العالم روائيا: (2) عن الشاعر والمدينة فى “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 " الميتاسرد" و البنية الروائية

اعتمدت "الحياة الثانية.." على بنية روائية مركبة، وتقنية معقدة وفريدة من "الميتا سرد"، أو "الميتا رواية"( "الرواية داخل الرواية" أو "الكتابة عن الكتابة"). 

تقوم الحياة الثانية على ثلاث روايات متداخلة: رواية أو حكاية إطارية، تتبع كفافيس فى تلصصه على المخطوط الذى يكتبه عشيقه أليكسندر عنه، تضم جانبا من رؤى كفافيس الجمالية والثقافية، وملاحظاته النقدية والفنية عن المخطوط، عبر خمسة وثلاثين مقطعا مرقما، ثم هناك مخطوط عشيقه أليكسندر نفسه، الذى نقرأه كمتلقين مع كفافيس داخل الرواية، والمخطوط مقسم إلى ثمانية فصول، تحمل أغلبها عناوين قصائد شهيرة لكفافيس: “شموع”، “أيها الجسد تذكر”، “المدينة”، “فى انتظارالبرابرة”، “أرواح العجائز”، “النهايات”.. يتخلل تلك الفصول أصوات وانطباعات و كتابات شخصيات أخرى( فورستر، ديمترى،خاريكاليا، كلوديا، فتنة..)، تكشف عن وجوه كفافيس، وتعزز حضوره من الاستبعاد( مثل لوحة غرفة نوم” فان جوخ” التى تحتوى معظم موجوداته عداه، لكنها ربما تعبر عنه أفضل من بورتريهاته الذاتية).  

    يُظهرالتعقيب الموجود فى نهاية الرواية “ألكسندر سينجوبوليس” ككاتب الرواية الكلية المفترض أو الضمنى، والذى يتقنع خلفه كاتبها الفعلى/الحقيقى، خالقا بذلك مستوى روائى وتخييلى آخر، حيث يوضح ألكسندرأن تلك المسودة المبكرة التى تلصص عليها كفافيس فى الإسكندرية، تمت كتابتها مرات عديدة، وصولا لصيغة الرواية النهائية التى نراها أمامنا، ثم يقوم بإهداء النص إلى روح “كفافيس”.

    تفضى هذه البنية السردية إلى تعزيز الشك والنسبية، أى ما يؤطر ويبنى رؤية الرواية الجديدة للعالم والحقيقة، نافية ً الانفصال بين شكل الرواية ومضمونها، لأنه وكما يؤكد “بورخيس”: حين تصبح الشخصيات فى عمل روائى هى قارئة العمل (مثل كفافيس) أو مؤلفة الرواية التى هى فيها (مثل أليكسندر) فذلك يذكرنا “بالجانب الخيالى لوجودنا الخاص”، وهذا أحد موضوعات “بورخيس” الرئيسية، وسبب إعجابه واهتمامه البالغ ﺑ “ألف ليلة وليلة”، لطبيعة الحالات الروائية الثرية المتداخلة بها.

    كما تكمن فرادة “الميتا سرد” فى الرواية، كونها، كرواية شارحة، تستوعب المنظور النقدى فى العملية الروائية ذاتها، ليس بمجرد استباق الانتقاد أو إدراج النقد المحتمل فى النص عن طريق ساردها التقليدى، ولكن بمقاربة “ذهنية” “كفافيس” ووعيه، ورؤيته الجمالية والنقدية، كما قدمتها الرواية. ” فاجأه تقديم “ألكسندر” لكل شخصية بقصيدة له..هل ستصير الرواية صراعا بين أصوات قصائدى؟”.ﺻ 111 ، ويكشف صوت كفافيس ، عبر السارد الضمنى، عن الأبعاد المضمرة للمجاز: ” لم يمنعه ذلك من تسجيل ملحوظة كاد أن ينساها، عن حضور الشخصيات من الأحدث للأقدم، بحيث يبدو الزمن وكأنه يعود للخلف بالتقدم فى الرواية، وفكر الشاعرأن هذا يلائم فكرة يعمقها الترام… لكنه تشكك فى أن يكون هذا المستوى المجازى قد علق بذهن ألكسندر أو استفز يده” ﺻ 112  كما يقدم تأويله الخاص، مثل حديثه عن الفصل الثانى المعنون “شموع”.

