له، أريج الحرية، الذى لم يستطع أثر طلقات الرصاص على الجدران والكبارى والبنايات، وفوارغها بالشوارع، وروائح الدخان والبارود التى غطت سماء القاهرة، أن تلوث طعمه أو تختلط برائحته التى استنشقتها حواسى العطشى وتشربتها إلى آخر قطرة}ص12.

وقبيل السفر، كان قد تعرف على الشابة “إلهام”، والتى تمثل شباب الثورة، ليس فى حداثة السن فقط، وإنما إرتباط تحولاتها، بمراحل التغيير الثورى، وتحوله من فاعل إلى مفعول به، حيث تعاتبه إلهام: {بهذه البساطة تُنهى كل شئ وتسافر؟ .. أنت لا تقدر التغيير الذى يحدث، مصر  تتغير وتحتاجنا معها فى لحظة ميلادها الجديد.. تعود لنا.. بهذه البساطة تتركها وتسافر! طأطأت رأسى وقلت: مصر تحتاجكم .. تحتاج تلك الروح الشابة المتوثبة المؤمنة بغد أفضل، أما أنا وجيلى فبعض حطام لا طائل منه، أحتاج أن أجد نفسى أولا! لن تفهم إلهام أن مصر تحررت بينما أنا أسير، وأريد أن أحطم قيودى وأتحرر مثلها.}ص16.

ودون أن يدرى، ذلك المغيب خلف جدران الصمت، والخوف، وقيود الواقع، تكتب إلهام رسالة له تدعوه للنزول للقاهرة يوم الثلاثاء، وهو لا يعرف لماذا الثلاثاء بالتحديد. ويستفسر السارد المغيب على المقهى أمام نقاش الأصدقاء حول المظاهرات:

{- هو فيه مظاهرات فى عيد الشرطة؟

ضرب صاحباى كفا بكف وقالا معا:

إنت عايش معنا فى البلد؟

-الدنيا مقلوبة  على الفيسبوك، وهناك دعوات لمظاهرات كبيرة فى عيد الشرطة ضد الفساد السياسى والاجتماعى وسوء معاملة الشرطة للشعب}ص33.

وعلى ذات المقهى، يدور النقاش حول ذلك اليوم المنتظر، فيقول فتحى النجار أمين حزب اليسار بالفيوم، وأحد أعضاء جماعة كفاية :

{ المشهد لا يحتاج إلى تحليل، ملف التوريث السبب فى الاحتقان الشديد الذى تعيشه البلد، مؤسسات كبيرة فى مصر ترفض التوريث وستقف ضده معنا.

  • يعنى ستخرجون يوم 25 فى الميدان أم لا؟ سأل سالم باستنكار
  • – يا ابنى الحركة الوطنية للتغيير هى من دعا للمظاهرات.. تحب تأتى معنا؟!

-أنا ؟! ليس لى فى الشعارات.. أنتم حنجورية كلام .. الدعوات هذه المرة ليست مقتصرة على حركة كفاية ولا حركة 6 أبريل وكلنا خالد سعيد.. شباب الألترس فى المباريات الأخيرة فى الدورى رفعوا لافتات إنهم نازلين يوم 25 وهؤلاء عددهم كبير ومنظمون ولهم ثأر مع وزارة الداخلية وحبيب العادلى، معنى نزولهم أن الخريطة ستختلف وتتغير، ولا أحد سيعرف حينها إلى أين ستقودنا الأحداث}ص32. ويحرك الحديث عن الألتراس شجون السارد “شكرى الملاح”، فهو يعرف أن “إلهام” من ألتراس أهلاوى، ورغم أنه زملكاوى، إلا ان خوفه عليها اثار فى نفسه الخوف {حتى لو كان الألتراس  إرهابيين، فإلهام ليست إرهابية.. إلهام تعشق الحياة والحرية والفرح.. أسأل حامد، هو يعرفها أكثر منك.. كل جريمتها أنها خرجت مع من يرون أن تيران وصنافير مصريتان …  كل ما عرفته عن إلهام أنها تستطيع هدم جبل الثلج الذى تراكم فوق روحى وجمدها مع الأيام، مثل ساحرة صغيرة لامست عصاها السحرية قلبى فذابت كتل الصقيع، وأشرقت شمس حياتى من جديد، أسأل نفسى متعجبا: كيف تستطيع تلك الفراشة المحلقة هدم الدولة؟!}ص58.

