والده كان فلاحاً نشأ على حرث الأرض وزراعتها، يحمل على كتفه حمل أبناء كان جدي أصغرهم، تعلم في العاصمة هناك ولم يكن له إلا أن يعود مخالفاً لوصية والده، يعود لأرض بالغة الإتساع، فهمت به وهمّ به ولم يرى برهان ربه، كان يهتم بما تسمح له شيخوخته الاهتمام به.
كان صيفاً حاراً شديد القيظ، ذلك الصيف الذي أتيته ولداً في الثانية عشر من العمر صحبة عمي، الشمس في فؤاد السماء تغرس مسامير أشعتها الحارة في مصب رؤوسنا، الأرض بدت حامية تذوب من فرط الحرارة، كان يسقي بعضاً من الشُجيرات الملتفة حول البيت تحت هيام الحَر حيث تنشط الجن، تحميه – أو يحسب ذلك- من الشمس معرقته البيضاء وسحنته الشاحبة، لم يبدو مهتماً بصوت السيارة ولا توقف محركها ولا حتى إغلاق الأبواب، بل تابع سقايته واهتمامه بشجيراته وكأنه في حضرة الله.
أمسك عمي بيدي بعد أن أفرغ السيارة من حقيبتي وبعض أكياس المشتريات لجدي، عندما نزلت شعرت بقسوة المكان، روح خفية داخله تتوعدني، كأنّي بها روح الملل، في لحظة ما حضرت صورة أمي، تذكرتها في وهي تعد لي الإفطار، كانت تسكب الحليب الدافئ في كوب الشاي خاصتي عندما كانت تذكرني بأن استوصي خيراً بالجد، وأن لا أعكر مزاجه، كنت آكل لا مهتماً بوصاياها، أراقب الكوب باهتمام شديد، كان بخارٌ ما يصعد في السماء، أمسكت أمي بقميصي وأغلقت الزر الأعلى ثم قالت لي:
– جدك يحب الصغار العاقلين الي ما يتشيطنوش.
ثم مسحت على رأسي فقبلته، ثم وقفت تنهي آخر وصاياها:
– ما تعذبش جدك، ما تخليشي يقلق عليك.
ثم أضافت:
– ولا منك!
مرّ طيفها خاطفاً، ستسافر إلى بلاد الله وتتركني صحبة رجل عجوز هذا كل ما كنت أفكر فيه، صحوت على صوت عمي ينادي صائحاً :
– السلام عليكم
كان جدي بطيئاً في تفاعله مع محيطه، بطيئاً في حركته، في التفاتته، هادئاً، لا تتغير ملامحه البتة، فأنت لا تعرفه إن كان سعيداً أو حزيناً، باسماً أو متهجماً. تلفت للسيارة والمُحيطيْن بها ثم أسرعنا الخطى نحوه، عمي ماسكاً يدي، قبل يد جدي ثم قال
– وائل، شفته قداش كبر!
لكزني ثم أردف
– بوس يد جدك
كانت يده خشنة، كقطعة من الخشب لم يتم تنعيمها جيداً وأُهمِلت لذلك، بشرته الطينية وكأنّ نوعاً من الطَفَل قد هاجمها على آية بقع، لم أشعر بدفئِها رغم الطقس، ربما لأنها كانت باردة أو لأن قلبي لم يكن دافئاً وقتها
– نمشي ندير الشاي.
قال عمي في لهجة بالغة في الاحترام والخوف ثم دخل المبنى المكعب مصحوباً بالأمتعة، أما عن جدي فمضى يجلس على كرسيه الهزاز في السقيفة، أتذكر الآن كامل تفاصيله، كان الكرسي مصنوعاً من البامبو المضغوط مع بعضه بعناية، يبدو كعرش ملكٍ قديم، بعض الحبال التي تضغط الألواح مع بعضها كانت نافرة مما يوحي أن الكرسي عتيقٌ بعض الشيء، كنت واقفاً لا أدري ما أصنع، حدجني بنظرة باردة ثم قال
– في الدار اللي غادي. وأشار بيده المنحوتة إلى غرفة وحيدة.
تخوفت في البداية من التقدم نحوها، كنتُ أحس بأن شيءٍ ما تخبئه لي تلك الغرفة لا أريد أن أعرفه، تشرنقت بدايةً، لكن غريزة الفضول التي دائماً ما تقمصتني دفعتني إلى الأمام، كانت أجواء الغرفة مليئة بالغبار ورائحة الحبوب والعطَن، رائحة روث الفئِران وفراءها أيضاً امتزج بجوها، الكثير من الفخاخ منصوبة في زوايا المكان، أيضاً رائحة الجُبن العفِنَة المستخدمة في الفخاخ قد أضافت إلى روائح الغرفة شيئاً إضافياً يزيد من نفور النفس منها، وكنتُ أفكر، كيف يمكن لجدي أن لا يطيق دخولها، شباك العناكب في السقف الناتئ الهرِم، أكياس للحبوب والعلف مصطفة بطريقة عبثية، كان هناك كيس من العَلف مثقوباً من أسفله يبدو أنّ قارضاً ما كافح ليثقبه ويفتح المئونة لأبناء قبيلته وللطيور التي تتسلل صباحاً إلى الغرفة، بعيداً في الزمَن، أتذكر بعد أيام من وصولي رؤيتي لجثة طائر حمام يبدو أن جُرذاً ما قد اقتنص فرصة تواجده بالغرفة، كان مقطوع الرأس، الدم في ريشه يذكرك بالطريقة التي يتم تحضير الجان بها، هناك قصص كثيرة للجان في رأسي، لم أكن أعلم كيفية اصطياد الحمام وقتها وما تحبه من طعام إلا بعد ذلك اليوم، حيث ازدادت غريزتي المفترسة. أما عن الكرسي المزعوم، فقد كان كرسياً خشبياً مُغبراً جداً، اختفت معالمه، في البدء حاولت أن أرفعه، لكن دون جدوى، بدا ثقيلاً حتى أنه تعين علي أن أزحزحه، أصدَر صوتاً نافراً على الأذن كالصرير، وبعد أن توسخت ملابسي بالغبار استطعت تحريكه إلى الخارج، في الضوء بدا تحفةً أثرية. على مسنديه خطوط لولبية لا متناهية في الدِقة بنهاية كل خط منها زهرة الياسمين محفورة بعناية، بظهر الكرسي من الأعلى يمتد نوع من القماش المحشو بالإسفنج لراحة الرأس، النقوش المرسومة على القماش تمثل أنواعاً من الأزهار، البهاء الذي يعتريه، كانت إحدى الأرجل الأربعة قد مالت حتى قاربت التكسر لكنها تحاول أن تحافظ على توازنها، كأنها ترى أن بهاء الكرسي كله متوقف على تكسرها من عدمه. لما رآني جدي، اشتاط غيظاً وتغيرت ملامحه الباردة، وجهه الطيني بدا أحمراً فجأة، نهض بخطوات سريعة نحوي، ثم سخط في وجهي قائلاً:
– مش هو يا غبي!
