“تمثيل الجسد في الرواية العربية” لـ عماد الورداني الذات والثقافة ـ نحو تشكيل الوعي والمصالحة مع الجسد

Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

     صدر عن دار “الفاصلة للنشر” بمدينة طنجة، بالمملكة المغربية سنة 2020 في طبعة أولى كتاب نقدي للدكتور عماد الورداني، بعنوان “تمثيل الجسد في الرواية العربية”، ويحتوي الكتاب على خمسمائة وسبع وأربعين صفحة متوسطة الحجم. والكتاب في الأصل عبارة عن أطروحة متميزة، مضبوطة، ودقيقة، وهو كتاب فريد في بابه، مثير في موضوعه الذي يهتم بعلاقة الجسد والرواية، وهو موضوع شحيح في مصادره، ومراجعه، ومظانه في عالم الثقافة العربية، ويظهر واضحا أن المؤلف بذل فيه مجهودا كبيرا، كما أنه زاوج فيه بين الجانب النظري والتطبيقي عبر مقاربة مجموعة من الروايات العربية، فكانت هذه الدراسة المفيدة، والإضافة النوعية للمكتبة العربية.

ويتشكل الكتاب من بابين:

الباب الأول: تنامي الجسد ووسائط تمثيله في الرواية العربية:

ويشتمل على:

الفصل الأول: تحديدات مفاهيمية:

     في هذا الفصل الأول سوف يعمل المؤلف على تذليل المفاهيم التي سيشيد بواسطتها موضوع كتابه، وتعتبر هذه الخطوة ضرورية، وذات حضور حيوي، حيث بدون ضبط المفاهيم لا يمكن أن يكون فهمنا لفصول الكتاب دقيقا.

     وقد وظف المؤلف في كتابه كثيرا من المفاهيم العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى توضيح تام محدد من أجل فهم دلالاتها فهما يقظا حتى لا تظل صعوبات الإدراك عائقا أمام عميلة التواصل التام مع الكتاب. والحال أن البحث لدى المؤلف في الكتاب يرتكز على مفهومين أساسيين اثنين هما: مفهوم التمثيل، ومفهوم الجسد.

مفهوم التمثيل ـ نحو مقاربة تأصيلية:

     على المستوى اللغوي المعجمي يشير المؤلف في بداية تعريفه لمفهوم التمثيل إلى أن لسان العرب اعتبر مادة ” مثل ” صورة عن شبه حاصل بين شيئين متفقين في الجنس، ” يقال: هذا مثله ( بكسر الميم وفتح اللام  ) ومثله ( بفتح الميم وفتح اللام ) كما يقال: شبهه ( بكسر الشين وسكون الباء وفتح الهاء ) وشبهه ( بفتح الشين والباء والهاء ) “. ولذلك تقوم المماثلة هنا على التطابق بين عنصرين دالين ينتميان إلى موضوع واحد.

     أما معجم روبير الذي قارب به المؤلف مفهوم التمثيل على المستوى اللغوي المعجمي فإنه يعتبر التمثيل ” فعل وضع شيء أمام نظر أو فكر شخص ما “، حيث يفترض التمثيل وجود وضعية تواصلية تنتج فيها الذات خطابا موجها للمتلقي، ويخاطب هذا المنجز التواصلي الحواس أو الفكر.     

     والملاحظ  لدينا هو أن تعريف لسان العرب لمفهوم التمثيل لغويا يبدو أكثر إجرائية، ووضوحا، بحيث ربط التمثيل بضرورة الاتحاد في الجنس، وبدون هذا الاتحاد لا يمكننا أن نتحدث عن وجود شبه بين شيئين، بمعنى أنه لا يمكن حصول تمثيل كيفما كان نوعه بين شيئين لا يجمع بينهما جامع، وهذا التماثل الذي يشير إليه لسان العرب هو في الحقيقة واحد من مكونات الثقافة العربية التي تعتبر من بين الثقافات التي تستسيغ إقامة التشابهات، وبناء التقاربات بين المواضيع، والذوات، والأشياء وذلك على المستوى الإبستمولوجي، ولذلك فإن إشارة المؤلف إلى المعنى الذي ورد في لسان العرب يعتبر دالا في هذا الشأن على أساس أن التقابلات بين الأشياء المتماثلة تسهم في تقليص كثير من الجهود التي يأنف البعض من بذلها في جميع المجالات.

     ودائما على المستوى اللغوي المعجمي فإن التعريف الوارد في معجم روبير يبرز مضاعفا في معناه بمقارنته مع تعريف لسان العرب، والأساس هو أن ” الشيء ” ما زال حاضرا كما سجل حضوره في لسان العرب، بمعنى أن الشيء هو المنطلق الأول لتسجيل الحضور بعد الغياب، ومعجم روبير أشار إلى وجود شخص أي ذات اعتبارية تتوفر على نظر وفكر، والدلالة التي يمكن أن نستقيها من هذه الصيغة إما أن نعتبر النظر والفكر مترادفين، وهنا نقول إن الشيء الذي نضعه أمام اهتمام الشخص يكون فهمه عن طريق توظيف النظر والفكر، بمعنى لا يحصل التمثيل إلا بعد جهد جهيد مبني على التأمل وإمعان التفكير للوصول إلى تحقيق مفهوم التمثيل، أو لكي يكون مفهوم التمثيل يتوفر على دلالة فعلية حقيقية يستفيد منها الشخص،  وفي هذا المقام فإننا نتحدث عن مجال واحد فقط دون غيره، وهو إدراك التمثيل عبر الشيء بواسطة النظر والتفكير.

