يبدأ اليوم على حافة الفجر بصرخة القطار كأنه ديناصور يكافح من أجل البقاء ثم تولد الأصوات بعده خافته .. أصوات وقع أقدام , نداءات غير واضحة , ارتطام صناديق خشبية بالأسفلت , قرقعات أبواب معدنية , صياح ديك بعيد.. يستيقظ معتز عبد الهادي بعد ليلة نوم عميق .. ينهض من فراشه نحو الحمام .. يعلم كنه كل صوت مهما خفت بحكم الدربة , و يعرف الأصوات القادمة مسبقا بحكم العشرة الطويلة .. ما هذه إلا الموجة الأولى من أصوات الميدان .. شرارة خافتة لن تلبث حتى تشعل الضجيج زاعقا في الأفق ..
يقع سكن معتز في ميدان المحطة على بعد أمتار من شريط القطار , ومحطات القطار دائما تفرز أسواقا تجتذب باعة الخضروات و أكشاك السجائر و الحلويات و الجرائد وتجار الفاكهة و محلات الملابس و المقاهي و مطاعم و فنادق و مواقف السيارات الأجرة التي تستتبع بدورها وجود محلات قطع غيار السيارات و اكسسواراتها و ورش تصليح كل جزء فيها .. الميدان خلية نحل تشغى بالحركة و الطنين ليل نهار .. لا شىء يعرف الثبات و الهدوء هنا حتى جدران البيوت تهتز دائما عند عبور القطار و يسمع لجدرانها صوت الأزيز .. الشقة بالطابق الأول تأخذ ناصية مميزة تجعلها متداخلة مع فضاء الميدان الصاخب.. سكان البيت و الميدان كله لا يقيمون هنا إلا مضطرين فمن الذى يستطيع تحمل هذا الضجيج الأبدي , كثير منهم هجر سكنه الى الدراسات و المجزر و جديلة و طلخا , و الميسورون هاجروا إلى المشاية و حى الجامعة حيث الأبراج الجديدة ..تحولت الشقق كلها الى عيادات أطباء و مكاتب محامين و شركات , وحده بقى معتز الساكن الوحيد فى بيت الصخب كما كان أصدقاؤه يسمونه كلما زاره أحدهم .. دائما يرد ضاحكا بأنها شقة إيجار قديم من أيام والده رحمه الله و لا يستطيع صحفي مثله التحصل على أفضل منها فى المنصورة إلا إذا كان يعمل في إحدى المجلات الخليجية الفاخرة ..
طوال عمره ظل معتز عبد الهادي لا يرى فى الصخب إلا جزءا طبيعيا من نسيج الحياة اليومية .. فى ساعات عمله فى مكتب الجريدة بالحي الراقي بالمدينة كان يتعجب من تحمل الناس لعمق الهدوء الذي شبهه بهدوء المقابر .. الشارع المكتظ بالأشجار تمر فيه سيارات بين الحين و الحين لا تستخدم الأبواق إلا نادرا و المنطقة كلها ليس فيها ورشة واحدة .. المقاهي هنا تفقد اسمها و معناها فهي علب زجاجية مكيفة الهواء لامعه الأبواب ليس فيها دقات زهر الطاولة ولا خبطات أحجار الضمن و لا صيحات الناس الضاحكة و المرحبة و المناكفة .. لم يتصور نفسه أبدا يسكن هذه الأحياء الثلجية المنشاة ..يضيق بالأشخاص الذين تحتبس أصواتهم فى حلوقهم فتخرج كهمسات .. يراهم دائما بطيئى الحركة كسولى النظرات .. يحمد الله فور وصوله إلى سكنه يفتح النوافذ كأنما يعطى مئات الأصوات سماحا مطلقا للدخول .. يتناول غذاءه أمام التلفزيون الذى يصيح بأعلى درجات صوته معلنا أهم أنباء التفجيرات و الحروب أو عارضا أغنية راقصة ينخلع القلب لعنف طبولها أو أحد أفلام الاكشن التي يدمر فيها البطل مستودعا شاسعا يمتلئ بمواد قابلة للانفجار .. لا يصوغ معتز تحقيقاته الصحفية و مقالاته القصيرة إلا هنا فى البلكونة فتخرج مشحونة بالحرارة و الصخب الحي كما يردد دائما .. فى البلكونة نفسها يقرأ ماركيز و أمبرتو ايكو و نجيب محفوظ و خيري شلبي و أمين معلوف .. يقرأ شوقي و دنقل و أدونيس و يقرأ هيكل و فوكوياما و كتب دين و تراث و تاريخ شتى ..