راجعتُ صورتي التي وضعتها عنه، بدا أنه لم يكن بارداً، كان به بعض من المشاعر تختبئ خلف عينيه، بعض من الحرارة وبعض من الحنين ربما، كنت طفلاً لا أتذكر ذلك الكم من التفاصيل فيما يخص المشاعر، كل ما يحضر وجه جدي أمامي كان وجهاً بارداً، صلداً، ولا يخبرك بأي شيء وكان ذلك الموقف وحده هو الذي يجعلك تؤمن أنه يحتفظ بشيء ما داخله، جاء عمي من الخارج، كان يحمل صينية، إبريق شاي أزرق اللون بجسد الإبريق كان رسم لمجموعة من الورود الحمراء والبيضاء يجاهد للبقاء ضد الاستعمال المتكرر، في فم الإبريق دائرة بيضاء مغلقة بثلاث كؤوس صغيرة في كل كأس أخاديد طولية مسافة إنش في الأسفل وأخرى أفقية أقل عمقاً في أعلى الكؤوس، كانت الصينية مليئة بتلك الحلوى والنشويات التي قال لي عمي أن جدي يحبها، لابد أن رجلاً في عمره لا يأبه للسكري، ربما لم يعرف الناس السكري في ذلك الوقت أو لم يأبهوا كثيراً حياله، كان ذلك في العام الذي دكت فيه دبابات صدام حسين مدن الكويت ووجود شيء كهذه النشويات والحلوى والبسكويت في حضرة رجل عجوز يعد ترفاً، كانت البلاد وقتها يغازل وجودها القحط والحرمان وقلة جودة الحياة وأن تبذر دنانيرك في أشياء كالسكريات المباعة خارج الجمعيات الاشتراكية يعد ترفاً.
– ما شاء الله مولية الحوازة. كنا نرشف الشاي بصمت عندما ألقى عمي حجراً في الصمت.
ظل جدي يرتشف الشاي دون إبداء أي رأي اتجاه ما يقوله عمي، كنت أتخيل أنه سيقول له شيئاً من مثيل آه لا أيها الغبي، كان كأنه رزق بعدد من الكلمات كل يوم وعليه أن يحسب لكل كلمة يقولها حتى لا ينتهي النهار وقد استهلك كامل كلماته، كان عمي ينظر إليْ حيناً، وإلى الشجيرات والمساحة الخضراء الممتدة هكتاريْن أو ما يقارب، يمسك جدي بقطعة من تلك الموالح ثم يهشمها بأسنانه، ببطء، ثم يرتشف شايه ناظراً إلى إحدى الشجيرات التي كان يعتني بها، حرك قبعته البيضاء أقرب إلى مقدمة رأسه، كنتُ أنا أستمتع بالشاي محاولاً أن أختلس إحدى قطع الحلوى بعيداً عن خجلي، أنظر إلى هدفي بتأني داعياً الله أن لا يضع يد جدي عليه.
– سمعت بعلي ولد الحاج بشير؟ قال عمي.
ومضى يقص على جدي قصة وفاة أحدهم، كان أحد الأقرباء الذين يقطنون في أنحاء المنطقة كان اسمه علي، ابن الحاج بشير ابن عم جدي، قال له أنهم وجدوا جثته معلقة بجانب زريبة الأغنام.
– مسكين الحاج بشير، ثانيله ولد يموتله نفس الموتة، لم يكن على طبيعته منذ أن شاهد أخاه معلقاً بجذع شجرة السرو تلك التي تظلل الزريبة، راعي غنم في صبراتة يموت هكذا يفصل بينه وبين الأرض قدميْن، حبل سميك من الفلين، كان المشهد يطارده طيلة حياته حدثني عن صورة أخيه التي تأتيه في المنام، عينان حمراوان مشبعتان بالموت، وجه إسود بعد جفاف الدم داخله، ثوبه المليء بروث الأغنام، رائحة الزريبة التي كانت خليطا من صوف الحيوانات المسكينة ورائحة الجثة، ذكر لي كل شيء، أخوه ينظر للأغنام، فاغراً فيه، يداه الخشنتان كانتا جريحتين ربما من مقاومتها للحظات الأولى للموت وقنينة بلاستيكية بها بقايا شراب البوخة، كان يذكر وقوفه وارتعاده بقيَ هنالك يسمع ثغاء الشياه والتصاقها في إحدى زوايا الزريبة تنظر إليه جائعة وجسد أخيه معلقاً، سطل مياه معلقاً في السماء قال لي ثم ضحك، تعرف ذلك اللغز صحيح؟ – كان ينظر إليْ- الإجابة هي العنب يا وائل، العنب وعلي. أردف ضاحكاً ثم احتسى ما تبقى في كأسه.
