أحاديث البحث عن العرب.. قراءة في مجموعة “أحاديث مسائية” للكاتب عبد العزيز الصقعبي

أحاديث مسائية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العبادي

ظلت أزمة الهوية واغتراب الإنسان وسط بيئته ومجتمعه هي الهاجس الأكبر في فكر المثقف العربي المعاصر، وربما لا نبالغ إن استخدمنا نظرة أكثر شمولا وقلنا إنها هاجس الإنسان العربي، فالعربي في عصرنا هذا ممزق بين ماضٍ عميق الجذور بُنيت عليه هويته الثقافية والحضارية المتفردة، وبين واقع غريب وسطحي قادم من ثقافة غريبة تسعى بكل قوتها لاجتثاث جذوره “العربية” لتحوله لنسخة مشوهة ومكررة من المواطن “العالمي” المدجن عديم الماضي منقطع الجذور. المحصلة أن العربي يعيش حياته كلها في صراع يومي بين واقعه وأصله، بين يومه وتاريخه، بين الغترة والعقال وقبعة “الكاوبوي”.

لهذا فرغم صدور مجموعة قصص “أحاديث مسائية” للكاتب السعودي عبد العزيز الصقعبي منذ 15 عاما وعودة تاريخ كتابة بعض نصوصها إلى بداية الثمانينات إلا أن الرؤية المطروحة بين صفحاتها لازالت تحتفظ بجدتها في عصرنا الحالي: عصر التواصل الالكتروني والتباعد الإنساني، عصر ارتفعت فيه أسوار العزلة بيننا وبين بعضنا، وبين حاضرنا وماضينا.

يستخدم “الصقعبي” نصوصه للتعبير عن أزمة الهوية تلك بشكل ذكي عبر فرض أحداث خارقة للعادة تنعكس على هوية شخصيات نصوصه، ففي نص المجموعة “أحاديث مسائية” يجد الراوي نفسه وقد تحول لنسخة مماثلة تماما لأقرانه الذين جالسهم في المقهى، التماثل هنا ليس فقط على مستوى الشكل لكن في كل تفاصيل الهوية: الملابس والأفكار والسيارة “اليابانية التي اشتراها بالتقسيط” ربما ليحافظ على تشابهه مع أقرانه أصحاب السيارات اليابانية المشابهة، حتى الزوجة!.. صارت كل النساء متشابهات وكل البيوت نسخة مكررة من نفس البيت.

وفي نصه المعنون “أشباه” نجد العديد من التفاصيل التي تحيل لمفهوم تغير الهوية على المستوى الشخصي والعام، فالراوي في النص يشهد حفل تكريم له، لكنه يشعر منذ البداية أن كل مظاهر التكريم والاحتفاء الموجهة له غير مستحقة وانها موجهة لشخص آخر، وفي سرد تفاصيل الحفل نجد دلالات لا تخطئها عين القارئ الحصيف للهويات المختلفة، بين “رجل يرتدي بدلة سوداء وقميصا أبيض وربطة عنق بألوان متعددة” وآخر مثل الراوي يرتدي الغترة والعقال، ثم تظهر شخصية الرسام ليصفه الراوي بالـ”كاوبوي” نظرا لزيه الذي ذكره بأزياء رعاة البقر في الأفلام الأمريكية. رغم أنه بالتأكيد ليس أمريكيا بل هو “من أفضل الفنانين في الوطن العربي”، فقرات الحفل كذلك ارتبطت بالثقافة العربية بامتياز فنجد من بين الحضور امرأة ألقت أبياتا من شعر المتنبي تكريما للراوي، لتحيلنا لتراث شعر المدح في الأدب العربي منذ نشأته الجاهلية، ثم يشدو مغني على العود بتقاسيم من مقام الصبا والحان محمد عبد الوهاب ومحمد عبده، يظل الراوي منفصلا عن هويته، يشكك في احقيته في التكريم، حتى يصل في النهاية إلى يقين أنه شخص آخر غير المعنى بالتكريم!

لم يكتف الصقعبي في طرحه الغرائبي لسؤال الهوية بالتغير الداخلي لوعي شخصياته، بل مد خط الغرابة على استقامته ليغير الجسد أيضا، فنجد في نص “قامة” ص51 الشخصية الرئيسة وقد مُنحت جسدا جديدا بالكامل، ثم تتسع رؤية الكاتب لتشمل ليس فقط هوية الإنسان بل تشمل ايضا هوية المكان الذي يتأثر بأثر الزمن عليه كالإنسان وربما أكثر، يظهر هذا في “عرق بارد” ص39 حيث يدور الحوار عن التشابه بين المرأة والمدينة (الطائف في هذا النص) “وأن مستحضرات التجميل التي حولت امرأة متوسطة الجمال إلى امرأة قبيحة حقا.. هي أشبه بذلك التغيير الذي يصيب المدن”، وفي “قراءة خاصة للتجاعيد في وجهها”ص81 نجد عرضا أكثر تفصيلا لنفس الفكرة حين يتأمل الراوي وجه مدينته: “ووجه مدينتنا العتيقة لم لا تتضح التجاعيد عليها…” وهنا يدافع الراوي عن مدينته بحماس مستندا إلى دلالة المرأة الجميلة، فهو يثق أن “المرأة التي كانت جميلة لا تشيخ”، يربط الكاتب في هذا النص بين المكان والشخص، فيجعل من المرأة العجوز بتجاعيدها انعكاسا لبيئتها الصحراوية ذات الكثبان والنخيل، وكذا انعكاسا للحي الصغير وبيتها الطيني القديم.