  تصير الرواية متعددة المستويات (اللغوية والسردية)، مستعصية على الاتحاد، وما يترتب على ذلك من وضعية للكاتب الحقيقى أقل هيمنة بكثير من حيث علاقته بالنص، و” يحول فكرة الهوية الفردية إلى فكرة إشكالية، على نحو تغدو معه الشخصية مراوغة، وهمية،و ملتوية” كما بين “رامان سلدن” فى حديثه عن  الأعمال الأدبية ذات الطبيعة “التعددية”، وهكذا حين يتوهم المتلقى القدرة على ضم النهايات السائبة للرواية -آخر الأمر- فى “وحدة جمالية”، يلوح التعقيب فى نهايتها معمقا لتعدديتها الجدلية .            

   يتردد فى الرواية خوف كفافيس من أن تنتهى حياته الفعلية مع انتهاء مخطوط الرواية: “يعيد المخطوط إلى الحقيبة شاعرا أنه يحتضر، يفكر فجأة أن موته فى الرواية قد يتزامن مع موته فى الواقع”،  ونهاية علاقة فورستر بمدينة الإسكندرية مع انتهاءه من كتابه عنها:” طالما أنهيت هذا الكتاب. فقد انتهت حياتك فى هذه المدينة”.

   وكأن منطق الواقع يحده منطق النص،كما فى رواية” صائد اليرقات “للروائى السودانى “أمير تاج السر”، ورواية “رجوع الشيخ” للروائى المصرى”محمد عبد النبى”. يرتكز هذا الطرح إلى مفهوم للرواية يراها بناءا لغويا، لا يقوم على محاكاة الواقع الاجتماعى فحسب، أو محاولة القيام بالإسقاط والتوثيق التاريخى، بل يتحدى هذا المفهوم “الرواية الواقعية ” ومنجزها العريق. ينظر هذا المفهوم إلى العالم الخارجى بوصفه أقل صلابة و واقعية، ينظر إلى “تاريخ فوضوى”، و”نظام اجتماعى مضطرب”.

   لذلك تميل الرواية إلى تأمل ذاتها، والكشف عن طبيعة الخيال، أو كما يقول “مالكوم برادبرى” فى كتابه “الرواية اليوم” عن اتجاهين رئيسيين فى الرواية: “أولهما ساذج نسبيا،وهى أنها وسيلة لمعرفة حياتنا الاجتماعية وتصوير ذلك بلغة نكتبها ونقرأها، والثانى بكونها ابتكارا لفظيا معقدا، يظهر فيها غموض السرد وتعقيد التركيب، وحيرة خلق احساس بالحقيقة من الزيف”. 

                                        ●●●

  تمثلات المكان

    تقدم الرواية الكثير من التفاصيل المرئية الحية لإسكندرية بدايات القرن العشرين، ويخفت الوجود الشبحى للمدينة فى هذه الرواية، مقارنة ً بالقاهرة فى رواية “طارق إمام” “هدوء القتلة”، لكن ارتباط شخوص “الحياة الثانية” بالإسكندرية يوحى بأن قدرالمدينة يكوّن شخصية الإنسان. 

  تتوارد فى النص سلسلة من العبارات البيانية لتصف المدينة تفصيليا عبر رحلات الترام، وغيرها، لكن الأهم ،هو ما تطرحه الرواية لتمثلات المكان. يُطرح المكان بوصفه خبرة شعورية للأفراد، لهذا سنجد لكل شخصية إسكندريتها الخاصة بها. فيراها كفافيس مدينة الموتى والمقابر، وتراها “فتنة” مدينة الأسياد الأجانب الذين يمثلون وجهها الحقيقى و قناعها المستعار.

    يقترب هذا الوجود “النسبى ” للمكان بوصفه شعور من المعنى الذى استخدمه           “أورهان باموق” فى كتابه “اسطنبول.. الذكريات والمدينة”، فهو يراها مدينة مرسومة بالأبيض والأسود، مدينة الحزن والسوداوية ( بينما يبرزها  المخرج الألمانى ذو الأصل التركى فاتح أكين كمدينة الألوان)، أو ما يقوله “كلود ليفى شتراوس ” فى “مدارات حزينة” عن ” الحزن الغير نابع من مرض و ألم شخص واحد، بل من ” ثقافة ومحيط يعيشهما الملايين”.

يختفى العمق الحضارى للمدينة خلف سطحها الفقير، و خلف علاقات الناس التى كان من

 الصعب ، على غربى مثل كفافيس ، فهمها.  لكن ذاكرة المدينة و مجازيتها القلقة و مصائر الشخصيات فيها تجعلها ليست مجرد خلفية للحبكة الروائية ، بل سؤالا يتم طرحه بفنية فى ثنايا النص الروائى . 