كان جدي غير آبه، يستمع للقصة ويسكب الشاي ثم ينهيه، حدثني عمي تلك الليلة لما قضاها معنا عن الذي جعل حمّودة – كانوا يلقبونه حمّودة نظراً لبشاشته- أخ علي الأكبر ينتحر في الزريبة، قال لي بأن الحاج بشير لم يكن ذلك الرجل الذي يعدل بين أبنائه، كان حمّودة هو راعي الغنم الذي يشرف على مأكلها ومشربها، تنظيفها وجز صوفها في موسم الصيف، بيعها في السوق، كل شيء… يقضي نهاره صحبتها، وفي الليل يجلس في دار قرب الزريبة يحتسي البوخة صحبة علي أحياناً ثم يعود للبيت حيث زوجته العاقر سكران، كان الجميع يعرفون عن حالات سكره، كان يفقد عقله تماماً، لا يسكر إلا ليصل لتلك المرحلة حيث ينعدم الخيط بين الجنون والعقل ثم لك أن تتخيل ما يفعله، عرفت عندما كبرت بعض القصص عن حمّودة، قيل لي أن علي لما انتهى من أعماله اليومية وأراد أن يرفه عن نفسه صحبة أخيه ضبطه ذات ليلة يعاشر نعجةً في الزريبة، كانت النعجة مشهورة في القرية ببطنها الولّادة..نعجة تلد لك توأمين في كل بطن تعد ثروةً يصعب التفريط فيها، عندما شاهد علي أخاه مرخي سرواله الأبيض ورافعاً ثوبه إلى أعلى ممسكاً بقوة يديه صوف النعجة التي كانت تثغو بقوة صحبة بقية الشياه صرخ في أخيه:
– شن ادير يا مهبول؟
– النعجة اللي في الحوش ما تجيبش. رد حمّودة.
لم يتمالك علي ضحكه، أسرع ناحية أخيه ولكمه في وجهه مخلياً سراح النعجة المسكينة، كان حمّودة مرمياً على الأرض يبكي ويصيح ” النعجة اللي في الحوش ما تجيبش…والحاج بشير ما يحبش النعاج اللي من غير فايدة” كانت عورته ملطخاً ببقايا النعجة، ستر عورة أخيه ثم حمله حتى الدار لينام، تلك الليلة ظل علي ساهراً بصحبته الكأس ناظراً إلى أخيه النائم بشفقة، كان علي صاحب طفليْن ذكريْن رغم أنه تزوج مع علي في ذات الليلة، زوجة علي لم تنجب له أطفالاً رغم محاولاته اليائسة طيلة السنين الخمس التي مضت على زواجه بها، ما أجج رغبته في الانتحار هي تلك التعليقات السخيفة من الحاج بشير التي لم يعتدها، كان الحاج صاحب لسان لاذع لا يمكن إلا لمن ألفه أن يتحمل تعليقاته، كان يقول لابنه حمودة” آخر مرة شفته عندك كان عمرك عامين، بالك خدوه منك الصلّاح؟” سألت عمي عن هذا الذي عند حمّودة ومن هم الصلّاح الذين أخذوه، قال:
– أما اللي عند حمّودة تو تكبر تعرفه، أما الصلّاح يا وائل هما جيرانا الجن والموتى… ارقد، وكان سمعت واحد منهم يقرب منك نوشني باش نلزه ها ها ها.
تلك الليلة، سهرت وعمي يحكي لي قصصاً عن الذين وصفهم بأسيادنا الصلّاح، لم استطع النوم، لم استطع حتى أن أغلق عيني…كنت يقظاً، خائفاً ومتربصاً لأيةِ حركة أو صوت في المكان.
(2)
اليوم التالي، كان جدِي يزرع شجرةً ما، كانت يداه إحداهما تمسك بعنق النبتة كأنها تشد خناقها، قبضته محكمة على منتصف النبتة، الفروع الصغيرة والقليلة والوريقات الخضراء كانت تلامس ساعده مبللة إياه بما تبقى من الندى، كنتُ أراقبه من كرسيي والملل يكاد يقتلني، عمي غادر الصباح الباكر، استيقظت بعد ساعتين من النوم عندما إطمئننتُ أن شمس النهار قد اعتلت الأفق، كانت ليلة بائسة دون نوم مليئة بالتفكير والهلوسات والتخيلات، جالساً لم يكن في عقلي أن أفعل شيء سوى أن أحدق في جدي يعمل طريقه نحو الصباح، كان غير مبالياً بوجودي أو حتى بتحديقي ناحيته، تناولت وجبة الإفطار التي أعدها لي ساكتاً، استيقظ هو مع آذان الفجر، كنت أسمعه يتحرك في أنحاء المنزل ببطء مع صوت المؤذن الذي كان منخفضاً جداً وكأنه ينبع من أرض أخرى، أمسك النبتة وأدخلها ببطء في الحفرة التي حفرها لها، كانت التربة لازالت ندية، لونها البرتقالي المبلل متكدساً على الأعشاب الخضراء أضاف نكهة للمشهد، شدني صوت محرك سيارة يتوقف.
