المذبحة: صعود الدولة.. وسقوط الإنسان..

المذبحة: صعود الدولة.. وسقوط الإنسان..
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى البدء كانت المذبحة..

ثم تقوم الدولة، وكأن كل دولة لا تؤسس على مذبحة لا يعول عليها..

 دولة محمد على ومذبحة القلعة ومذابحه ضد الفلاحين المصريين، مذابح محمد بن سعود وقيام السعودية، مذابح الهنود الحمر والمواطنين الأصليين على يد الرجل الأبيض، الدولة الأموية، العباسية، الأيوبية، فرنسا والجزائر، مذابح ألمانيا النازية، مذبحة الأرمن على يد الأتراك العثمانيين، والمذابح المستمرة التى ترتكبها الدولة المصرية بعد الثورة..

تمنح المذبحة الدولة دعائم قيامها، تؤبد أركانها، كما توظفها الدولة كأداة ردع للخصوم، لكن المذبحة تخلق وتشكل وعيا جمعيا مبنيا على الخوف والتواطأ. تترك ندوبا فى الأفراد، ثم تصير كأسطورة مطمورة فى العقل الجمعى، وضاربة بجذورها فى لاوعيه.

  المذبحة بوصفها  المشترك اللاإنسانى للجماعة البشرية.. النص الخالد فى تاريخ الإنسان.

ولأنها كذلك، اختارتها داعش كفعل جوهرى يسهم فى إدامة وهم دولتها المزعومة، حيث الذبح العلنى وسيلة لإعلان قيام الدولة الإرهابية، و بسط سيطرتها ونفوذها، لأن "المذبحة" هى اللغة التى يعلمها الجميع، ويتقنها كل العالم..

●●●

من الأعمال التى تناولت بفنية عالية سؤال المذبحة، وأثرها على وعى وضمير الإنسان،

 الفيلم الفرنسى  “مخفى cache`” إنتاج 2005، للمخرج النمساوى الكبير مايكل هانكه.

  طرح هانكه المذبحة بوصفها مسكوتا عنه، عبر بناء فنى مركب، ولغة سينمائية فائقة الدقة والحساسية، ومستويات عديدة تشكل رؤية هذا العمل الفنى الفذ.

   اللقطة الأولى المراوغة للفيلم: بيت عادى فى شارع هادئ، وتبدو كلقطة من كاميرا المخرج الذى سيروى الحكاية، لكن بعد دقائق نسمع حوارا من خارج الكادر، يتسائل طرفاه عن معنى ما نراه ومن الذى قام بتصويره، لندرك بعد ذلك أن هذا المشهد الطويل إنما هو جزء من شريط فيديو يشاهده الزوجان، جورج (دانيال أوتوى) وآن (جولييت بينوش)، اللذان عثرا على الشريط على عتبة منزلهما.

   جورج مذيع تلفزيونى يقدم برنامجا ناجحا عن الإصدارات الأدبية، وآن تعمل كمحررة فى دار نشر، ولديهما ابن على أعتاب البلوغ.

    الحياة الهادئة لهذه الأسرة تبدأ فى التصدع مع تلقى شرائط الفيديو، ومكالمة هاتفية غامضة، ثم وصول شرائط تحمل إشارات، نعرف بعد ذلك أنها تحيل إلى ماضى الزوج “جورج”.

 تصيب الأسرة حالة من البارانويا ناجمة عن الإحساس بكونك مُراقب.

 يفكر الزوج في من يمكن أن يكون وراء تلك التهديدات، نابشا بذلك ماضيه وذاكرته.

  تستمر الأشرطة فى الوصول لكنها هذه المرة وكأنها تستدرجهما لحل أحجية ما، فهى تارة تصور البيت الذى نشأ فيه جورج وقضى طفولته، وتارة تصور شارعا ثم تدخل بناية فقيرة، يتبع جورج الأثر ويلتقى فى تلك البناية برجل جزائرى الأصل يُدعى ماجد (موريس بنيشو)، يتهمه جورج بأنه وراء تلك الأشرطة ويهدده، لكن ماجد ينفى معرفته بالأمر.