الليلة – ولأول مرة فى حياته – ينتفض معتز من نومه فزعا .. كان الوقت قبيل الفجر بقليل هيئ إليه أن صرخة مدوية شقت رأسه منذ لحظات أصاخ السمع فلم يجد أى صوت غير معتاد فتيقن انه كان يحلم .. كان ظامئا لكن النوم أثقل رأسه فلم يستطع النهوض .. دخل ملكوت النوم العميق بمجرد أن لمس رأسه الوسادة .. انتفض ثانية .. هيئ إليه انه استمع إلى بقايا صرخة الحلم في ثواني اليقظة الأولى .. كان يلهث كعداء فى نهاية مارثون طويل .. لم يحتمل الظمأ هذه المرة فنهض ليشرب .. استعاد هدوءه مع نزول جرعات الماء البارد فى حلقه متسارعة .. طار النوم من رأسه كأنما إلى غير رجعة .. توهج تركيزه و همس لنفسه و هو يحدق في زجاجة الماء التي كانت لا تزال في يده
مكانش حلم
أغلق التلفزيون و أسرع إلى النافذة المفتوحة يمسح الميدان بعينية كأنه سيجد مصدر الصوت الغريب هنا أو هناك .. بدأ يتذكر ملامح الصوت جيدا .. سحبة كمان أسطوري تشرخ الليل و الحواس .. تبدأ من صفر السكون متصاعدة على سلم متصاعد حتى تصل إلى قمة من الحدة تنصهر عندها الأشياء ثم تتلاشى من نقطة القمة بغير تدريج لكن صداها يتبدد فى الكون ليكمل تدرج الوصول إلى الصفر الأول .. على مستودع الأصوات التي تملأ رأسه منذ زمن عرض الصرخة المفزعة فلم يجد لها مصدرا .. كانت السماء تمتلئ بقرآن الفجر المنبعث من ميكرفون الجامع .. خمن أن يكون ثم خلل في السماعات اصدر مثل هذا الصوت المفزع .. أنصت .. كان الصوت رائقا و كان المقرئ يشدو بعذوبة
و أشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب
توجه إلى المطبخ ليعد قهوته وقد أيقن أنه لن يعود اليوم إلى النوم .. من نافذة المطبخ جليا قويا دهمته الصرخة اللعينة حادة قاطعة .. كمن لسعت أعصابه النار قفز إلى النافذة .. دلى رأسه إلى المنور يصيخ السمع .. بكاء وليد متصل و صوت امرأة تهدهده .. الصوت قادم من الطابق الأرضي .. تذكر الأثاث الذي شاهده يدخل العمارة منذ يومين .. سكان جدد إذن .. هل يعقل أن تكون الصرخة العاتية صادرة من هذه الحنجرة الضعيفة التي لا تكاد تقوى على البكاء .. جاءه الرد فوريا يشق رأسه إلى نصفين .. انسحب من النافذة و أغلقها بإحكام .. خرج إلى الصالة و قد انشرخ فى كيانه شيء لا يعلمه .. انطلق الآذان من مكبرات المسجد القريب فطن رأسه كأن المكبرات معلقة على أذنيه .. دقائق وزعق قطار الفجر يعلن ولوجه المحطة فاهتزت ضلوعه و تكرمشت معالم وجهه..