كان الصوت قريب، كان يمكنني أن أسمع صوت فتح أبواب السيارة ثم إغلاقها بقوة من خلف السور حيث كان المنزل مبنياً على الطريق الترابية التي تفصل المزرعة عن المقبرة المقابلة، سمعتُ صياح بلغة لم أفهمها، ربما كانت إيطالية، اللحن الذي سمعته كان شيئاً قريباً للإيطالية، كلمة واحدة كان الصوت يرددها إلى أن حفظتها ” اسبيزيوني” ثم صوت بندقية يغطي الأفق، هرعتُ واقفاً، تركت صحن البيض أمامي، كنتُ أنظر إلى جدي، كان لايزال يزرع شجرته، وضعها بمكانها وأغدق عليها بعض التراب الذي ظل يربت عليه بعد ذلك، كان غير مبالٍ بما يجري، سمع صوت كرسيي يتحرك، إلتفت إليْ ثم نادى عليْ:
– جيب الشجرة. وأشار بإصبعه إلى شجيرة صغيرة شبيهةً بالأولى أمام المخزن.
اختفى الصوت، كان أضغاث أحلام… كنتُ لا أزال أفكر فيما حدث، وأين ذهبت الضجة التي بالخارج، أسرعت حاملاً الشجيرة إلى جدي، أخذها عني وقال:
– هذا صنوبر، لما توصل لعمري حيكون طولها هكي. ثم أشار إلى شجرة في حدود المزرعة كان طولها فارعاً.
كنتُ أنتظر منه رد فعل حيال الأصوات التي سمعتها والتي لابد أنه سمعها، قلتُ في نفسي…ربما كبر السن قد خان أذنيه، أمسكها بعناية، مزق الحوض البلاستيكي الذي كانت مزروعةً داخله، نظف ترابها من الشوائب العالقة، ثم غرسها في حفرة قد أعدها مسبقاً تبعد ثلاثة أقدام عن الأولى.
ذلك النهار كان مللاً لا يطاق، حاولتُ أن أرفه عن نفسي باكتشاف المزرعة، لم تفي مساحتها الشاسعة وكل ما فيها وفضولي لاكتشافها لملء النهار، أمضيت الساعات التالية للحدث أكتشف المساحة التي أمامي، التراب اختلط بقدميْ، جلست منهمكاً تحت الأشجار، نقشت الشمس في رأسي بعض من أشعتها، المساحة الخضراء تبلل بالندى حذائي، كان مشبعاً برائحة التراب والعشب والندى، في الأفق كان الحمام يحلق ثم ينخفض ببطء، ببطء يحرك جناحيه كأنه يحاول أن يوقف الهواء عن إعادته للأعلى حتى تنزل بحقل قمح حُصِد مؤخراً، أسرعت إليها، راقبتها راقداً على بطني حتى لا تهلع وتهرب، كانت تدور في الحقل المليء بسيقان القمح المقطوعة، وبعض البقايا من الحبوب التي هربت من مقص الجاني، فكرتُ ماذا لو جعلت كل هذه الحمامات في حوزتي، أن أضعها داخل قفص يسعها، سيكون جميلاً الاعتناء بها، وصلت إلى الحدود بين مزرعة جدي ومزرعة الحاج بشير كانت الحدود مفصولة بأشجار الصنوبر في طابور واحد وسور من الأسلاك المتهكتة يتحرك بطريقة لولبية بين الأشجار وكأن جدي والحاج بشير تصلاحا على رسم الحدود بنوع من المحاصصة، يمكنني أن أتخيل جدي بوجهه الخالي من الملامح ووجه الحاج بشير المتهكم يوافقان على رسمها شجرةً بشجرة.
وأنا أجري كنت أحرث الأرض بأقدامي تعثرت بقطعة خشبية، سقطت على الأرض، كدت أمزق ساقي بارتطامي بسلك كان ملفوفاً عليها، مزق السلك سروالي…صنع فجوة بطول إصبع فيه وخدش قليلاً من ساقي، كان بعض الدم قد لون الفتحة بالأحمر القاني، أمسكت ألمي ونظرت إلى الخشب بحقد، أمسكتها، لففت السلك حولها ثم رميتها، يقطن المزرعة مجموعة من الكلاب البرية، سمعتُ نباحها عندما رميت الخشبة، كانت الكلاب تتبعني حيث أذهب وكنت أخاف القرب منها تبعد عني مقدار أقدامٍ قليلة… أسرعت إلى الخشبة من جديد ورميتها، نبحت الكلاب من جديد، راق لي الأمر، كانت مجموعة جالسة تراقبني، أحدها واضعاً قدميه الخلفيتين بحيث تلمس ساقاه الأرض واقفاً بالأماميتين، ظللت أرمي الخشبة والكلاب تنبح… في الأيام التالية، ستتعود الكلاب على هذا المنظر، وتذهب حيث أرمي الخشبة، كان شعور بقدرتي على كائن في المزرعة يطغو على الملل الذي كاد يقتلني، أرمي الخشبة…تنبح الكلاب، ثم تجري حيث أرميها، أسرع نحوها، أمسكها ثم أرميها من جديد. كان ذلك أول نشاط أرفه به عن نفسي في خضم الملل واليأس.