     أو نعتبر أن النظر والفكر معطوفان على بعضهما البعض، وهنا سوف يتغير السياق، حيث سنصبح أمام لفظين مختلفين كل واحد منهما يحيل إلى حقل معين رغم انصهارهما في نفس الوظيفة، فالنظر في هذا المستوى عبارة عن معطى حسي، بمعنى أننا نضع الشيء أمام رؤية الشخص فيحصل له التمثيل بمثله أو شبيهه، وهنا يكون الإدراك مشبعا بأبعاد مادية محضة، فيسهل على الشخص تمثله واستدماج حدود معناه. أما الفكر فإن الإدراك عن طريقه يتطلب من الشخص بذل الجهد في استحضار تمثيل الشيء المطلوب منه تمثله، وهنا يكون الإدراك محفوفا بنوع من الصعوبة حيث يضطر الشخص إلى الغوص في غور مدركاته المضمرة لكي يستعيد حيوية تمثله، وهو ما عبر عنه المؤلف بقوله: ” إن نقل الغياب هو موضوع التمثيل، وينطبق هذا التعريف على المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي والقانوني. ص.26 “.

     أما على المستوى الاصطلاحي المعجمي فإن معنى التمثيل يتحدد في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفن. يثبت المؤلف تعريف التمثيل للمفكر جميل صليبا في معجمه الفلسفي في علم النفس، ص. 341، بقوله إنه: ” فعل ذهني به تحصل المعرفة، كالإدراك الحسي والتخيل، والحكم من جهة ما هي باعثة على حصول الشيء في النفس، وتسمى هذه الظواهر بالظواهر العقلية، وهي مقابلة للظواهر الانفعالية والفاعلة “. يبدو تعريف التمثيل داخل حقل السيكولوجيا مرتبطا بفعل إرادي يقصده الشخص عندما يقوم بتشغيل ذهنه حيث يستطيع بواسطة هذا التشغيل تحصيل معرفة محددة أو معينة يكون وعاؤها منصبا حول الذوات أو الموضوعات من خلال استحضارها عن طريق التمثيل، وهي غالبا تكون مخزنة في الذهن وتشغيلها يسهم في إضافة مثيلاتها من المعارف الأخرى لكي تتحقق فعالية تخزين المعطيات عبر الذهن، ويكون تشغيل الذهن لصيقا بإدراك المحسوسات المختلفة التي تشكل مصدرا من أهم مصادر المعرفة الإنسانية، وتصبح هذه الصور الحسية هي بدورها محركة لميكانيزمات المعرفة عن طريق تفعيل دور التخيل الذي يعتبر من أرقى العمليات التي يوظفها العقل البشري، وبذلك تتم الصيغة المثلى لتدخل العقل في التحكم والتصرف في الظواهر العقلية التي تتحكم في منطق التفكير.  

      في علم الاجتماع يستعير المؤلف تعريف ” دينيس جودولي ” الذي يفيد بأن: ” التمثيلات هي شكل معرفة اجتماعية تتطور وتتوزع، وهدفها إجراء تطبيقات تسهم في بناء حقيقة موحدة لمجموعة اجتماعية ما “. يظل دائما الحقل السوسيولوجي متميزا في تحديداته ومفاهيمه، ولذلك فإن التمثيل في مجاله يظل خاصا، ودقيقا، وأكثر عمقا.

     حيث إن التمثيلات هي عبارة عن معرفة، بمعنى أنها معرفة مشكلة مسبقا، ترتبط بإدراكات من الضروري أن تحيل على الحسي أو العقلي في مصادرها، وتعتبر هذه المعرفة المقدمة في صورة تمثيلات نتيجة تراكم المعارف وتكاثرها، وتوالدها في علاقتها بغيرها من الموضوعات والذوات، والأصل فيها أنها دائما تكون نتيجة لعلاقة أو حركية اجتماعية معينة.                                         

2ـ سيرورة مفهوم التمثيل: من التطابق إلى الاختلال:

     يشير المؤلف إلى التحول الذي يطرأ على المفهوم في حقل العلوم الإنسانية استنادا إلى تميزه بالمرونة والتكيف، وبذلك يصبح المفهوم حيويا عندما يؤسس لفهم جديد مناسب لطبيعة المرحلة التي استخدم فيها، وقد اعتمد المؤلف في تحليله على تشغيل مجموعة من المفاهيم لها علاقة مباشرة بمفهوم التمثيل، وهي محصورة في حقول الفلسفة، وسوسيولوجيا الأدب، والبنيوية، والسيميائيات، والسيميولوجيا، والدراسات الثقافية.

ـ التمثيل بوصفه محاكاة:

     قدم المؤلف مفهوم التمثيل باعتباره محاكاة. على أساس أن المحاكاة هي من المفاهيم المركزية في الفكر الإغريقي العريق، واعتمده الفلاسفة اليونانيون الكبار، أفلاطون، سقراط، وأرسطو.

     يرى المؤلف أن أفلاطون يربط المحاكاة بالاستنساخ والتطابق، ويعتبر أن الفن لا يحاكي المثل ولا يحاكي المحسوسات، لأن الفنان لا يقلد إلا المظاهر الخارجية. ويعتبر رأي أفلاطون هذا من الآراء التي تندرج ضمن المثالية الصرفة التي تطمح إلى توجيه الفن نحو خلق عالم إبداعي صرف تظل فيه المحاكاة مجرد هامش مساعد على نقل الحقيقة، وتصريفها. ويدل هذا على التشدد الذي سلكه أفلاطون في التعامل مع علم الجمال المبني على التمثيل الأصلي، الذي يرفض تمثيل الشيء بالشيء، بل يؤكد على قدرة الشيء على تمثيل ذاته وماهيته، بمعزل عن أنواع المحاكاة التي يعتبرها أفلاطون بعيدة عن الحقيقة الصرفة، وتظل مجرد تمثيل تقريبي لذات الشيء، دون أن تحيط بجوهره.            

     أما بالنسبة لأرسطو فقد قدم المؤلف تصوره المبني على اعتبار أن الفنون هي محاكاة للطبيعة، ويعتبر أرسطو أن المحاكاة قدرة داخلية رهينة بسياقاتها المعرفية وبالأنساق الفكرية المتحكمة فيها. واعتبر المؤلف أن محاكاة الطبيعة تتوزع إلى ثلاثة أقسام بحسب درجة تمثيلها لما تحاكيه:

ـ المحاكاة بوصفها تمثيلا مطابقا للطبيعة.

ـ المحاكاة بوصفها تمثيلا ناقصا للطبيعة.