   فى حديث جورج مع زوجته آن، يخبرها بشكوكه تجاه ماجد هذا، وعندما تسأله لماذا يفعل شيئا كهذا يخبرها بشكل “عابر” أن:  والدا ماجد كانا يعملان لدى والدى جورج، وقد قتلا أثناء مظاهرة سنة 61 التى دعت لها جبهة التحرير الوطنية، يقول: ” مذبحة باريس.. موريس بابون.. 200 قتيل فى نهر السين”…

   أراد والدا جورج تبنى الطفل ماجد بعد مقتل والديه، لكن جورج الذى كان يبلغ السادسة وقتها،   مدفوعا بغيرة الطفل يختلق أكاذيب “بيضاء” ويدبر مكيدة للتخلص من الصبى، ليتم فى النهاية ايداع الصبى الجزائرى فى إحدى الملاجئ، وتنقطع أخباره من حينها.

  يتغيب ابن جورج بشكل مفاجئ، تعتقل الشرطة ماجد وولده إثر اتهامات جورج لهما، لكنها تطلق سراحهما لعدم توافر الأدلة، وفى صباح اليوم التالى يأتى ابن جورج وآن إلى المنزل، ويتضح أنه كان يبيت عند أحد أصدقائه ولم يبلغهما.

 كما يظهر فى شريط فيديو آخر تهديد جورج لماجد، وجلوس الأخير منزويا ليبكى بعد رحيل جورج.   

   يهاتف ماجد جورج الذى تلاحقه الكوابيس، وحين يصل الأخير إلى شقة ماجد البائسة، يخبره ماجد أنه لايرسل تلك الشرائط، ويضيف ” أردت فقط أن تكون حاضرا” ، ثم ينتحر أمامه بنحر رقبته، فى مشهد مباغت وبالغ العنف والصدمة والدلالة.

  ينتهى الفيلم بمشهد طويل: الكاميرا فيه ثابتة وتصور جمعا من الطلاب بعد نهاية اليوم الدراسى، ومع التدقيق نلمح فى إحدى الزوايا شابين يتحاوران ( ابن جورج وابن ماجد)، دون أن نسمع مايقولاه، ودون أن نعرف هل نحن أمام كاميرا المخرج الفعلى، أم أمام كاميرا من “يراقب”، كما فى لقطة الفيلم الافتتاحية.

●●●

   حبكة شبه هيتشكوكية، لكنها لا تعمد إلى إماطة اللثام نهائيا، بل ترجئ الكشف إلى ما لانهاية.

يعاكس الفيلم الرؤى الهوليودية التى ترفع الشعار البوليسى التشويقى : من الفاعل؟

ولا يجنح هانكه إلى طرح إجابات أو حلول، وتفسير الدوافع، لأن أسئلة الفيلم الحقيقية تتباعد عن فكرة الفاعل/اللغز/ التشويق، أو من يمكن أن يكون وراء تلك الشرائط، فالفيلم غير معنى بتوجيه الاتهام إلى أى شخص. وكما يقول الناقد السينمائى أمير العمرى: ” فى أفلام مايكل هانكه لا يوجد تفسير درامى سهل واضح معتاد، بل تساؤلات مقلقة ومضنية تنطلق من منطلقات أخلاقية لتصل إلى آفاق تتعلق بالوجود الإنسانى نفسه ومغزاه، فى علاقته بالآخر”.

  حين يتواجه ابن ماجد مع جورج فى مبنى التلفزيون، يكرر جورج أنه لا يشعر بعقدة ذنب بسبب انتحار ماجد، ولا يمكن لإبنه أن يبتزه، أو يزرع بداخله هذا الشعور،أو يجعله مسؤولا عن حياة والده البائسة، ويهدد الإبن بأن يبتعد عنه وإلا كانت العواقب وخيمة، بينما يخبره الإبن بهدوء: أردت فقط أن أعرف كيف حال ضميرك”.