كانوا ثلاثة إخوة، محمد وعلي وحمّودة، كان حمّودة أكبر الإخوة ممتلئاً بعبء العائلة الكبيرة والأرض الشاسعة لوالده الحاج بشير، علي يلي حمّودة في ترتيب الأبناء لكنه كان الفتى الذي حُظيَ بفرصة للتعليم المناسب، حمّودة لم تناسبه المدرسة، تركها في الثامنة والتحق بوالده في إدارة الأرض، تربية المواشي، زراعة المحاصيل، الاعتناء بالأشجار والعائلة ومجاري المياه، كان حمّودة يعاني في آخر أيامه من عقدة نقص ولدتها داخله تعليقات والده وافتخاره بأبناء أخيه وبأخيه المتعلم، كان الحاج نفسه يريد من أبنائه أن يصيروا كأبي وعمي. لكن حمّودة وعقله لم يتوافقا أبداً مع العلم، علمه الوحيد الذي وجده كان تحضير أفضل شراب بوخة بالقرية، الرجل الذي قتله علمه…هكذا سماه عمي بعد أن ذكرت له اسمه بعد سنوات.
ومضت الأيام، لم يكن في يدي فعله سوى القليل، مع جدي الذي لم يكن ذلك الرجل الاجتماعي، يوزع حياته بين النباتات وغرفته التي لا أدخلها إلا عندما أحتاج لشيءٍ ما، أجده عاكفاً على كتاب أو نائماً، كانت بالغرفة خزانة مليئة بالكتب، لازلت أذكر الخزانة ليس لشيء ما يخص الكتب، فأنا لم أقرأ من تلك الكتب حرفاً، لم أكن مهتماً بالأمر لأن والدي كان يملك واحدة مثيلتها بالمنزل، لم تكن الكتب شيء يثير حيرتي أو لهفتي لاكتشافه، ما كان يهمني هي الخزانات الصغيرة التي كانت أسفل رفوف الكتب، كنزي كان هناك، الحلوى والشكولاتة.
كنت أفعل تقريباً الأشياء نفسها كل يوم، ألعب مع الكلاب قليلاً، أختبئ في حقل القمح مراقباً الحمامات، أصعد إلى خزان المياه لأتمكن من رؤية القرية بوضوح، الجبانة عبارة عن حيوان مرقط بالعشب والقبور البيض، أتفرج على مزرعة الحاج بشير، يمكنني أن أتبين في الأفق زريبة الأغنام خالية على عروشها، الزريبة التي مات فيها الأخوان، الطريق الذي يفصل بين الجبانة ومزرعتنا حيث السيارات اللامرئية، أشاهد الجبانة بتمعن، استجمع ذاكرتي الصوتية في الليالي الثلاثة السابقة، صرير الريح، تخبط النوافذ، أشياء تتكسر، ومشهد السيارة اليومي كل صباح عند العاشرة تماماً بذات التفاصيل، محرك سيارة، قرقعة أبواب ثم أحدهم يصيح ” اسبيزيوني “، ربما أحدهم يقوم بتفتيش الموتى، والبحث عن حي بينهم…ربما.
في اليوم الرابع، خطرت ببالي فكرة، لما أراقب الحمامات بينما أستطيع اصطيادها؟ صنعتُ مصيدةً، كانت بقايا سدة سرير مهترئ أخذ مني جهداً ووقتاً، وضعته في مكان مناسب، جمعت العديد من حبوب القمح على الأرض ووضعتها تحت السدة المعدنية؛ وزعت القليل منها بجانب السدة لجذب الحمامات أكثر وجلست أنتظر دخول طرائدي في الفخ وبعد ساعات من الانتظار والملل وخسران الأمل في إمكانية أن تخدع إحدى الحمامات وجدت طريدتي، كانت حمامة بيضاء، نزلت صحبة أخرى مثيلتها لكنها تكبرها حجماً، اقتربت الحمامة بجانب السدة، ببطء وبخوف، كنت أمسك بحبل لففته على قطعة خشب جعلت السرير يصنع زاوية حادة مع الأرض، دخلت الحمامة إلى السدة ولكنها كانت في الزاوية، لم أكن أريد أن أخاطر بفقدانها أو تكسير أي شيء فيها، انتظرتها حتى دخلت وسط الفخ وسحبت الحبل، استعصى الأمر أول مرة، فزعت الحمامة الصغيرة، ولكن قبل أن تفرد جناحيها، نجحت في اصطيادها، أولى طرائدي…. أمسكت بها، سمعتُ صوتاً ينادي:
– هيه…شن بيدير ولد زيك بالحمام؟. نادى الصوت.
(3)
كان راعي الغنم هذا، صاحب هيئة بارودية ببدلته الليبية الزرقاء وابتسامة الشاي في أسنانه، أنف مدقق وعينان صغيرتيْن، شعره الكيرلي يحاول أن يخفيه بجذبه للخلف، على شاربه شنب أسود كثيف قليلاً، دقن كمدق، لفحة خفيفة من الشمس لم تستطع إخفاء بياضه سوى القليل، يد تمسك العصا والأخرى قابضة بإصبعيْن على سيجارة، شدتني جروح على أصابعه كأنه كان مكبلاً من أطراف أصابعه، رقبته كانت حمراء، خيط أحمر يصنع جروحاً داخل الرقبة، كذلك فهو شبيه النمس، نمس وسيم يخرج من بين أشجار الصنوبر، خفت لوهلة.
ناداني الراعي ذلك اليوم، كان يهش الغنم مبتسماً، قد جهز جلسة لنفسه يوقد بها ناراً يحضر على النار شاياً بينما الغنم يأكل من حشيش الأرض، قال لي وهو ينظر للحمامة بين يدي:
– شن بدير بها؟
– بنربيها.
– هاهاهاها، ربيها يلعن بوها تخنب من رزق الناس. أنا احمد، قريبكم والشواهي هما ليا. شن حال جدك؟
– كويس. تذكرت جدي، يبدو غير مكترث كثيراً بوجودي معه.