ـ المحاكاة بوصفها تمثيلا مضاعفا للطبيعة.

     ويبدو لنا أن هذه الأقسام الثلاثة تتوزع حسب الاتجاهات الفلسفية، وحسب الرؤى الفكرية التي تعاملت مع الفن في حقيقته وماهيته. حيث عندما ننظر إلى الفن باعتباره ناقلا أمينا للطبيعة فإننا نصنفه ضمن صيغة المحاكاة التي تنتج تمثيلا مخلصا للطبيعة، لا تحيد عنه، ولا تتجاوز حدوده. ولما ننظر إلى الفن باعتباره صيغة ضعيفة، أو ربما مشوهة، أو ناقصة فإننا نكون على يقين تام بأن هذا النوع من الفن لا يمتلك عوامل تميزه حيث لم يستطع بتاتا أن ينقل تمثيلا ولو حتى مطابقا للطبيعة، بل فشل في فهم ذاته، كما أخفق في تمثل الطبيعة. وفي الحد الثالث عندما يتفوق الفن على الطبيعة نكون في تلك اللحظة أمام تحقق ماهية جمالية فنية تتجاوز حدود الحقيقة، وتضاهي الكمال في تجليه.

ـ التمثيل بوصفه انعكاسا:

     ثم قدم المؤلف التمثيل بوصفه انعكاسا، وبين بأن سوسيولوجيا الأدب قاربت الفن بوصفه انعكاسا لوعي المجتمع، ووضح المؤلف بأن جذور المفهوم تعود إلى الفلسفة المثالية الهيجيلية التي ترى بأن المادة ما هي إلا انعكاس لوعي الإنسان، ومن ثمة فالوعي في تشكيله عند هيجل أسبق على المادة.

     وقد عمل الماركسيون على تبني مفهوم الانعكاس في العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، واعتمد الماركسيون على المفهوم في مقاربة وتحليل سائر العلاقات السائدة في المجتمع، كما اعتمدوه في مقاربة الأدب، والقيم والأخلاق. وقد اعتمده جورج لوكاتش في بناء نظرية سوسيولوجيا الأدب، وحذا حذوه لوسيان غولدمان وباقي رواد البنيوية التكوينية الذين كان لهم ولع كبير بتحليل الأدب عن طريق اعتباره منتجا صرفا لما تعج به المجتمعات من صراعات، وتناقضات، وتدافع. ويظهر أن مفهوم الانعكاس منظورا إليه في صيغة تمثيل يسهم قبل كل شيء في تخصيب مفهوم التمثيل، وتوسيع دائرة حقول اهتمامه، واشتغاله.

ـ التمثيل بوصفه علامة:

     في المرتبة الثالثة قدم المؤلف التمثيل بوصفه علامة، ويشير إلى أن العلامة مفهوم مركزي في السيميائيات باتجاهاتها المختلفة، ويثبت تعريفا لها ورد لدى رائد العلامة الأمريكي تشارلز ساندرس بيرس يقول فيها: ” إن العلامة بما هي تمثيل لشيء مجرد تنبني وظيفتها في نقل الغياب، أي نقل شيء غير حاضر بواسطة مسك رمزي “. أما فرديناند دي سوسير فيشير المؤلف إلى تعريفه للعلامة في معرض تقديمه لمفهوم اللغة بكونها: ” نظاما من العلامات تستطيع التعبير عن الأفكار “.        

ـ التمثيل بوصفه تحريفا:                      

     إذا كانت المفاهيم التي قدمها المؤلف سابقا والتي هي عبارة عن وعاء ناقل، أو محرك، أو متلبس بمفهوم التمثيل توصف بأنها تحقق صيغة الانضباط والتطابق في التعامل مع مفهوم التمثيل وظلاله، فإن المقام الحالي يتعامل مع التمثيل ويصفه بكونه يتموضع ضمن مجال الاختلال. إن الاختلال الذي يطال مفهوم التمثيل في هذا السياق هو من الصيغ التي تدخل في باب التفكيك باعتباره مقدمة لإعادة بناء وترتيب المقدمات والبدهيات، وباعتباره تصورا جديدا في التعامل مع الفكر المتشابه، الجامد، ذي البعد الواحد.

     يشير المؤلف إلى ما أكدنا عليه أعلاه عندما يعتبر أن الدراسات الثقافية عملت على خلخلة المنظومة الفكرية، والفلسفية لخطاب الحداثة في تنويعاتها المختلفة، والمتمثلة في العلم، والحرية، والمعرفة، والموضوعية، والفرد، واستبدلتها بمفاهيم جديدة تمثلت في التعدد، والانفتاح، وتفكيك الكليات، وهدم المركزيات، وإسقاط المنظومات والتوازنات، والدعوة إلى الفوضى الخلاقة، والاهتمام بالغائب والهامشي واللامفكر فيه، ويؤكد المؤلف على أن هذه المعطيات ما زالت تثير جدلا واسعا لدى الأكاديميين بين منظري الحداثة، ومنظري ما بعد الحداثة.         

3ـ مفهوم الجسد: نحو مقاربة معجمية لغوية: 

     يسوق المؤلف تعريف ابن منظور للجسد في لسان العرب: ” الجسد جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسام المتغذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الله “، وفي المعجم الفرنسي فإن الجسد هو: ” الجزء المادي للكائنات الحية … والروح هي الجوهر المحرك للجسد، وغيابها يحول الجسد إلى جثة، فالجسد البشري بعد انفصاله عن الروح يصير جثة “.  

     ويظهر أن المعاجم كانت حاسمة في تحديد معنى الجسد، واعتبرت أن هذه التسمية هي خاصة بالإنسان، ولا يشترك معه في مفهوم الجسد أي كائن حي آخر، ويبدو أن الجمع بين صفتي التغذية والتعقل هو ما يضفي الجسدية على الإنسان، ويمنعها عن باقي المخلوقات، مادية كانت مجسدة، أو روحية متعالية. 

