العالم روائيا(1) عن الشاعر والمدينة فى “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وستمشى فى نفس الشوارع، وفى نفس المناطق تشيخ.

وفى نفس هذه البيوت ترقب نفسك وأنت تشيب

وستنتهى دائما إلى هذه المدينة.

فلا تتطلع إلى شىء فى مكان آخر:

لا سفينة لك، لا طريق.  

                                                   من قصيدة "المدينة".. قسطنطين كفافيس

 

    تسعى “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، للروائى المصرى “طارق إمام”، إلى إعادة تأويل حياة “كفافيس” نفسها، حياته الثانية والتى ستتشكل عبر الكتابة. حكاية / قصة إطارية ” تحف وتؤطر وتتقاطع” مع مخطوط رواية عشيقه ” الكسندر سينجوبوليس”، الإنسان الذى يتسم وجوده الفعلى بنسبية قلقة، والشخص الذى ليس له وجود فى الكثير من الكتب التى تناولت سيرة “كفافيس”، لكن النص الروائى يمنح “ألكسندر” تجسدا وحياة، بل ويجعله الكاتب المفترض/الضمنى للرواية، والذى يتقنع خلفه كاتبها الفعلى/الحقيقى.

    يتفاعل النص الروائى مع عناصره الأساسية المكونة له (الشخصيات، التاريخ، المكان، اللغة..). لا يوظفها كمعطيات قبلية وثابتة، بل يرتبط بها فى سياقات وعلاقات جدلية: فتتبدى الشخصيات كعلامات و” وحدات دلالية”، لكل منها صوتها و وعيها بالعالم، و”التاريخ” سردية

تتم مساءلتها فى محاولة لتفكيكه وتحريفه و إعادة كتابته، ولا يشكل المكان( الإسكندرية) بالنسبة للحبكة خلفية يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخرى، كما تتعدد مستويات اللغة وأسئلتها، وعلائقها الاجتماعية. وتتحدد طبيعة العلاقة بين خطاب الرواية وبنيتها، التى تعزز الشك. 

                                                ●●●

   فى فيلم” الأبدية و يوم”، للمخرج اليونانى الكبير “ثيو انجيلوبوليس”، يحكى بطل الفيلم، الشاعر المحتضر، للطفل الذى بصحبته، حكاية صغيرة:

  ذات مرة كان هناك شاعر يونانى عظيم فى القرن الماضى، قضى سنوات طفولته على جزيرة، كبر وعاش فى إيطاليا، وقت ما كانت اليونان تحت السيطرة العثمانية. كان يحلم كل ليلة بوجه أمه، الذى لا يزال محفورا بداخله، ويراها فى لباس عرسها الأبيض. بعد سنوات طويلة، يقرر الشاعر العودة إلى وطنه، وعاد فى مركب من “فينيسيا” إلى جزيرته “زانتى” باليونان.

   تعرف على بيته ، الألوان، العطور، و الوجوه، لكنه لم يعرف اللغة، أراد أن يغنى للثورة، ويبكى على الموتى، ويتحسر على الوجه المفقود للحرية، لكنه لم يستطع أن يتكلم بلغته الأم، بعد ذلك وأثناء مروره وسط المناطق الشعبية، الحقول، قرى صيادى السمك، دَوَن الكلمات التى سمعها، ودفع ثمن لمن استمع منه، لأول مرة، إلى كلمة جديدة. انتشر الخبر فى كل مكان: “الشاعر يشترى الكلمات”. منذ ذلك الحين، وحيثما ذهب، فكل فقراء الجزيرة، صغارا أو كبارا أو شبابا، يلتفون حوله ليبيعوا له الكلمات. وبقيت القصيدة التى كان يحاول كتابتها غير مكتملة.

    تبدو حكاية هذا الشاعر، فى مجازيتها، قريبة من حكاية “كفافيس” داخل الرواية، فبينما يصل هذا الشاعر إلى وطنه، فاقدا لغته، يصل “كفافيس” من “أثينا” إلى “الإسكندرية” فاقدا صوته، لكنه يشعر بسعادة غامضة وطفولية عند بداية قراءته لمخطوط “ألكسندر”، لأن “السارد يعيد خلق الأصوات على شفتيه”.. “لقد فقدت الصوت لكنى لم أفقد الكلام” ﺻ 110 

   كما يبدو “كفافيس” فى الرواية متضايقا من “اليونان” فى مسألة كونها: ” دولة تتعامل مع نفسها كأمة، ولم تكن تملك سوى لعبة واحدة هى اللغة، إليها تُنسب جميع أسباب الاضمحلال أو الرقى..” ﺻ 170، لذلك أبعدته الإسكندرية عن كل صراعات عاصمته الأم والتى: “كان الشعراء فيها يذوبون فى معارك يعتقد فيها كل منهم أنه يدافع عن وطنه بالقصائد” ﺻ 171

ليبقى بعدها متفرغا لصراعات جسده، وهواجسه، ومدينته المجهولة.

                                            ●●●   

        شعرية السرد

  تعمد لغة الرواية إلى “الشعرية”، لكن النص الروائى يدركها كمعطى جدلى، فالشعرية ليست صفة “قارة” داخل اللغة، تتجاور إلى جانب صفات أخرى، بل تتموضع داخل شروط العمل الروائى نفسه، وتتخلق معه.