وتتفتح زهور السارد، أن واحدة تحبه، وهو الفاقد لمن يهتم به، وأخيرا يستشعر بمن يفعل ذلك. فيتصل جمال الوحش بالسارد ليسأله هل قَبِلَ العرض بالسفر الذى كان قد رفضه من قبل، لكنه يخبره الآن بالموافقة على السفر.. لتسأله إلهام التى كانت تجلس معه بكازينو ماريونا:

{حب جديد؟   ابتسمت، نسمة رقيقة عبرت روحى بعد اتصال جمال الوحش، ومسحة من السعادة والثقة خاتلتنى الغيرة التى بدت واضحة فى سؤالها}. فتغضب إلهام، كما يبو فى تصرفاتها، فيجيبها {إنت عبيطة!.. انت البنت الوحيدة التى أعرفها بخلاف مرام} ص144.

وتعود “إلهام” من الميدان يوم الخامس والعشرين، لتعبر عن مدى السعادة التى شعر بها من كان بالميدان {لو عشت هذه اللحظة، ستتمنى أن تدفع عمرك كله لتعيش لحظة مثلها مجددا}ص29. غير أن السارد، يصر على أن يبحث عن نفسه، عن الانطلاق الشخصى والخروج من القيود، إلا ان الثورة تطارده، ففى رحلة ذهابه إلى المطار، تحاصره الثورة، وهو الصامت الذى لا يجارى سائق التاكسى فى حديثه {تعرف يا أستاذ .. انا فرحت بالثورة مثلكم، أول ما شفت الناس فى الميادين والشوارع يوم جمعة الغضب وانسحبت الشرطة وتبخرت فى آخر اليوم، احسست أن حجرا ثقيلا كان جاثما على صدرى انزاح وانكسر، رغم أننى من رجال الحكومة، شاركت فى الكثير من احتفالاتها وعند زيارة المسئولين مؤيدا ومناصرا، ومعى كارنيه الحزب الوطنى.. آه والله}ص28.

وما أن يصل السارد إلى مسقط.. تتلقفه الوحدة والوحشة والغربة، ويشده الحنين إلى حيث كان الأمل فى الحرية التى يتمناها {منذ وطئت قدمى أرض مطار مسقط الدولى، افتقدت نسائم الحرية وطيورها التى حلقت بسماء القاهرة فى أيامى الأخيرة قبل السفر، نسيت فى البحث عن حياتى الجديدة إلهام، وحلمها بالتغيير الذى احتل مخيلة المصريين مع زخات أمطار يناير، تلك الومضة التى ضوت فجأة فى السماء بددت العتمة الجاثمة، وأوقدت شعلة الحماس والحرية فى القلوب، وأزاحت الغشاوة عن العيون لتبصر الطريق إلى الشوارع والميادين}ص56.

فى بداية السفر، وفقا لظروف المادة، لم يكن يحصل إلا على أجازة واحدة، وبعد تحسن الظروف أصبح بإمكانه زيارة القاهرة كل شهرين.ليجد أن لا شئ على حاله، ولا شئ فى مكانه {خلال الشهرين تغيرت أشياء كثيرة، انفجر بركان الغضب فى الشوارع، قامت الثورة التى زلزلت كل شئ فى مصر، وبدلت أماكن قطع الشطرنج، وأدوارها، فلم يعد الملك ملكا، ضحية إيمانه أن الناس لعبة بين يديه  لايمكنهم أن يتحركوا بعيدا عن الخيوط التى ربطهم بها، العرض الردئ الذى صاغ مشاهده، امتد العرض وتجاوز أزمنته، طال أكثر مما يحتمل الناس، تحررت عرائس الدمى من خيوطها، خرجوا عن النص وأزاحوا كل الأبطال الصوريين ليبقى البطل الحقيقى الوحيد هو الشعب. حتى أنا لم أعد نفس الشخص، تحررت من خيوطى، واستسلمت لرغبتى فى البقاء مع إلهام كلما سنحت الفرصة، تصالحت مع نفسى بعد عمر عشته فى خصام وعناد معها، رغم غضب مرام وتهديداتها بالانفصال والطلاق إن لم أقطع كل صلة تربطنى بإلهام}ص141.