4ـ مفهوم الجسد وتمثيلاته: الأصول والامتدادات:

     تعاملت الفلسفة اليونانية مع جسد الإنسان في علاقته بالروح، ويستشهد المؤلف بمحاورة لسقراط مع فيدون موضوعها جسد الإنسان وعلاقته بالموت، يرد فيها: ” أيحدث أن يكون الموت غير انفصال الروح عن الجسد؟ هذا هو الموت: انفصال الجسد عن الروح، حيث يعود الجسد لذاته في ذاته، وتصير الروح منفصلة عن الروح هي ذاتها في ذاتها “.

     ونحن نتساءل لماذا لجأ فلاسفة اليونان لتحديد مفهوم الجسد بنقيضه؟ هل واجهوا عجزا واضحا في تعريف مفهوم الجسد؟ لماذا قدموا تعريفا للجسد وهو حي في صورة مفهومه وهو ميت فان؟ إن الذي يظهر هو أن فلاسفة اليونان آثروا مقاربة مفهوم الجسد بمآله، بحيث اعتبروا بأن الجسد متحول، ومتغير، بناء على مظهره وهو في حالة حياته، واعتبروا أن تحوله هذا سوف يكف ويتوقف عند مماته وفنائه، واعتبروا أن وجود الجسد في ذاته غير وارد بمعزل عن الروح، وتوصلوا إلى صيغة حاسمة تدل على أن تعريف مفهوم الجسد غير ممكن بتاتا، لأنه غير مستقل بذاته، ولا يقوم بذاته، فهو رهين وجود الروح، وتظل الروح حاضنة للجسد في إضفاء الماهية عليه، ويظل الجسد لصيقا بالروح وهو يستمد توازنه منها، ولا يصبح الجسد لديهم جسدا يستحق هذه التسمية جديرا بحملها إلا عند انفصال الروح عن الجسد، عند الانفصال بين الحدين يتحقق وجود كل منهما، لا يمكن أن نسمي الجسد جسدا إلا عند انفصال الروح عنه، إن وجود الشيء في ذاته هو الذي يضفي عليه طابع الوجود، وهو ما يتعين تحققه في الروح والجسد معا، بحيث إن اجتماعهما هو استعارة جميلة مضيئة ساطعة، وانفصالهما هو تحقق لماهية كل منهما، بالضبط عندما يغوص الجسد في مصير مآله، وهناك حيث تسعى الروح                  لكي تحقق طفرتها بانفصالها عن روحها في ذاتها.

     يشير المؤلف إلى أن السوسيولوجيا تتعامل مع الجسد بوصفه ظاهرة اجتماعية وثقافية، وبذلك فإن الجسد منتج اجتماعي يتأثر بالمحيط من حيث تكونه وصورته الخارجية، وطباعه، كما يتحول إلى رمز ثقافي حينما يتمكن من استرفاد خصوصية الثقافة التي ينتمي إليها، ويستطيع التعبير عنها بوصفه جزءا منها.

     ويظهر لنا هنا أن الجسد السوسيولوجي هو الذي يستطيع التماهي مع محيطه الاجتماعي، وبيئته النوعية، فهو يكون في وضع وجودي أكيد عندما يقوم بتمثيل تطلعات وطموحات المجتمع الذي ينتمي إليه، ويظل هذا الجسد مثقلا بأعباء المجال الذي يتحرك فيه، ويكتسب صورته الواقعية الفعلية عندما ينتج أنشطته استنادا إلى الصور العامة التي يبديها المجتمع، ويقدمها للجميع، ويسجل رضاه التام عنها. كما أن الجسد يصبح ضمن هذا الحقل أيقونة رمزية تعكس كل ما يضمره المجتمع من أعراف، وتقاليد، وثقافة.    

5ـ الجسد الروائي وإشكال التمثيل:

     نلاحظ في هذا الإطار أن الجسد يتحرك وينشط في مقابل تدافعه مع مفهوم التمثيل، ويبدو هذا واضحا من خلال تحقق صيغة إشكالية للجسد مع التمثيل، حيث يظل الجسد محكوما بالتمثيلات السائدة التي تسهم في تنميطه، وضبطه، وتحديده. ويجد الجسد نفسه طيعا، لينا في مسألة التعامل مع هذه التمثيلات، ولذلك فهو يصل إلى مرحلة من الجبر يكتشف فيها صعوبة الخروج من طوع، وسياج التمثيلات العامة التي تصدر عنها جميع الأجساد ضمن مجتمع معين، وثقافة معينة.

     ونجد المؤلف يؤكد في كتابه على أن الجسد الروائي يتجاوز الجسد الممثل ( بفتح الثاء وتشديدها ) في الواقع، ويكمن هذا التجاوز أساسا في قدرة الرواية على تمثيل الجسد بما هو موضوع خارجي، ولذلك يؤكد المؤلف على أن بحثه في كتابه يسعى إلى فتح أفق الجسد عبر الربط بينه بما هو موضوع خارجي قابل للتحديد، وبين الجسد بما هو وعي متجسد.   

الفصل الثاني: الجسد والرواية العربية:

     ينبه المؤلف في هذا الفصل الثاني إلى سعيه نحو تقسيم الرواية العربية إلى حقب ثلاث، حيث تمثل كل حقبة تيارا أدبيا معينا: الرواية الرومانسية، والرواية الواقعية، والرواية الجديدة. واعتبرها المؤلف تيارات شاملة تستوعب طبيعة الأنواع المشكلة لجنس الرواية دون الفصل بين الحقب بسبب التداخل بينها، ويقترح للتحليل والدراسة الروايات الآتية:

ـ ” عودة الروح ” ـ توفيق الحكيم.

ـ ” إبراهيم الكاتب ” ـ إبراهيم عبد القادر المازني.

ـ ” بداية ونهاية ” ـ نجيب محفوظ.

ـ ” موسم الهجرة إلى الشمال ” ـ الطيب صالح.

ـ ” دنيا ” ـ علوية صبح.

ـ ” جسد ومدينة ” ـ زهور كرام.      