   تكشف الغة الشعرية للرواية عن الكيفية التى يمكن أن “تتقوض بها ضروب الخطاب الاجتماعى السائد بإيجاد مواقف جديدة للذات”، كما بينت “جوليا كريستيفا”، لذلك ينطوى اختيار ذات الشاعر كتيمة أساسية، للمرة الثانية فى روايات “طارق إمام” بعد الشاعر القاتل فى     “هدوء القتلة”، على دلالة بالغة الأهمية. فالذات “الشاعرة” ليست مجرد كيان مستلب وفارغ، ينتظر دوره الاجتماعى أو الجنسى، بل هى كيان متحرك، يحاول بدأب، أن يتجاوز نفسه، بمنأى عن الرؤى الرومانتيكية لذات الشاعر كمركز للعالم ( والتى تنقضها الرواية من خلال مثلية “كفافيس” التى تنتهك التهويمات الرومانتيكية).

    يعمق من هذا المعنى اختيار “كفافيس” كشخصية “مرجعية” تعيد الرواية كتابتها: “كفافيس” أحد رواد الحداثة الشعرية الكبار فى لغات العالم، و شعر الحداثة الذى كانت تنظر إليه “كريستيفا” بوصفه ” الشعر الذى يرهص فعلا بالثورة الاجتماعية”، الآتية فى المستقبل البعيد، وبمجتمع أكثر تطورا وتعقيدا.

   تحاول الرواية خلق موازيا سرديا للغة “كفافيس” الشعرية فى مناطق عديدة منها، داخل سياق لغوى يحتفى بالتنوع فى أنماطه البلاغية.

    يتجاوز السرد الشعرى، فى تشكله داخل النص الروائى، الثنائية البسيطة بين الحقيقى/المجازى إلى ثنائية أكثر تعقيدا وجذرية بين مبدأ الواقع/ مبدأ الرغبة، على تعبير” جابر عصفور” فى شرحه للتقابل بين “العادى” و”الشعرى” لدى “كريستيفا”، يتحقق هذا التجاوز بما يمثله “الشعرى” من انبناء وانفتاح على “اللاوعى”، وما يختزنه اللاوعى من دوافع ورغبات يتم قمعها عبر البنيات السلطوية للمجتمع ونظامه الرمزى، فتمارس اللغة الشعرية تحررها السميوطيقى من الهيمنة الرمزية للنسق اللغوى للمجتمع، الذى تتحدد -بالمعنى اللاكانى- الذوات الإنسانية وفق دواله. مبدأ الواقع الذى ينتظم بواسطة قيود العائلة والمجتمع، ومبدأ الرغبة الذى يطمح من خلاله اللاوعى إلى تحقيق اللذة، واشباع الحاجات والنوازع والرغبات، بين الاذعان لأنساق القيم الجامدة والتمرد عليها، بين الخنوع والثورة، بين الحداثى فى مواجهة التقليدى، وبين المرحلة الأوديبية للشاعر وما قبلها.

    التمرد والفردانية والحداثة والمجاز واللذة، هى الأقانيم والمعانى التى حاول أن ينتصر       لها “كفافيس”، عبر حياته وشعره ومثليته الجنسية، وهو مايظهر فى تأملاته التى كان يدونها وسمّاها “ملاحظات عن الشعرية والأخلاق” (استفاد منها ألكسندر فى مخطوط روايته بعد أن اطلع على الدفتر المدونة فيه) وفي واحدة منها كتب “كفافيس”، كما ذكرتها الرواية: ” ما يجعل الأدب الإنجليزى يبدو لى قديما، إلى جانب بعض النقائص فى اللغة الإنجليزية،هو- كيف يمكن صياغة ذلك؟- نزعة المحافظة، صعوبة أو انعدام إرادة ترك ماهو قائم، والخوف من مواجهة الأخلاق، الأخلاق الزائفة، فذلك ما ينبغى أن نطلقه على أية أخلاق تمتهن الجهل” ﺻ 272

 وهذا فى مقابل اعجابه بكتب فرنسية وضعت باعتبارها،بشجاعة،”البعد الجديد للحب”.

     لا ينحو السرد فى شعريته المتفاوتة إلى التماثل فى استعراضه الأسلوبى، تغلب النص الروائى على التماثل والجمود بعدم استخدامه نفس أنماط التركيب اللغوى والصوتى، وإدخال النص “نغمة الصوت البشرى” (بتعبير “ديفيد لودج”)،أو الأصوات البشرية، وهى تتحدث فى مجموعة متنوعة من الإيقاعات والقدرات و وجهات النظر( كان الشاعر الكبير “و.ﻫ .أودن” يرى أن أهم ما يميز شعرية “كفافيس” ما أسماه: نبرة الصوت). فلغة الرواية هى مزيج من الأساليب والأصوات، التى لا تخضع لطابع أو نمط معين، أو لهيمنة صوت راوى واحد، بل تنفك تلك التراتبية إلى العديد من الأصوات (ليس تعددا بالمعنى الباختينى فحسب)، فنجد بالرواية مونولوجات الشخصيات الداخلية :(خاريكليا، كريستينا، كلوديا، فورستر، فتنة…)،وأحلام يقظتهم، والمراسلات الخطابية بين “كفافيس” و “فورستر”، وقصاصات “ألكسندر”و تعليق “كفافيس” عليها، فالطبيعة “الكرنفالية”  للنص أدت إلى إحياء الأنماط الرسمية للبلاغة (من كناية ومجاز و تشبيه وتمثيل واستعارة) و تغييرها.

يتبع..

 

 

مقالات من نفس القسم