صب لي كوب شاي ثم مضى يحكي كلاماً كثيراً، كان يقول ” اسمع يا فتى، هل تدرس؟ يجب أن تكون جيداً في الدراسة وإلا سينتهي بك الأمر بأن ترعى أغنام جدك، ليس هناك أفضل من العلم، تستطيع أن تكتب صحيح؟ جيد، مثلي لا أستطيع الكتابة، حتى اسمي أواجه صعوبة في كتابته، مادمت تستطيع الكتابة، هذا يعني أنك ستنجح، انظر إلى هذه الأغنام، إنها لا تستطيع الكتابة ولا الكلام لهذا تراها ترعى الأرض وتأكل من ما أطعمها إياه، لهذا لا تراها في السوق تشتري وتبيع صحيح؟ أم أنني مخطئ وقد رأيت نعجة كخدوجة تلك – وأشار إلى نعجة كبيرة نسبياً من هيئتها التي تفوق النعاج الأخرى- تدور في الحارات تشتري الخضار؟” كان احمد، كثير الكلام…لا يتوقف أبداً عن الحديث عن أهمية العلم، أخذ عني الحمامة وأجلسني على حجر أشاهد الأغنام واستمعُ إليه ثم كسر رأسها، نظرت إلى جسدها الذي كان يخض، صوت تكسر الرقبة أدهشني، والحيوان الذي كان يتنفس بسرعة الآن ملقي أمامي ميتاً، قال لي ” دعك من الحمامات، الحمام لأمثالي، أذبحها وأشويها…أنت خذ الكتاب واقرأه، خصوصاً تلك الكتب المتعلقة بالحروف والكلمات”، أمسك يدي ثم أضاف ” كان مست العصا- كنت أحدق في أصابعه متلاصقة، الجروح تبدو كخيط واحد عندما يلصقها- احرقها. لكن صحبة الأغنام خير من بشر كثيرين، خدّوجة على الأقل أفضل من الكثير من النساء، هي ولّادة وتدر الرزق والربح كل عام، أتعرف بكم أراد أحدهم أن يشتريها مني؟ ألفي دينار! مبلغ كهذا يعد صفقة رابحة عندما يتعلق الأمر ببيع نعجة، ولكنني أبيت، أعرف أن قيمتها ليست مالية، خدّوجة تلك – وأشار إلى النعجة الكبيرة مجدداً، كان رأسها الأسود يتضح فيه تقدم العمر عن باقي النعاج، يغطيها صوف كثيف ملتصقة به بقايا روث وقش، بأعلى الصوف بقعة سوداء وحيدة صغيرة- قيمتها ليست مادية. ثم إنك عندما تسوق الأغنام يجب عليك أن تعرف أنه يجب عليك أن تسايسها، أما نحن فإن سايسته تبرز في فمك، وإن ضربته تمرد عليك… لا تعرف كيف تتعامل معهم”.
كانت الشمس تدور على غفلةٍ مني، انحدارها إلى الجنوب قليلاً كان يدل على أن الوقت قارب القيلولة، وأنني أمضيت وقتاً كثيراً أستمع لقصص الراعي احمد، نهضت واعتذرت منه…أخبرته أن جدي ينتظرني وعلي أن أعود إليه في أقرب وقت، في طريقي إلى العودة كنت أعيد بعضاً من كلماته شاعراً بالسعادة لتمكنني أخيراً من الحديث مع أحدهم بعد أربعة أيام من الصمت والكلمات البسيطة مع جدي، كانت بعض الحكايات التي قصها عليْ لازالت تتكرر في عقلي، قصّ علي حديث الأرض التي نقطنها، قال لي أن الجبّانة المقابلة لمزرعة جدي مليئة بالليبيين والطليان، شهدت معركة بسيطة بين الأهالي والطليان لم تزد عن ساعات قليلة، لكن ما يجعلها مميزة أنها شهدت بعد ذلك بأيام الكثير من محاولات اغتيال الحامية الإيطالية لجمعية استكشاف أثار صبراتة المدفونة، قال لي : في الليل، لازال بإمكانك أن تسمع صوت البنادق تطلق والخيول الليبية تزهق والدبابات الإيطالية تكسر الأشجار، كما أنه بإمكانك إذا ركزت أن تسمع صليل سيوف وأناس يرطنون بلغات لا يمكنك فهمها، قال لي أنه وجد شيئاً ما كتمثال مقطوع الرأس في أحد المراعي المجاورة ” أنت تعرف، زي هذيكا الآثار عالبحر”، صدقت كلامه وحاولت بعد ذلك بأيام أن أحفر في مناطق مختلفة من مزرعة جدي بحثاً عن تمثال ما برأس أو بدونه، يمكنك – كما أخبرني احمد- إذا حالفك الحظ أن تجد لك تمثالاً ما أو أي شيء يشابه تلك الآثار المصطفة على ساحل صبراتة والتي تبعد عنا مسافة ميليْن، أخذني إيماني بقدرتي على اكتشاف أثر بعيداً حتى أنني حاولت في وضح النهار أن أكتشف الجبّانة المقابلة دون فائدة.
عدتُ إلى جدي، وجدته جالساً يتناول طعام الغذاء، جلست حيث وضع صحني مقابله…حدق في وجهي نظرة لا مبالية وقال لي:
– شن كنت ادير من الصبح؟
– نصطاد في الحمام. أجبته
– وين؟
أشرتُ بيدي إلى الحقل، نظر حيث أشرت ثم أعاد نظره إلى طعامه، ثم قال بنبرة آمرة:
– معاش تمشي غادي!