1ـ الرواية الرومانسية والتغليف الرمزي للجسد:

     تمثيل الجسد في الرواية الرومانسية حسب المؤلف يمر عن طريق قناة الرمز، ويستعير الكاتب تعريف بول ريكور لمفهوم الرمز باعتباره: ” بنية دالة يشير فيها المعنى المباشر، والأولي، والحرفي، فضلا عن نفسه إلى معنى آخر غير مباشر، وثانوي، ومجازي، ولا يمكن أن يفهم إلا من خلال المعنى الأول “.

     ونحن نفهم أن تمرير الجسد في الرواية الرومانسية يتم عن طريق استحضاره بواسطة الرمز باعتباره علامة استيطيقية، وباعتباره حضورا فنيا متواريا، حفاظا على فاعليته وتوازنه، وتماشيا مع الحقبة المرتبطة بأطر ثقافية خاصة تحرص على تمنيع الجسد، وتحنيطه، وتسهم في تشتيت آثاره العينية، وتبديدها.

     ويتمظهر الوجود الرمزي للجسد في الرواية العربية الرومانسية عبر بعض الآليات التي تمتلك جدارة تمثيله واستحضاره. يشير المؤلف إلى ما ذكرناه عندما يؤكد على أن إحدى الخصوصيات التي تميز الرواية الرومانسية ومنها رواية ” عودة الروح ” لتوفيق الحكيم هي أنها رواية جنينية، أخضعت الأحداث لترتيب زمني يقوم على البناء التقليدي ( مقدمة ـ عقدة ـ حل ). وقد ساعد هذا يوضح الكاتب البناء الخطي على تمثيل الجسد وفق منظور الشخصية، أي إن الجسد لا يتخذ بعده الموضوعي إلا في التمثلات الذهنية للشخصية، أو في علاقته بالانفعالات والعواطف، أو عبر الذاكرة.

     ويعتمد المؤلف رواية ” إبراهيم الكاتب ” لإبراهيم عبد القادر المازني أساسا لتوضيح تمثيل الجسد بالتصريح، ويبين بأن هذه الرواية تطرح وضعا إشكاليا يتحدد في تداخل المرجعي بالتخييلي في أحداثها، وقد ركزت الرواية في تمثيلاتها على جسد الأنثى عبر سعي السارد لتمثيل الأنثى في تعددها إلى تجسيد الجسد المثال، وتخليصه من مرجعيته بوصفه جسدا ماديا.          

2ـ الرواية الواقعية والجسد المنعكس:

     يعتبر الكاتب أن الرواية العربية الواقعية عمدت إلى التخلص بنسب متفاوتة من انغلاق الذات على ذاتيتها، وتخففت من حدة الانفعالات والعواطف، وانفتحت على الخارج بإشكالاته وتحولاته، وعملت على تمثيل الواقع تمثيلا موضوعيا. ويورد في هذا السياق تعريفا لفيصل دراج يصنف فيه الواقعية بكونها عبارة عن: ” تصور مادي للعالم، يقبل بمادية الواقع ويرفض الحقائق المتعالية، يتعامل مع ما هو تاريخي ويترك العارض “.

     اختار المؤلف رواية ” بداية ونهاية ” لنجيب محفوظ لتوضيح واقعية الجسد الخالصة، كونه يستمد كفايته الجسدية من الوضعية الاجتماعية للشخصيات. كما اختار رواية ” موسم الهجرة إلى الشمال ” للطيب صالح لكي يوضح تمثيل الجسد بوصفه انعكاسا لوضعية نفسية. حيث يعتبر المؤلف نظرة مصطفى سعيد للمسافة القائمة بينه وبين مسز روبنسن مغرقة في استحضار بعد سيكولوجي مبني على نظرة مثقلة بالمرجع الشرقي الذي يختزل الأنثى الغربية في استيهامات جنسية شبقية بوصفها تمثل تمثلا ذهنيا أفرزته المستعمرة إبان اصطدامها مع المختلف، والمغاير لمرجعها.        

3ـ الرواية العربية الجديدة وتمزيق الرمز:

     سوف يتطور الأمر مع الرواية العربية الجديدة التي ولجت عالما جديدا، وفكرا حديثا، فأصبحت تسقط الأغلال، وتلقي بالقيود تباعا، واقتحمت الجسد، وبدأت تلج عوالم روائية جديدة، وتقدمها بنفس سلس مبني على حرية التناول، وراحة تامة في اختيار المواضيع، مع التركيز جديا على مجال التخييل الذي يسهم بقسط وافر في خلق المتعة، والفنية، والجمالية.    

     وهو ما يذهب إليه الكاتب، حيث يرى بأن الرواية العربية الجديدة عملت على تمزيق الرمز، ولجأت إلى الاهتمام المباشر بتفاصيل الجسد، وهكذا سعت الرواية الجديدة إلى التحرر من الخطابات المسبقة الأخلاقية منها، والفكرية، واستهدف التمثيل الروائي أجزاء الجسد المسكوت عنها عن طريق سعي المرأة الكاتبة إلى تعرية الجسد الذكوري والأنثوي، فقد تحررت يضيف الكاتب الأنثى من التمثيلات الجاهزة التي تحيل إلى الضعف، وصارت تكشف عن تمثيلات الذكر في قوتها وضعفها.

     وظف الكاتب رواية ” دنيا ” للروائية اللبنانية علوية صبح لتوضيح أهمية الخبرة الجسدية والتحول المفضي إلى التطابق، وبعد تحليل معمق للرواية استنتج أن الخبرة الجسدية قامت على تعميق المسافة بين جسدية الشخصية الروائية مالك، وجسدية الشخصية الروائية دنيا، وفي الوقت نفسه قامت على إحداث التطابق، أي تعميق المسافة بين الجسدين وتقريبها على مستوى الموقف الوجداني.

     كما وظف رواية ” جسد ومدينة ” للروائية المغربية زهور كرام لتوضيح أهمية الخبرة الجسدية والتحول المفضي إلى الاختلال، وخلص إلى أن اختلال الخبرة الجسدية وتعرضها للصدمة نهض على الانتقال من الدهشة القائمة على الغضب والخجل إلى السؤال بما هو تخطيط مسبق لفعل مادي يتجه إلى جسد الآخر بغية استعادة الكمال، فالجسد الخاص انتقل من وضع البحث عن الاكتمال إلى وضع تعميق النقص.        

