طريقٌ ترابية تبدو وكأنها تشبثت عنوةٍ بحواف الإسفلت, كصلة وحيدة وأخيرة مع العالم إذا ما انقطعت سقطت القرية بتلها الشبيه بنهدٍ مترهلٍ تعلوه حلمة كحبة الزبيب هي قبر الجد الأكبر, وبيوتها الطينية الثلاثة عشر في فخ النسيان. صلة شحذّوها على مرّ السنين بنعالهم وعرباتهم وأظلاف قطعانهم…
على وقع لكزةٍ من المعماري الكهل الجالس إلى جواره في مؤخرة الشاحنة, أجفل رشو من غفوتهِ قبل أن يترجل قفزاً من الشاحنة التي أبطأت دون أن تتوقف ثم عادت فانطلقت مسرعة تاركة رشو على الإسفلت متوجساً من الحلم الذي تراءى لهُ فيهِ طائران يتسابقان إليه من جهةِ سماء القريةِ أحدهما أبيضٌ والآخر أسودٌ قبل أن يسقط الأول أرضاً ويختفي بما يشبهُ رصاصةً طائشةُ, ويستقر الأخير على رأسهِ الذي بدا جمجمةً عاريةً تحت القبعة .
كان دلكش يرصف الدّحل الزجاجي بعد أن شتتّها بتصويبة من يدهِ العسراء التي لاتخيب, حين استشعرَ تأخراً مزعجاً من رامان الذي دفعهُ الجوع لِجَلّبِ رغيفين مدهونين بالدبس من المنزل, فقرر الذهاب في إثرهِ ليجدهُ أعلى التلة.
: مالذي تفعلهُ هنا .
: لم أحتمل النظر إلى زوجة عمّنا رشو وهي واجمة العينين في الكفن .
: والبنت هل ماتت هي الأخرى ؟
: إنّهُ صبي أيّها الأحمق .
: ظننت أنها لم ولن تُنّجِبَ سوى البنات .
: سمعت جدتي تنوح قائلة لو لم تكن ذرية رشو كلها بناتاً لتمنيت هذا المولود بنتاً ليحمل اسم والدتهِ .
: لم تحتمل النظر إلى الجثة أم إنك صعدت إلى هنا تترقب عمي رشو لتنال بشارة الصبي ؟
: دائماً خبيث النية انت .
: أنا الخبيث أم انت ؟ يا صاحب القلب الحنون , والله سأُخبرّ عمي رشو بوفاة زوجته قبل أن تخبره أنها ولدت له صبي .
: هراء… تعلم أني أسرع منك لن تسبقني إليه ولو استعرت قوائم السلوقي .
ما أن ظهر لهما في الأفق طيف عمهما رشو حتى نزلا التل جرياً, و رامان يتقدم دلكش قبل أن يتعثر بحجرة ويسقط على وجهه فيسبقه دلكش إلى رشو منقطع الأنفاس .
: ع..م..ي, لقد توفيت زوجتك أثناء الولادة, والجميع ينتظرك منذ الظهيرة للدفن, أسرع ياعمي أسرع الجميع ينتظر .
مدَّ رشو دون أن تبدو عليه أيُّ من علامات التأثر يده إلى الوزرة المعلقة على خصره, ناثراً على رأس دلكش حفنة من المسامير الصدئة, قبل أن يكمل طريقهُ صامتاً, ودلكش يتتبعهُ إلى أن وصل إلى حيث سقط رامان يمسح الدم من على ركبته المعفرة بالتراب, فحمله بين ذراعيهِ متابعاً الطريق وهو يردد في سرّهِ بنبرة الصدى :
“إلى العُشّ ياطائري الأبيض الجريح… إلى العُشّ”