فلم تكن زيجته من “مرام” إلا احد السجون التى يعيش “شكرى الملاح” بداخلها، فلم يكن هناك حب يجمعهما، أو تشارك فى الحياة، فضلا عما تركته فى نفسه من جوع جسدى، إلى جانب السؤال المستفز، كلما خرج أو دخل، (رايح فين .. جاى منين.. كنت مع مين) فكانت رحلة السفر لمسقط، فرصة للهروب من ذلك السجن البيتى. فوجئ السارد –ذات يوم- بزوجته لا تلبس ذهبها كما المعتاد، وسألها فعلم أن أختها تمر بضائقة فأعطته لها على أمل أن تشتريه من جديد عندما تتحسن الأمور. فبتذكر، ويعيش فى البيت ليجد أنه {منذ أن تزوجنا وأنا أعرف أن بيتنا أشبه بمحطة اضطرارية لمرام تتوقف وتعيش فيها من أجل العودة إلى بيت أسرتها من جديد، وأن انتماءها الحقيقى لأمها وأسرتها، مرام كانت نصف زوجة، تكرس كل جهدها للعناية بهم وقضاء وقتها برفقتهم، دوما كانت خلافاتنا على الوقت  الذى تقضيه مع أمها وأخوتها، حتى يئست من تغييرها، واستسلمت أمام إلحاحها المستمر، راتبها الذى راهنت مدام بشات(الخاطبة) أنه سيكون عونا لنا على مواجهة غلاء المعيشة، لم أنل منه حظا أبدا}ص113. وعندما طلب منه “سالم” يوما أن يضع مدخراته لدى “عاشور النص”  الذى يمنح 20% فى الوقت الذى لا يمنح البنك أكثر من 6% أو 7% سنويا، قال له: {الحياة لا تبقى على شئ لأدخره .. نهرنى قائلا: عندك ذهب مراتك بيعه واستثمر فى ثمنه، سنة والثانية وستشتريه لها من العوائد الشهرية… كنت أريد أن أقول له إن مرام لن تفرط فى ذهبها أبدا مهما حدث، ولو توقفت حياتى معها على التخلى عن ذهبها ستختار ذهبها}ص124.

وتصبح العودة إلى مصر، إلى “مرام”، عودة إلى السجن من جديد، فتُخبر “بيلسان” السارد بأن مدة عقد الزواج ستة شهور، قد انتهت، وسوف تذهب فى دورة تدريبية إلى ألمانيا ستة شهور، فيصيبه الإحساس من جديد بالضياع، والعودة إلى السجن: {أخذت “بيلسان” بيدى إلى غابات فسيحة من اللذة والحرية، ثم أفيق من غيبوبتى لأجدنى لم أغادر سجنى، لم تكن بحاجة إلى تبريرات، أو إختراع دورتها التدريبية التى ستسافر من أجلها، الحب كما الدين لا إكراه فيه كما يقول مولانا جلال الدين الرومى… ستسافر إلى ألمانيا وتغيب هناك حتى موعد إجازتى السنوية.. حينها سأعود إلى مصر… وإلى “مرام”}ص130.

فمن هى “بيلسان” ؟ ولماذا اختارها الكاتب عنوانا للرواية؟

منذ بدأت علاقة السارد ب”إلهام” وكرجل شرقى، محروم من حنان البيت، وراحته، فكر فيها جسديا، حتى أنها عندما دعته للنزول إلى القاهرة يوم الثلاثاء، ولم يكن يعرف بموضوع الثورة، صور له خياله بأن الأمر سيكون متاح لأن يعيش حريته معها، وسيسترجع ما فاته فى طفولته وشبابه. كذلك عندما شعر ببعض الإرهاق، اتصل بها واستدعاها بعد أن غادرت “مرام” البيت  على إثر المواجهة حول غداء السارد (زوجها) مع إلهام فى الكافيه، فيطلب السارد إلهام، ويخبرها برغبته فى رؤيتها، ويفاجأ بها بعد قليل ترن جرس الباب:

{هنا وحدنا ومعنا الشيطان يسكننى.. لكنها لم تعطنى الفرصة للتفكير، كما لم تعط الشيطان فرصة التدبير، وضعت بوكيه الورد الذى أحضرته معها على طاولة السفرة بالصالة، وفتحت ذراعيها وأخذتنى بين أحضانها، ضممتها إلىَّ، غمرنى دفء عارم أشعل جذوتى، قالت: “سلامتك” قبلتنى قبلة أولى، جاريتها بقبلة أشعلت براكين الاشتهاء، التى لم تطفئها سيول القبل، إلتصقنا وتماهى جسدانا فى جسد واحد، وتدحرجنا معا إلى السرير…. نشر الظلام ستائره على المكان، فلم أعد أر شيئا، مددت يديى فلم أجد أحدا . وتحسست وجهى أبحث عن أثر للروج أو علامة تؤكد أنها كانت هنا، قاومت ثقل جسدى وقمت.. أضأت النور، وذهبت إلى الصالة أبحث عن باقة الورود التى أحضرتها معها، فلم أجدها فوق الطاولة}ص134. إذن فقد استيقظ على  الوهم، وأنه لم يكن إلا فى حلم. فكانت علاقته ب”إلهام” علاقة بريئة، خالية من الجنس، حتى أنه بعد خروجها من السجن بعد سبع سنوات، بحكم لأنها خرجت للمظاهرة بدون تصريح. خرجت شخصا آخر، فاقد لرغبة الحياة، وإنطفاء أنوارها. طلب منها السارد الزواج. فطأطأت راسها ..ولم تُجب.

ويسترجع –السارد- حديث البساطى عن فترة حكم المجلس العسكرى، والتى أعقبت الثورة، والخوف من الضياع والتفتت: {“أخشى إن فشلت الثورة فى صنع مؤسساتها أن تتحول إلى بقايا دولة كما حدث فى دول حولنا”. كنت أريد أن أقول له إننى بت بقايا رجل، أتمزق وتعصف بى صراعاتى الداخلية، وتنفجر تشوهاتى فى وجهى فتحولنى إلى رماد، أبحث عن شكرى الذى كنته فلا أجده}ص137.

وكانت “بيلسان” – المرأة الخليجية، غريبة الاسم -هى الوجه الآخر، الاانطلاقة والحرية، والإشباع الجسدى والنفسى.  فيقول عنها {ما فعلته بيلسان بحياتى لايمكن وصفه أو اختصاره فى استحضار روحى من غيابها وترتيب حياتى وتهذيبها، لقد حولتنى من مشاهد عابر فى شرفة الحياة إلى رجل يلامس الأشياء، ينهل من ينبوعها فى أعماق الوجود، يستشعر تلك الحرارة البشرية التى تُحرك الكون ويأنس بدفئها}ص19.

ف”بيلسان” المنطلقة كانحلة بين الزهور، وتعشق أن تعيش الحياة، فهى الحلم الذى ينطلق به إلى الحرية، وهى التى جعلته يقول {الآن ادرك كم كنت واهما.. وأن التعايش مع الواقع ما هو إلا جريمة أسوأ من كل الجرائم التى تؤثمها الشرائع والقوانين}ص28. فهى الفتاة التى تمناها فى نفسه، وفوجئ بها تقدم إليه ورقة، وتطلب منه التوقيع عليها، دون أن يعلم، على ماذا يوقع، {هأنذا أمامك الآن أوقع على الورقة التى أعدتها بيلسان}ص18. لقد طلبت منه تلك الفتاة الخليجية أن يوقع على عقد زواج مدته ستة أشهر، لأنها لا تحب أن تعيش مع أحد فى الحرام. وتعيش معه أياما لم يكن يحلم بها، وتستأجر له الشقة، التى لم يكن يحلم بها، وتستدعيه بالتليفون، فيعاوده الشعور بالطيران لأن هناك من يحبه، فلا يصدق ما يعيشه {وبرغم الشعر الرمادى الذى غزا رأسى كنت أشعر بعصفور صغير يسكن فى قلبى، لم يكف أبدا عن الزقزقة والتحليق.. كل ما هنالك أنه غفا لسنوات طويلة حين لم ينتبه أحد لوجوده، صرت أشعر بحرية أكبر بعيدا عن عيون الأهل والأقارب والزوجة والأبناء، جعلنى خفيفا كطائر وحُلت بعض القيود التى شدو وثاقى بها… عشت عمرا أستبعد أن أثير امرأة وأظفر باهتمامها، بيلسان جعلتنى أتشكك فى هذا الاعتقاد، فيم اتصالها وطلب مقابلتى إن لم تكن مهتمة بى؟ }ص122.