الفصل الثالث: وسائط تمثيل الجسد:

     تمثيل الجسد بواسطة الرواية أمر بالغ الأهمية، وله فاعلية تتجاوز فاعليته في الواقع العيني، حيث إن مجال الرواية بوصفه عالما تخييليا إبداعيا يمنح للروائي المبدع كامل الحرية من أجل تفريغ طاقته في الإبداع والتشكيل، بصيغة مبنية على قواعد مخصوصة، ويستطيع الروائي المميز أن يتعامل مع موضوع تمثيل الجسد بالأسلوب المنسجم مع شخصياته، وطبيعة روايته، ووتيرة سرده انطلاقا من استحضار الجسد، واستثمار توهجه، وتمرير امتداداته عن طريق وسائط تعمل على تسهيل تشغيل تمظهرات الجسد في الرواية العربية.

     ويذهب الكاتب هذا المذهب عندما يعتبر الوسيط أداة من خلالها تستحوذ الذات على موضوعها عبر نقله من الغياب إلى الحضور، أو من الحضور إلى الغياب، ونقله من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل إلى الخارج، ونقله من التمثيل إلى التمثل، أو من التمثل إلى التمثيل.   

1ـ تمثيل الجسد بواسطة اللغة:

     يعد المؤلف اللغة وسيطا تمثيليا بين الذات والموضوع، وبين المحايث والمتعالي، وبين التمثلات والتمثيلات، ذلك أن اللغة التي ينتجها الفرد لا تحمل وعيه الفردي تجاه الأشياء فقط، وإنما تعبر عما هو موجود بطرائقها الخاصة، والرواية هي شكل من أشكال الوساطة بين الذات بما هي ذات فردية وبين العالم بما هو لا متناه، أي أن الرواية تسعى إلى ضبط حدود اللامتناهي بالمتناهي، وهو ما يجعل تمثيلها للعالم ينبني على النقص. ولما كانت الرواية نسقا لغويا للعالم، فإن هذا النسق يتمثل في صيغتين هما:

ـ الصيغة التعيينية: وتعني تأويل ما هو موجود في صيغته الدنيا، أي جعل اللغة قادرة على تمثيل نقص العالم في أحاديته.

ـ الصيغة الاحتمالية: وتعني التأويل المضاعف لما هو موجود في صيغته العليا، أي جعل اللغة قادرة على تمثيل نقص العالم في تعدده. 

2ـ تمثيل الجسد بواسطة الذاكرة:

     تعتبر الذاكرة واحدة من أهم أوعية التوثيق لدى الإنسان، كما تعتبر طاقة خلاقة في تدوين المنفلت والهارب، وهي بهذه الصورة تمتلك كامل القدرة على تمثيل الجسد، واستحضار حقيقته عبر صور كلية أو فرعية، حيث تستطيع الذاكرة أن تسترجع الجسد من زمنه المادي وتعمل على إدراجه ضمن عالم الرواية عن طريق تصريف خصائصه ومعطياته بالصيغة التي تنسجم مع الرؤية الإبداعية المعتمدة في الرواية المستهدفة.

     ويرصد المؤلف تشكل تمثيل الجسد بواسطة الذاكرة في الرواية العربية عبر مجموعة من الطرائق التي يمكن تحديدها في الآتي:

ـ الاسترجاع بوصفه حاجة.

ـ التلقائية والتحرر من الوعي.

ـ الوعي القصدي.

ـ التركيب الأيقوني ( من الصور إلى اللغة ).

     وقد اعتمد الكاتب رواية ” حيوات متجاورة ” للروائي المغربي محمد برادة لكي يقف على مفهوم تمثيل الجسد بواسطة الذاكرة عندما بين كيف أن الانغماس في اللذة والبحث عن الامتلاء قاد نعيمة وهي شخصية في الرواية إلى إعادة تقييم جسديتها وفق مستجدات التقدم في السن. ويؤكد الكاتب أنه على هذا النحو تقوم الذاكرة بتمثيل هواجس نعيمة تجاه جسدها وهو يتراجع من حيث معماريته…               

3ـ تمثيل الجسد بواسطة الحواس:

     يشير المؤلف في هذا الإطار إلى أن الرواية العربية استثمرت الحواس بوصفها وسائل إدراكية للعالم، وفي الوقت نفسه وسائط تمثيلية له. ويضيف الكاتب بأن الحواس قامت بنقل الجسد بوصفه أحد موضوعات العالم من الغياب إلى الحضور. وعمل المؤلف على بسط الحديث عن عملية تمثيل الجسد بواسطة الحواس عن طريق استثمار المباحث الآتية:

ـ تمثيل الجسد بواسطة الرائحة.

ـ الرائحة وتمثيل ألم الجسد.

ـ الرائحة وتمثيل سعادة الجسد.

ـ تمثيل الجسد بواسطة العين.

ـ المرئي والجسد التاريخي.

ـ المرئي والجسد الأخلاقي.

ـ المرئي والجسد الوجودي.      

الباب الثاني: مرجعيات تمثيل الجسد في الرواية العربية:

     يقف المؤلف على المرجعيات البانية للنص الروائي ويعتبرها خطابا ينتقل من مستوى الحضور في العالم إلى مستوى الاستحضار، أي عبر نقلها من الحضور إلى الغياب، وتتحول من ممارسات تمتلك حضورا عينيا متحققا في العالم إلى ممارسات جمالية تترجمها جسدية الأفعال، وقد اعتمد المؤلف في هذا المجال المرجعيات الآتية:

ـ التمثيل السياسي للجسد.

ـ التمثيل الثقافي للجسد.

ـ التمثيل التاريخي للجسد.