هنا تجدر الإشارة إلى أهمية انتماء الكاتب إلى مدينة “الطائف” بالتحديد، وهي المدينة ذات الطبيعة الاجتماعية والثقافية الخاصة، فكانت الطائف الهادئة معتدلة المناخ دوما مركزا للتنوع الاجتماعي بين سكانها ومرفأ ثقافي هام صامد في وجه اختلاف الأهواء السياسية والثقافية عبر الزمن، بالفعل استحقت الطائف العناية الخاصة التي أولاها لها الكاتب في نصوصه، هي المدينة الوحيدة التي ذُكر اسمها في نصوص المجموعة، واصر على تكريمها بوصفها الجميلة مهما مر عليها الزمن وراودتها التجاعيد.

“الأحاديث” هنا ليست مجرد عنوان للمجموعة بل للأحاديث مساحة كبيرة مسيطرة على قصص الكتاب، فعديد منها يعتمد على الحوار بين شخصيتين أو أكثر كمحرك رئيسي للحدث وعتبة لعرض أفكار الشخصيات، بالإضافة إلى النص الذي منح اسمه للمجموعة نجد الحوار – أو لنقل الحديث – مسيطرا في نصوص مثل: عرق بارد، الدهن، حلمك مر كالقهوة، بالإضافة إلى الاعتماد على الحوار بنسب مختلفة في معظم نصوص المجموعة، ورغم أن الرأي التقليدي في نقد القصة يعتبر أن المبالغة في الحوار عيبا، إلا أن الحوار هنا صيغ بوعي واحترافية ليصبغ نصوص المجموعة بصبغة خاصة تعطي لها فرادتها، ويصبح الحوار من أهم نقاط القوة في المجموعة، ويمكننا ربط مفهوم “الأحاديث” بأهميته الكبيرة في التراث العربي الديني والأدبي، من الأحاديث النبوية إلى أحاديث ألف ليلة وليلة والمقامات وغيرها كثير، لهذا يمكن القول أنه رغم أن القصة القصيرة هي فن غربي النشأة والبناء إلا أن الصقعبي هنا قدم محاولة لإضفاء صبغة عربية خاصة مستوحاه من تراث الحكي العربي والإسلامي.

للكاتب اهتمام خاص باستخدام صياغات مختلفة للسرد في كتابته، يظهر ذلك أيضا في أعماله الأخرى مثل روايته “غفوة ذات ظهيرة” 2018، كما يظهر هنا في استخدامه ثلاث أنماط مختلفة للسرد في نصوص المجموعة، حيث تتنوع القصص بين استخدام الراوي العليم، الراوي المشارك، والراوي المخاطب، لم تكن تلك الانتقالات مجرد ألعاب لغوية بلا جدوى، بل يتضح من قراءة المجموعة أن تغيرات السرد تمت بوعي من الكاتب بالطبيعة الفنية لكل نمط من تلك الانماط المستخدمة، فنجد أن النصوص التي استخدم فيها صيغة الراوي المشارك هي الغالبية في المجموعة، وجاءت بصيغة حُلمية، حيث ينقل لنا الراوي أفكاره وخيالاته الخاصة مهما كانت غريبة وبعيدة عن الواقع، ليصبح الراوي سيدا للقصة، والواقع كما يراه هو واقع القصة، فيتماهى القارئ مع الراوي/الشخصية الرئيسة في هذه النصوص ويتبنى مشاعره ورؤاه، على العكس من نصوص الراوي العليم التي يحتفظ فيها الراوي بمساحة آمنة بينه وبين الأحداث، يرويها بنظرة حيادية باردة، وحتى لو احتوى النص على أجواء غرائبية أو خيالية فالراوي العليم هنا يطرح لنا جنون الشخصية، وليس جنون النص!، لهذا لم يكن غريبا أن يصاغ نص “الوفاق” ص45 عبر الراوي العليم، فهو أكثر نصوص المجموعة “واقعية” أو لنقل ارتباطا بالواقع بصورته التقليدية، وهو النص الذي استخدم فيه النظرة الشاملة للراوي العليم لرصد تفاصيل وعي وأفكار الشخصيات المتعددة في النص ونقل بؤرة السرد بينها من شخصية إلى أخرى.

أما في النصوص القليلة التي كُتبت باستخدام الراوي المخاطب، ورغم تقارب رؤيته مع الراوي الأول إلا أن الكاتب استخدم صيغة المخاطب لتعطي بعدا مختلفا للنص، فنجد النغمة الأصلية المسيطرة على نصوص المخاطب في المجموعة هي “الوحدة”، فالراوي يوجه كلامه دوما لبطل وحيد ومغترب في بيئته ومجتمعه، مغترب حتى وهو جالس وسط أقرانه مثل بطل “حلمك مر كالقهوة” ص55، وفي نص “انت.. حكاية قديمة” الذي يذكرني بأجواء الرائد السكندري محمد حافظ رجب في “مخلوقات براد الشاي المغلي” يكون البطل المغترب هنا موظفا رافضا لأجواء العمل التي غزاها الفساد، حتى وصلت لمحيط جسده نفسه فاكتسى بالعفن.

عبر مجموعة من القصص المكتوبة بعناية، يأخذنا عبد العزيز الصقعبي في رحلة ذات خصوصية عربية وبدوية، ليعرض لنا عبر الأحاديث لعالم من الغربة بين القديم والحديث، بين الطائف القديمة وبيوتها الطينية ووجهها الحديث المكسو بمساحيق التجميل، بين جلسات الولائم التقليدية وذكريات الكرم العربي، وبين جلسات المقاهي الحافلة بشاشات التلفزيون الصاخبة. هي رحلة يدعونا لها الصقعبي بحثا عن هوياتنا العربية الممزقة بنصال الحداثة الغربية.

مقالات من نفس القسم