(4)
لم آبه كثيراً لكلامه، ظللت أصطاد الحمامات، بل اخترعت طريقةً أخرى لاصطيادها، كنت أتسلل ببطء إليها، كان الحمام يعد بالعشرات، أمسك إحداها بكلتي يدي…كان الأمر صعباً في البدء، تطير الحمامات كلها دون أن أتحصل على واحدة، أقترب من إمساك إحداها من ريش جناحيها فتفلح في الطيران، أفضل وسيلة هي أن أقفز عليها بجسمي كله أو أرميها بالخشبة التي كادت تمزق ساقي، نجحت هاتين الطريقتين معي كثيراً، كنتُ أصارع طغيان المكان باختراع وسائل ترفيه، أسرع إلى الراعي احمد طالباً منه أن يذبح لي الحمامة، كان يضحك ويقول دائماً” الحمام مش ليك، جيبه ليا نذبحه وناكله”، ولكنني كنت أستمتع بمشهد ذبحه لها، أحدق في الحمامة، يداه ممسكتان جيداً بها، الطائر المسكين يتنفس بسرعة، يحاول الفرار بقدميه الضعيفتين، لكنه محاصر… يكسر رقبتها، فأندهش للصوت الذي يصنعه موتها. يلقيها إليْ، فأنزع عنها ريشها. قال لي ذلك اليوم:
– مش كان تكتب خيرلك من ذبح وترييش الحمام؟!
– كيف؟
– قلم وورقة.
– أصلاً مليت من هني…نبي نروح، وعمي عطل عليا.
– راجي، جرب خوذ الفحمة هي…اكتب عالأرض!
في المنزل، كنت أخربش على الأرضية بقطعة الفحم خاصتي، مقرفصاً وأخربش، كان جدي في تلك الأثناء يلقي ببقايا الطعام للكلاب، جاء ونظر إليْ أكتب في الأرض، كان سريع الغضب…لذا بالإمكان تخيل منظره وهو يراني أكتب كلاماً غير مفهوم، نظر إلى حروفي ثم قال:
– هكي يكتبوا الناس؟!
– ……..
لم أجبه، كنت دائماً أخاف من أن أجيبه، لا أجد الكلمات المناسبة لألقيها في حضرته، وكانت كلماته كاللغز أو السر الذي يتعين عليْ حلها، أمسك عني قطعة الفحم ثم راح يكتب بخط لم أجد له مثيلاً، ظل يشرح أشياء لم أفقهها، قال لي الخطوط أنواع، خط الدجاج خاصتي وخطوط أخرى راح يسميها ويرسم الفرق بينها، كنت أنتظر منه أن يعيد لي قطعة الفحم خاصتي، جدي كان خطاط، تعلم الخط والكتابة في مدارس الدولة العثمانية أو ما تبقى منها قبل أن تدخل إيطاليا الأرض الليبية، كان يحاول أن يعلمني قليلاً من ما عنده وأنا كنت لا أحول نظري عن قطعة الفحم الخاصة بي. حاولت أن آخذها بعد أن ألقى بها على الأرض، حاولت أن أرسم ما رسمه من حروف، كنت أعتقد أن الأمر سهل وأنه يتبجح عليْ بقدرة لا تميزه عني لكنني لم أفلح، غضب وصاح في وجهي… وقال لي ” أنت غبي، لن تتعلم أبداً!” وجلس في كرسيه الهزاز. ذلك المشهد لن أنساه، كلمة غبي يصيح بها في وجهي هزت كياني، كنت أبكي كالرضيع، أمشي في الأرض دون سبيل، أبكي وأصرخ ” نبي عمي…نبي أمي”، كان جدي يسمع صياحي ولا يحول نظره عن الكلاب التي تجمعت لتأكل. ذهبت إلى الراعي احمد، جلست بجانبه أبكي، كان يحاول أن يتخلص من الموقف بأسهل طريقة قال لي:
– كلمته عمك، قالي جايه اليومين الجايات. خلاص معاش تبكي، البكي لخدوجة. شوفها كيف تبكي لكن أنت راجل.
في الليل، كان المكان ينقلب إلى حفل من الأصوات المرعبة، كنت أنام في غرفتي وحيداً استمع لصوت سقوط برميل ما، أوراق الشجر تصفعها الرياح، كلاب الجبّانة تنبح فترد عليها المجموعة التي أصبحت قائداً لها، نافذة إحدى الغرف تتحرك وتصطدم بالحائط مصدرة قرقعة قوية، أصوات أخرى لم أتمكن من تبينها تتراوح من العالية إلى المنخفضة، كنتُ دائماً ما أواجه صعوبة في النوم، أفحص سقف الغرفة بعيني، أحرك رأسي ناحية أي خيال تصنعه لي عينايْ، كنت لا أنام مرتاحاً أبداً، يأخذني النوم إلى أحلامي متى ما أراد هو، استيقظ النهار التالي ولا أدرِ كم لبثت مستيقظاً حتى تغلب على حفلتي النوم، أجلس متناولاً إفطاري لوحدي، ألاحق جدي ونشاطته اليومية الروتينية، يسقي شجرة ما، يقلم أخرى، يصنع لنفسه شاياً ويجلس على كرسيه الهزاز أمام البيت يقرأ كتاباً ما، يخرج قليلاً للسوق صحبة أحد الرجال تاركاً إياي والمزرعة كلها لي أفعل فيها ما أشاء. في أحد الأيام، كان غائباً…استيقظت ولم أجده، راودتني نفسي على أن أدخل غرفته، كانت أول مرة أدخل فيها تلك الغرفة وهو ليس فيها، كنتُ أبحث عن شيء ما، استكشفتُ الغرفة بهدوء محولاً نظري من زاوية إلى أخرى، مجموعة من الكتب مرميةً على سرير جدي، مذكرات وأقلام وبراميل بها حبوب زراعية كان لا يطمئن إلا إذا باتت بجانبه، آلات قديمة، صندوق خشبي يخرج منه سلك معدني، كان راديو ربما، أقراص سوداء قطرها يزيد عن عشر إنشات، مصطفة بجانب آلة أخرى كانت عبارة عن صندوق نصفه خشبي ونصفه زجاجي، كان النصف الزجاجي يحوي اصطوانة كتلك السوداء مثبتة بقطعة معدنية في نهايتها ما يشبه الإبرة، كان يستخدمها جدي للاستماع لموسيقى أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وبعض الفنانين الليبيين، أحياناً كنتُ أسمع الموسيقى تتردد في المساء من غرفة جدي وأنا مستلقٍ في غرفتي أعد الساعات، وجدت مجموعة من الأقلام، أخذتُ أحدها، سمعت صوت قرقعة الباب فخرجت من الغرفة مسرعاً وكانت المفاجأة عندما انتفضت ذعراً من رؤيتي لجثة جدي تحدق في بغضب، كنت أرتعش، حسبته في البدء شبحاً ما يحاول إخافتي، لكن خوفي ازداد لما تبينت جدي واقفاً أمامي لا ينبس ببنت شفه إلى أن تلاقت عينانا، صاح في قائلاً:
– معاش تخش هني!!