كان ذلك الصباح فارقا فى حياته التى انقلبت جحيما .. طبلة أذنه و خلايا مخه و شبكة أعصابه صارت فجأة بالغة الحساسية لكل صوت .. الوسائد المتراكمة فوق رأسه , و القطن الذي ملأ به أذنيه , و النوافذ التي غيرها بأخرى أكثر سماكة و إحكاما لم تفلح فى ترشيح الأصوات الكثيرة الصاخبة التي تقتحمه فى كل الأوقات .. صفارة القطار التي لم تكن لتقلق نومه صارت كأنها صوت انهيار كوني .. أبواق السيارات التى لم يكن ينتبه إليها صارت فوضى عارمة يضيف كل منها إلى كيانه شرخا جديدا .. الدق و الخبط و الرزع الصادر من الورش المحيطة صار انتهاكا لإنسانيته التي تأقلمت طويلا عليها .. تعدى أمر معتز الانزعاج من الأصوات الصاخبة العارمة إلى الأصوات الهادئة بل و الخافتة .. أصوات رواد المقهى التي تصله مخففه و أحاديث المارة ليلا التي تكاد لا تصل نافذته , صوت غلق باب فى الشقة المجاورة , صوت طشة الزيت فى مطبخ الجيران , وقع الأقدام الصاعدة على سلم العمارة , صوت ارتطام كوب الشاي بالمنضدة , صوت سقوط قلم على الأرض .. قبيل الانهيار بسنتيمتر واحد هرع إلى الطبيب النفسي ..
جلس أمام الطبيب مستنجدا حدثه عما كان من قبل الصرخة و عما كان من بعدها .. استمع الطبيب كثيرا ثم سـأل سؤالين ثم شرع يكتب الروشته و هو يسأل الثالث .. عاد إلى بيته محملا بأدوية كثيرة .. تقدم بطلب أجازة مرضية من العمل وواظب على تناول أدويته .. بالكاد استطاع أن ينام بعد ليال من الأرق .. قلل العلاج المكثف من انزعاجه من الضوضاء بعض الشيء إلا أن الصرخة اللعينة كانت تنطلق فى جوف الليل فتدمر كل شيء .. من البواب علم أن الأسرة التى سكنت حديثا لديها طفلة صغيرة لم تتعد العامين تنام طوال النهار و تصحو الليل كله و لها صرخة عجيبة شكى منها الجيران ..
فى ليلته الأخيرة بالشقة اللعينة هرع بالبيجامة قبيل الفجر خارج العمارة كلها عقب الصرخة اللعينة .. انتحى جانبا بعيدا من المقهى و ظل يدخن و يشرب القهوة حتى الصباح .. حين تيقن أن الشمس قد سطعت اقترب من البوابة على حذر .. لم يسمع أى صوت قبالة باب الأسرة الجديدة .. أسرع صاعدا .. أغلق بابه برفق و توجه فورا إلى غرفة نومه و راح يجمع ملابسه و حاجياته فى حقيبتين كبيرتين ..
انتقل معتز إلى سكن بعيد عند آخر نقطة عامرة من المدينة , المنطقة هادئة إلى حد كبير , ينقطع الطريق المرصوف قبل مسكنه بعشرين مترا .. يكمل الطريق جريانه ترابيا وسط حقول فسيحة .. الأصوات هنا مختلفة تماما .. فى الصباح زقزقة العصافير و خوار البهائم و نهيق الحمير و خرير المياه وهدير بعيد لماكينات الري , و في المساء نقيق ضفادع و حفيف الهواء بين الزروع .. واظب على زيارة الطبيب و شكي له استمرار انزعاجه من الأصوات الجديدة و إن كان بدرجة أقل من السابق ..كثف الطبيب الدواء و التزم معتز تماما .. بصعوبة أنجز مقاله و لكنه لم يستطع إكمال تحقيقه الصحفي حول مشكلة القمامة المتراكمة فى الشوارع ..