                                                                  ●●●

 الأيروسية و السيريالية و القوة المطلقة للحلم

     أشبعت اللذة المحرمة

    نهضا و ارتديا ملابسهما على عجل ، بلا كلمة

    يخرجان – خلسة – من البيت منفردين

    و إذ يمشيان فى الشارع على قلق ،

    يبدو عليهما الاحساس بان شيئا ما يعلق بهما

    و ينم عن نوع السرير الذى كانا يرقدان عليه منذ لحظة

    لكن، ياله من اثراء لحياة الفنان

   ففى الغد، ما بعد الغد، أو بعد أيام:      

   ستكتب القصائد العارمة التى كانت بدايتها هنا

قصيدة ” بدايتهما”

كما استحضر كفافيس فى العديد من قصائده صور و أجواء الأساطير اليونانية و الهيلينية و التراث الإغريقى ،  فإنه قام أيضا بتصوير العالم الشبقى الذى يكتنف قصائد عديدة أخرى. كفافيس، المثلى الجنس، لا تبذل قصائده أى جهد لإخفاء الحقيقة، و تبدو غير عابئة بالحكم الأخلاقى. استطاع الشاعر أن يحول المتع الحسية، وإن كانت غير سعيدة، و “الحالات العارضة و العلاقات العابرة”، و التجارب التى قد تبدو مؤذية أو منفرة إلى شعر رفيع، يقتنص الشعرى من ركام العابر و الجسدى و” اللا أخلاقى “.

   و بالمثل، تتبدى فى الرواية “الصفة الايروسية للجمال”، بتعبير ” هاربرت ماركوز”، فالنص الروائى يتكلم اللغة “المتحررة” :

  “لكى أحافظ على نقاء أفكارى، أفرغت انتصابى فى حمام على بعد خطوات، مفكرا فى صورة

لكريستينا وهى مضطجعة على بطنها، عارية تماما، تكتب، تعلو مؤخرتها وتهبط” ﺻ 347

   “لكن، دعونى أقلها بصراحة، الجنس هو الشئ الوحيد الذى يجعل الرجال رجلا واحدا والنساء امرأة واحدة، وحدها الشرارة التى تنبعث، بمعجزة،من قطبين متشابهين، هى ما لا يمكن أن يتكرر.. هذه الشرارة هى نفسها الشعر” ﺻ 261

  “لقد كانت وجهة نظرى أنها تلخص جروحه الحية.. وشعرت أنه خصى مناطقها النابضة لصالح بنيتها المتأنقة”. ﺻ 356

و تواجه اللغة بصفاتها الايروسية المبدأ القبلى للجمال الشعرى، وتخلق الرواية ما يمكن تسميته “شعرية القسوة”، تتحول الحسية القاسية و العارية و الجريئة إلى صور محررة، و عناصر انعتاق جمالى، و” امكانية استخلاص متعة جمالية من صور الألم و الفناء”.

  كما  يستحضر النص الصور المتحررة، و السيريالية، خاصة فيما يتعلق بشخصيات مثل: هيلينى و ثيوفيليس. تظهر قوة الحلم المطلقة ( حلم بائع الوجوه، أحلام كفافيس بهيلينى، المسوخ و العمالقة و الغيلان)، والوجود الشبحى لشخصية مثل ثيوفيليس.

تصبح الاستعارة هى الواقع، فتطمس الوعى و عالم العقل، و يتجلى عالم الحلم، الذى يعمل فيه اللاوعى على كشف الرغبات و المخاوف الدفينة على هيئة صور حية، و عبرها يتم الكشف عن مخاوف كفافيس و مكنونات لاوعيه، مثل رغبته فى محو هيلينى، و علاقته المتحورة من الاوديبية بأمه خاريكاليا، فى سياق سردى مثير للدهشة لا يحده منطق حياتنا الواعية. 

                                               ●●●

    كان الروائى “هنرى جيمس” يقول أن “الرواية” لكى تولد من جديد بحاجة إلى نوع من “الخيال الشعرى”، ومع نظرتنا المساواتية للطرائق الفنية المختلفة للكتابة وأساليبها النوعية، إلا أن ما تحققه “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” من تطويع كافة ممكنات اللغة والخيال، يجعلها نقلة هامة وإضافة جمالية إلى السرد الروائى. 

                                       

مقالات من نفس القسم