فكلتاهما –إلهام وبيلسان- أشعره بأهميته، بوجوده، فلم يعد – أمام نفسه- ذلك الكم المهمل، الذى يطيع داخل السجن، فأخيرا ها هو يحلق. على الرغم من إختلاف الرؤى لكل منهما. فإذا كانت الأولى “إلهام” تمثل خط الثورة” والثانية “بيلسان” تمثل خط الحرية، فإن نظرته تبين وتعيده للحياة .. الثورة، والتى هى الحرية.. وكأنهما جناحا طائر يحمله إلى آفاق السماوات.

ثم يبدأ التحول، فيتحول الثوار إلى متهمين، ويتم سجن “إلهام” {لم أفهم إلهام كما إعتقدت، أعرف أنها خرجت مع الثوار من أجل وطن أفضل، فرحت ورقصت فى الشوارع عندما أعلن مبارك التنحى عن الحكم، لكنها ظلت ناقمة ورافضة لكل ما يحدث بعد التنحى، رفضت حكم المجلس العسكرى، ثم رفضت حكم مرسى وخرجت عليه مع من خرجوا فى الثلاثين من يونيو ورفضتنى.

ثم ها هى حبيسة فى سجون ثورتها}ص149. ويشعر السارد بالتمزق من جديد، ويعود إلى الطبيب من جديد، بما يعنى وجود شئ غير طبيعى،حيث ينتابه الشك فى كل شئ، وكل من حوله، فيقوده إلى الشك فى زوجته، وينفصل عنها، لتبدأ حياته فى التفتت من جديد {لم أجن من سفرى إلا التيه، تيه يحملك طائره الخرافى إلى تيه أكبر .. أشك فى مرام، أشك فى إلهام، أشك فى بيلسان، هربت من سجنى إلى سجن أضيق لا بفتأ أن ينغزنى بسكاكينه الحادة، ويحيط جسدى بأسلاكه الشائكة، سجن الريبة والشك تحاصرنى جدرانه أينما وليت}ص147، فما يحدث فوق تصور المنطق والعقل، هو مثير للشك، ومثير للجنون. ثم يهتف لتلك الغائبة خلف القضبان {لست وحدك يا إلهام هناك خلف القضبان، كلنا معك نعيش نفس الأسر والشك فى كل ما حولنا}ص155.

ولم يكن تشتته الفردى هو الذى يسيطر عليه، فقد صاحبه التفتت الثورى {لو صدقتنى إلهام ما كنا فى حاجة إلى ثورة، مبارك لم يكن ليعيش إلى الأبد، سيموت حتما ويأتى رئيس جديد سيحولنا حتما إلى مرحلة جديدة.. منذ ثورة يوليو نشهد التحول والتغيير مع موت الرئيس، مات عبد الناصر فتحولنا من الناصرية والشعارات الرنانة والعدو الذى سنلقيه إلى البحر، إلى الحقبة الساداتية والانفتاح الاقتصادى، حيث كل شئ يباع ويشترى، سافر الشباب إلى الخليج وعادوا بالدولارات واللحى الطويلة والأفكار الوهابية التى لم ينج منها السادات نفسه، واغتيل برصاصاتها، سقط السادات شهيدا، وجاء مبارك ليجمد كل شئ، شاخت الوجوه والأفكار فى أماكنها، لكنها حتما سيأتى يوم وتموت.. لوجاء جمال مبارك كان سيسعى بكل الطرق لاسترضاء الناس لينسوا أن ابن الرئيس خلف أباه فى كرسيه.. الثورة أعادتنا إلى نقطة الصفر.. الإخوان سجنونا فى شرعية الصندوق، والثلاثون من يونيو أسرتنا بأنها أنقدذت رقابنا من حكم الإخوان}ص149.

ويبدأ الترشح لرئاسة الدولة، ويسرى بين الناس نية عمر سليمان فى الترشح، فيسأله صديقه “حامد وجدى” عما إذا كان قد سمع عن ترشح عمر سليمان للرئاسة، الأمر الذى يعنى نزاع وتفتت من جديد، وصراع على السلطة، والذى كان المحرك الخلفى للأحداث، كلها، يواصل حامد:{الحرس القديم فى الحزب متمسك بترشيح مبارك مهما كان عمره وحالته الصحية، بينما الحرس الجديد ورجال الأعمال يطالبون بترشيح جمال مبارك، لكن طرح اسم عمر سليمان بهذه الطريقة وفى هذا التوقيت يؤكد أن مؤسسات كبيرة فى البلد غير راضية عن فكرة التوريث}ص90.