فى جوف الليل كانت الأصوات تعاود سمعه .. لا يميز بينها فى البداية .. يحاول تجاهلها بعض الوقت لكنه بغير إرادة يصيخ لها فتبدأ فى التمايز .. صوت القطار و ضجيج مقهى و دقات ورش و أصوات آدمية يعرف أصحابها و تنطلق صرخة حادة الصوت الوحيد الذى لا يزال يلهب أعصابه بألم عميق ..
بمرور الوقت صارت الأصوات كلها واضحة و لكنها مخففة كأنها تأتى من وراء جدران سميكة أو من بعد بعيد.. اعتادها معتز فلم تعد تؤلمه .. حتى الصرخة نفسها صار يسمعها كذكرى تغلف حدتها أستار مجهولة . شيئا فشيئا اكتسبت الأصوات نقاء رائقا و ارتفع عن تفاصيلها إبهام الخفوت .. ظن فى نفسه الجنون لولا يقينه القاطع فيما يسمع , لم يعد يسمع ضجيج المقهى خليطا بل صار يلتقط همس حوارات دارت بين روادها منذ أعوام
صوت خشن يجاهد ليهمس
الفلوس وصلته مقدم و مشفتش بضاعة
صوت رسمى يقرر
الهدف وصل حالا يا أفندم
صوت امرأة قلق
الو .. أنا قدام المحطة اهه .. انته فين ؟
آلاف التفاصيل بدأت تتضح و تتكامل فى أذن معتز يوما بعد يوم .. استمع إلى اجتماعات مدير التحرير المغلقة و ما دار فيها .. علم طرق إنفاذ مؤامرات تمت فى الجريدة لم يكن يفهم سرها .. حوارات بين عشاق و طلبة و زبائن و مارة و تجار مخدرات و مخبرين و شحاذين و لصوص .. من الخلوات جاءته أصوات الدراويش و الزهاد .. و من السجون سمع أصوات المجرمين و المظلومين .. و من الحانات سمع بوح السكارى .. و من عمق الليل استمع لآهات العشاق حين الفراق و حين الوصال .. التقط صوته وهو طفل يلهو فى مدخل العمارة مع أبناء الجيران و صوت أبيه يناديه ليصعد وصوت أمه تدعوه إلى الطعام .. ثم بدأت آذانه تلتقط أصواتا غريبة تنطق بلغات غريبة .. تعرف منها على الألمانية و الاسبانية و الانجليزية و أخرى لا يعرفها خمن أن منها السنسكريتية و الآرامية و السريانية .. أصوات شتى لسحرة فى جبال بعيدة و فرسان فى صحار نائية و جرحى يلفظون أنفاسهم الأخيرة و فقراء في أكواخ بالية .. أصوات تأتى مختلطة بصهيل جياد و صليل سيوف و خرير مياه و صرير رياح و عواء كلاب و أنغام لآلات لا يعرفها .. بمرور الأيام اتضحت الأصوات أكثر فأكثر و بدأ معتز يتلمس فيها معالم مكتملة لحكايات عجيبة , و فيما استعصت عليه كتابة مقاله الأسبوعي منذ فترة راح يكتب ما يسمعه من أحداث و قصص ..
انكب معتز عبد الهادي الصحفي المغمور ينسج مما يسمع رواية جنونية ينتظم تفاصيلها خيال عجيب .. بعد شهور قليلة خرجت روايته إلى النور عن طريق دار نشر صغيرة .. أحدثت دويا هائلا فى الوسط الأدبي ووصفها النقاد بأنها فتح جديد فى مسار الرواية العالمية .. تعددت الدراسات النقدية حولها .. و تتابعت عليه عروض العمل فى صحف كبيرة .. صار معتز وجها مألوفا فى البرامج الثقافية و الأدبية .. يبدو على الشاشة أنيقا مهندم الثياب و الأفكار لكنه ذهنه أحيانا كان يشرد فيفوته سؤال المذيعة الجميلة .. تكرر المذيعة سؤالها وهى تظن أن الأستاذ يفكر في إجابة مناسبة و لا تعلم أنه إنما يصيخ السمع إلى صوت جديد داهمه فجأة قد يكون فصلا في رواية جديدة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص مصري