     نستنتج أن مرجعيات تمثيل الجسد في الرواية العربية ترتبط بكل وضوح بالموضوعات الأثيرة التي تعتمدها الرواية العربية كمواضيع لإبداعها، ويبدو هذا واضحا من خلال تصفحنا لعناوين الروايات التي صدرت في العالم العربي، فنحن نكاد نجزم بأن هذه المرجعيات أعلاه تتحكم في توجيه ضمير الرواية العربية، وتعمل على رهن مستقبلها استنادا إلى أن الموضوع له دلالات ثاوية في عمق الثابت الإبستمي الذي يحكم الثقافة العربية، والتي تدل خصائصها بجميع امتداداتها على تحقق مفهوم التشابه والتماثل الذي يسود البعد القطري للأمة العربية، ويصل تأثيره الثقافي الكاسح لهيكل الرواية، وتوجهاتها، ومواضيعها، ومضامينها، وخطاباتها… 

ويشتمل الباب على:  

الفصل الأول: التمثيل السياسي للجسد:

     إذا قمنا باستعارة مفهوم الوفرة باعتباره مفهوما سوسيولوجيا ونقلناه إلى حقل الرواية فإننا نقف على الروايات الكثيرة التي استساغت استثمار الصراع السياسي في الكتابة الروائية، ونحن نقول الصراع السياسي لأن كتابة الرواية عن السياسة لا تستقيم بالتوافق السياسي بل لا تستقيم إلا بالصراع والتدافع، بمعنى أن التجاوز السياسي، والتطاول الفكري الإديولوجي هما اللذان أتاحا المجال واسعا وخصبا لإبداع الرواية السياسية، ومن ثمة امتد الأمر لاقتحام الجسد عن طريق الاعتقال، والتعذيب، والإيلام، فاقتضى الموضوع التعامل مع التمثيل السياسي للجسد.

     ويذهب المؤلف هذا المذهب عندما يوضح بأن العلاقة القائمة بين الجسد والسياسة علاقة تبادلية، ذلك أن الجسد الطبيعي يمرر مرجعيته السياسية إلى جسد آخر بغية مشاركته هذه المرجعية، وينتج عن ذلك إخضاع الجماعة للمرجعية السياسية السائدة عبر ممارسة السلطة، وفي الوقت نفسه ينتج عن ممارسة السلطة تقابل المرجعيات مما يؤدي إلى مقاومة المرجعية السائدة، فتغدو السياسة حسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: ” حربا بوسائل مختلفة “، من أدواتها الاختطاف، والاعتقال، والتمرد، والمقاومة، وهي أدوات تتحقق بالجسد، وتمرر بواسطته كما تتخذه ميدانا لها.          

1ـ الجسد السياسي والاعتقال:

     يذهب المؤلف إلى أن العلاقة بين الجسد السياسي والاعتقال هي علاقة تصادم بين الإخضاع والمقاومة … وعبر المسافة القائمة بين الجسد السياسي العام المتحول إلى جلاد، وبين الجسد السياسي الخاص المتحول إلى ضحية، يتم تمرير القوة بما هي تعذيب يروم خلق الألم في جسدية الضحية بغية إخضاعه، وإرغامه على تبني المرجعية السائدة.

     نرى أنه في كثير من الحالات تحولت العلاقة بين الجسد السياسي والاعتقال إلى علاقة تماهي، بل تجاوزت أحيانا التماهي إلى الارتماء في حضن السلطة التي بقدر ما تكشر عن أنيابها بقدر ما تترك ذراعيها مشرعتين على الممكن والمحتمل، والنتيجة تظل دائما في اتجاه واحد لا تحيد عنه أبدا، إذ مهما قاوم الجسد السياسي فإنه في آخر المطاف يذوب في منظومة الاعتقال بصيغة أو بأخرى، إنه بعبارة أخرى يضطر في آخر المطاف إلى الاصطفاف، اختياره هذا يعفيه من الدخول في متاهة البحث عن ملاذات مفقودة.

     يوظف المؤلف لتوضيح الموضوع رواية ” معذبتي “، للروائي المغربي بنسالم حميش، ومن خلالها يركز على الشخصية الروائية المحورية حمودة الذي يتأسس حضوره على ثلاث دوائر: دائرة الاختطاف، ودائرة الاعتقال، ودائرة التحرر. وتقدم الدوائر الثلاث مادتها في قالب استرجاعي، حيث يقوم السارد بتدوين تفاصيل الدوائر بهدف التخلص من ثقلها، ذلك أن دائرة حمودة تختزن الألم ومعاناة الجسد الخاص، وهو يواجه أصنافا من التعذيب الجسدي والنفسي بسبب الاشتباه في انتمائه إلى إحدى الخلايا المتطرفة.             

2ـ الجسد السياسي والحرية: 

      لهذا العنوان عمل المؤلف على تحليل وتتبع رواية ” الطلياني ” للروائي التونسي شكري المبخوت، ووضح بأن رفض جسدية عبد الناصر ومقاومتها تشكل بما هو تمرد على المنظومة الاجتماعية التي تجعل الأنثى تابعة للذكر. وتمرد زينة على عبد الناصر هو ثورة على الذكورة بما هي رمز للاغتصاب، وقد تمثل التمرد على الذكورة بما هي مسافة عامة في رفض جسدية الأستاذ الجامعي وتعنيفه، ذلك أن الأستاذ تحول إلى رمز ذكوري يمارس سلطته الذكورية عبر التحرش بجسدية زينة. ولما كانت زينة موجهة تجاه الذكورة بنقصها، فقد عبرت عن تمردها بصفعه، ويمثل فعل الصفع انتقاما من الأستاذ بما هو رمز للذكورة المغتصبة ( بكسر الصاد ) وقد نتج عن هذا الفعل أن قام الأستاذ بترسيبها، وهو الفعل الذي تسبب في انهيار زينة، حيث دفعها إلى الهرب نحو الخارج بحثا عن حياة جديدة خالية من النقص، نتج عنه فراق عبد الناصر.    