ويتم الحكم على “إلهام” بسبع سنوات، وحينها {لا أحد أصبح يتكلم عن الثورة، يناير التى كانت ثورة تتباهى مصر بها أمام الأمم باتت على لسان كثيرين على شاشات الفضائيات مؤامرة لشباب مدفوع من الخارج  لهدم الدولة.. إلهام باتت إرهابية خلف حديد زنزانتها}ص159.

 وتكون “بيلسان” قد اصطحبته إلى أمستردام، دون أن يعرف لما ولماذا؟ وهناك تتركه فى الفندق الذى إكتشف أن الجميع فيه يعرفونها، وتذهب فى مشاوير عديدة وحيدا، فيقرر الهرب منها، والثورة لنفسه، وكأنه يريد أن يتحرر، غير أنه يكتشف أن قيوده لم تزل، وسجنه لم يزل، فيفاجأ بها  تعود بعد إحدى الخروجات، محملة بهدايا لكل أفراد أسرته الولد مراد والبنتين عايدة وفاتن ولم تنس مرام.. وحتى هدية خاصة لإلهام.  و تودعه بعد عدد من مرات الزواج، لا يدرى كم كانت. فيذهب هو إلى الطبيب، وهو أيضا لا يعرف ما يقوله له {حاولت أن أحكى شيئا عن حياتى، او حياكة تفاصيل تشبه تفاصيلها، كيف حاولت أن أنسلخ من قيودى، أعيش وأستمتع وأحب وأعشق وأتصالح مع الحياة، وكيف عدت محملا بالخيبة والخسارة والألم}ص155. فهو إذن حاول الانسلاخ عن قيوده فى الداخل، فسافر من أجل أن يجد هناك العشق وأن يتصالح مع الحياة، فكانت هناك “بيلسان” التى  تخرج عن طور الإنسان، وتصبح،- كما تقول المراجع- أنها (زهرة عطرة تجذب الطيور والفراشات، وتنتج ثمارا صالحة للأكل). حتىأن الشعراء[2] قالوا فيها (تناثرت على وجنتيها قطرات الندى ورحيق الزعفران .. وجه كطبق من الياقوت المرصع بالماس مشرق كسماوية تماثيل الرخام.. وجه أتعبه الحسن وأضجره الجمال.. فاضت عليه عذوبة الحضور والكمال.. وديعة في عنفوانها.. طيعة في قساوتها.. هو الله أحسن إبداعه في خلقها..). والأهم من كل ذلك أنها زهرة، تُزهر أواخر الربيع إلى بداية الصيف. لتشبه فى حياتها، حياة ثورتنا التى قالوا عنها “الورد إلى فتح فى جناين مصر. ثم تم قطفه.  ومنها، ومن بيلسان” نعود للإهداء الشاعرى المبدع { الإهداء : إلى الحلم حيث يكون. إلى تلك البنت التى رسمتها فى خيالى، فتجسدت وطنا.. وأغنية.. ونسائم ربيع عابرة”}. حيث كان الحلم بالحرية، تمثلت فيه “إلهام”، التى صارت رمزا ووطنا. وبيلسان التى كانت نسائم ربيع عابرة.

ولم تكن “بيلسان” فقط هى الاسم الداعى للبحث عن كنهه، وإنما علينا ملاحظة اسم السارد “شكرى الملاح”، حيث  يأت (الملاح) صفة، إلى جانب كونه اسما.. فهو الملاح الباحث عن وجوده، وجود الوطن، وسط ركام الأحداث، وخطوب التغيرات، الداعية للدهشة والحسرة. كما جاء اسم “إلهام” متوافقا مع رؤية الرواية، فكانت –بما تمثله من عناصر الشباب والحيوية والحماس- بحق، هى ملهمة للثورة وللأمل. حتى وإنه إن كان لنا تغيير اسم الرواية .. فسيكون “إلهام” 

………………………..

[1]  – أحمد طوسون – بيلسان –  دار الفاروق للاستثمارات الثقافية – ط1   2021.

[2] – شاعر غير معروف

مقالات من نفس القسم