– ……… كنت نبيك…نبيك، تعطيني قلم. وأريته القلم الذي أخذته.
– ماشي، خوذه…لكن معاش تخش!
” جدك رجل عنيد، لا يحب الحديث كثيراً لكنه رجل طيب ويحبك بالتأكيد ولو أنه لا يحبك لما استضافك عنده لقضاء بعض الوقت من العطلة معه” كنت أكرر كلام الراعي احمد في رأسي، لعلي أجد تبريراً لتصرفات الرجل العجوز الوقائية، كنت أظن نفسي عبئاً عليه تحمله حتى يعود والدي وأمي من رحلتهما إلى بلاد الله، شدني وأنا خارج من المنزل صوت توقف محرك السيارة مجدداً، خرجت مسرعاً إلى الطريق لأتبين ما يحدث، كانت الطريق خالية، لم يكن هنالك أي شيء يدل على تواجد سيارة ما. قررت عندها أن أذهب لقضاء ما تبقى من النهار صحبة الراعي احمد، مسرعاً ركضت لأوريه القلم الذي أخبرني في آخر لقاء أنه عليْ أن أكتب به، ” شوف جدك، أكيدة عنده قلم وورقة…تو يعطيك باش تكتب “، لم أتمكن من إيجاد أية أوراق، لم يسعفني الوقت ولا وجودي بغرفة جدي غير المبرر بأن أبحث عن ورق، قال لي علي لما رأى وجهي: اليوم سأعلمك كيف ترعى الأغنام، الرسول كان يرعى الأغنام…لذا عليك أيضاً أن ترعاها أسوةً به. وكنت أتخيل الرسول مثلي، يهش غنمه إلى حيث العشب الأخضر، يراقب أماكن وجودها، يعدها، أو يشاهد حملاً يرضع من ثدي أمه. أريتُ احمد القلم، ابتسم ثم قال:
– وين الورقة؟
– ماحصلتش.
– آه هذي مشكلة. قلّب ناظريه في المكان ثم قال:
– آه…خوذ هذا!
– شن هذا؟!
– كاغط..اكتب عليه.
(5)
مع إلحاح احمد، جلستُ في غرفتي أكتب على ظهر الورقة الكرتونية بعد أن نظفتها من التراب العالق بها، جعلت يدي تمر بسهولة لأكتب ما أفكر به، كتبت ” أنا أحب جدي، ولكن لا أعرف لما يتجاهلني…ربما لديه الكثير من المشاغل لا تمكنه من قضاء الوقت معي، كما أحب الراعي احمد وأغنامه وخصوصاً خدّوجة لأنها كما يقول احمد لا تقدر بثمن”، أسرعت إلى جدي، كان جالساً بغرفته، أمسكت القطعة الكرتونية وطرقت على بابه، خرج يرتدي ثياب النوم خاصته، نظر إلى الورقة البنية التي أحملها، رفعتها إلى مستوى رأسي بكلتيْ يدي ثم قلت له:
– شوف شن كتبت.
– شن؟! لوح الوسخ هذا برا الحوش. ثم أغلق بابه.
بكيت ساعتها، لم أشعر بكراهية اتجاه جدي كتلك التي شعرت بها، ركضت أبكي إلى احمد، لم أجده، بحثت في زريبة الأغنام عنه، كانت الزريبة خالية على عروشها، بقايا حبل يتدلى من شجرة تتوسطها، أحواض المياه والطعام كانت مليئة بالتراب والأوساخ كأنها هجرت منذ سنين، كانت عصا احمد ملقياً بها بجانب باب الزريبة، لا وجود له، كانت الأغنام تأكل من القش على الزريبة، كنت لا أزال أحمل الكاغط، نظرتُ إلى كلماتي التي كتبتها، لازال الدمع ينهمر من عيني، بللت الكاغط بدموعي، كنت أقرأ كلماتي وشريط من لا مبالاة جدي يمر، قلبته وكتبت ” هذا المكان ممل، جدي ممل، والراعي احمد”. ثم رميت به في الزريبة، جاءت في بالي فكرة: دع خدّوجة تقرأه، لعلها تفهم ما كتب وتذهب للسوق.
…………………
*قاص من ليبيا