  هذا الإنكار المستميت من جانب جورج يماثل إنكار الدولة الفرنسية لمذبحة باريس، والذى استمر لأكثر من خمسين عاما، وخشية جورج من مواجهة ماضيه هى خشية فرنسا التى، إلى اليوم، لم تواجه كدولة، ماضيها الاستعمارى الدموى. وكأن سلوك الدولة يتمثله الأفراد، والوعى والضمير الفرديين لا يتشكلان بمنأى عن الأحداث السياسية والاجتماعية، بل تتم صياغتهما ضمن مستوى أعم وأشمل، ووفق سياسة الدولة بوصفها تنظيما لحياة الأفراد الاجتماعية.. الأحداث كبرى لا تصير كذلك إلا إذا أثرت فى أصغر تفاصيل حياة الأفراد اليومية، كما عبر إبراهيم أصلان.

  ومذبحة باريس (التى يأتى ذكرها عابرا فى الفيلم) جرت أحداثها فى 17 أكتوبر 1961، حيث دعت جبهة التحرير الوطنى إلى مسيرة سلمية إبان حرب الجزائر، لكن الشرطة الفرنسية، بقيادة رئيسها موريس بابون، تصدت للمتظاهرين بالعنف والقمع الدموى، لتتلون مياه نهر السين بالدماء.

 ظلت الدولة الفرنسية طيلة عقود تنكر تورطها فى المذبحة، وتفرض تعتيما اعلاميا عليها، وتمنع وثائق وأبحاث تاريخية عن تلك الجريمة، وتورد أرقاما مغلوطة عن عدد الضحايا، حيث أقرت 40 حالة وفاة فى عام 1998، إلى أن جاء فرانسوا هولاند فى 2011، وكان وقتها مرشحا رئاسيا أمام ساركوزى، ليضع أكاليل من الزهور على قبورالضحايا، وليعترف بعد توليه الرئاسة بهذه الجريمة ، وبأعداد الضحايا الصحيحة التى تبلغ 200 قتيل، وبما وصفه بالقمع الدموى وقتها من قِبل الحكومة، وسط اعتراضات من اليمين الفرنسى.

●●●

  يخلق هانكه عبر لغته السينمائية توترا لدى المشاهد، ويهز ثقة المتفرج فى “الواقع”، عبر استخدامه لتقنية الفيلم داخل الفيلم، بتداخل “واقع” الفيلم مع لقطات أشرطة الفيديو. ويخلق بناءا سرديا يوازى الوعى/العقل فى مستوياته المختلفة، حيث تقبع ذاكرة المذبحة فى أغوارها. ويقدم عملا فنيا مستقلا  بمناهضته للرواية الرسمية للدولة وقتها، ومعتمدا لتقديرات أعداد  الضحايا التى شككت فيها الدولة.

 كما ينطوى اختيار هانكه لوظيفة جورج كمعد ومقدم برنامج “ثقافى” على دلالة بالغة الأهمية، حيث يقدم هانكه نقدا مبطنا لهذه “النخبة” الفرنسية، وخيانتها لدورها فى مساءلة الذاكرة الجمعية الدموية، لكنها كما يوضح بيير بورديو فى كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” صارت كلاب حراسة جديدة، ومكرسة للأوضاع والمصالح السائدة، يقول بورديو: ” توجد اليوم “عقلية أوديماتية” ( مهووسة بنسبة الإقبال) فى أروقة صالات التحرير، فى دور النشر، الخ.. تفكر وفقا لاعتبارات النجاح التجارى…. اليوم وبشكل متزايد أكثر وأكثر تم الاعتراف بالسوق كجهة رسمية لإضفاء الشرعية.إننا نرى ذلك جيدا عبر هذه المؤسسة الحديثة التى تعرف بقائمة أفضل المبيعات Best – sellers، لقد سمعت هذا الصباح أحد المذيعين…. إنه يعطى رقم المبيعات كحكم مطلق، كحكم نهائى”.  

يثير المشهد الأخير الذي يلتقيفيه ابنيّ ماجد و جورج َ الكثير من التساؤلات. هل هو ترحيل وتوارث لأزمة الدم و الماضي و عقدة الذنب من جيل إلى جيل. فيما قد يقرأ البعضفي الإيحاءات الودية في إشارات الشابين (بما أننا لا نسمع ما يقولان) أنهما مسؤولان عما يحدث، أو أن الجيل القادم قد يجد وسيلة للخلاص من إرث الماضى الثقيل.

 

 

مقالات من نفس القسم