الفصل الثاني: التمثيل الثقافي للجسد:

     نرى بأن التمثيل الثقافي للجسد واحد من المواضيع الهامة التي تعتبر ذات حسم شديد فيما يتعلق بالتعامل مع الجسد وتصور أوضاعه، واستحضار تجلياته، بحيث إن الاختلاف الثقافي أسهم بقسط وافر في بناء تصورات خاصة، وتمثيلات نوعية في مقاربة الجسد. ثم هذا التفاوت الكبير في التعامل مع مقاربة النوع في تمثيل الجسد، بحيث لا تختلف الثقافات في هذا الباب فقط، بل تصل حد التنافر، إذ في الوقت الذي تعمل فيه بعض الثقافات على التعامل مع تمثيلات الجسد دون الوقوف على التمييز بين جسد الذكر وبين جسد الأنثى، نجد ثقافات أخرى مقابلة تجعل مجرد التعامل مع تمثيلات الجسد سببا وجيها لحدوث جرح أخلاقي، وسقوط قيمي، أما إذا اعتبرنا أن تمثيلات الجسد هنا تخص جسد الأنثى فإن الإيلام يتضاعف، والتقريع يتصاعد. ولهذا كان لزاما أثناء التعامل مع تمثيلات الجسد أن نكون على بينة تامة من نوعية الثقافة التي ننطلق من مكوناتها.        

     ويذهب المؤلف إلى أن مفهوم الثقافة يطال نظرة الذات تجاه الآخر، بما هي نظرة تنطلق من تمثلات جاهزة تسعى إلى ضبط هذا الآخر ودمجه ضمن سلسلة من الأحكام القبلية الجاهزة، حيث تطال هذه النظرة كينونة الآخر وجسديته. ولما كانت الثقافة نظرة تنطلق من موقع محدد فإن حضورها ينبني على الثنائيات من قبيل الذات / الموضوع، القوة / الضعف، الأعلى / الأدنى، الأبيض / الأسود، الذكر / الأنثى، ذلك أن حقل الرؤية هو ميدان لتصريف النظرة بين هذه الثنائيات عبر تكريس وتوريث صورة السيد والعبد القائمة على الأمر والاستجابة.    

1ـ الجسد الثقافي وتمثل العرق:

     نحن نعتبر أن تمثل العرق عبر الجسد الثقافي مفهوم ساد منذ زمن طويل في سائر الثقافات الإنسانية، وقد أسهمت الحمولة الإيديولوجية كثيرا في التمييز بين الأعراق على مستوى الثقافة، والأمر ينسحب أساسا على التمثلات الحاصلة انطلاقا من التركيز على الجسد في تميزه وفرادته، إذ إن النظرة إلى الجسد تتحدد انطلاقا من الإدراك، فكلما اكتشف الجسد الموجه نحو جسد آخر بروز بعض الاختلافات على مستوى الشكل، وعلى مستوى اللون، وعلى مستوى الانتماء، كلما تمت عملية التصنيف المرتبطة بالتفوق، والتعالي، والسيطرة.

     يؤكد المؤلف أن النظرة العرقية تنطلق من اختلاف بيولوجي، وعبر هذا الاختلاف تتأسس جملة من المواضعات التي تروم الحفاظ على القوة، بينما تجبر الآخر أن يتبنى التمثلات المنجزة حتى يتم استيعابه داخل الثقافة المكرسة. ومن ثمة يتحقق الجسد في العالم وهو منضبط لقوة التمثيلات الجاهزة، نظرا لتحوله إلى إحالة دائمة ومستمرة غير منفصلة عن عرقه ولونه، حيث نظر الجسد الأبيض إلى الجسد الأسود من موقع قوته.       

2ـ الجسد الثقافي وتمثل النوع:

     يسجل المؤلف في هذا الصدد أن سعي الثقافة إلى تحديد الأدوار الاجتماعية بناء على مقولة النوع، نتج عنه تشييد بناء رمزي تجاه الجسد، فكل نظرة تطال الجسد المعروض تنطلق من موقعها الثقافي الخاص بما هي ذكر أو أنثى. وعبر الانتماء إلى النوع يتم شحن النظرة إلى الجسد المعروض بتمثيلات ثقافية منجزة تمرر الهيمنة، وفي الوقت نفسه تفرز الهيمنة مقولتي المقاومة والخضوع. على هذا النحو يتحقق التمثيل الثقافي للجسد وهو مثقل بتمثلات جاهزة تضع النوع الممثل ( بضم الميم الأولى وفتح الثاء ) في العالم ضمن قوالب منجزة وصارمة، وعبر هذه القوالب الناظمة لحقل الرؤية تبني الذات الرائية والمرئية حدودها لجسديتها وجسدية الآخر.

الفصل الثالث: التمثيل التاريخي للجسد:

     يبدو لنا أنه من وجهة نظر فينومينولوجية بحتة فإن الوعي الذاتي لا يتحقق كليا إلى عبر الآخر، إذ إن الوعي الفردي لا ينصهر في عمق التجربة الإنسانية إلا انطلاقا من انغماسه بصورة تامة ضمن الوعي الجماعي، تشكيل الوعي تجربة حياتية حاسمة في رسم ملامح وحدود الشخصية الإنسانية، وتحديد علاماتها التي سوف تنخرط في المشروع الاجتماعي الذي غالبا ما يكون ممتلكا للثقافة المهيمنة التي تتحكم في آليات الوعي، وتسهم في إنضاج إمكاناته الحقيقية الفعلية، والممكنة، والمحتملة. وضمن هذا السياق ننظر إلى التمثيل التاريخي للجسد، لأن للمسار التاريخي تأثير بالغ في تشكيل نسيج الوعي الفردي، والوعي الجماعي، بحيث إن الوجود التاريخي للوعي الإنساني هو الذي يضفي القيمة الإنسانية على الفرد، على الإنسان أن يعترف بوجوده التاريخي لكي يبرر تجربته الحياتية، ولكي يستطيع أن يقنع ذاته أولا، ويقنع غيره ثانيا بأن وجوده فعلي متمظهر في إطار الوجود، ومحدد بشروط الموجود الذي يستند في حضوره على البعد التاريخي. ويعتبر حضور الصيغ أعلاه ضروريا في إضفاء صفة الوجود على الجسد الذي يتحول هنا إلى جسد تاريخي، حيث تعتبر أنطولوجيا الجسد عبر التاريخ فارقة في صورها وصيغها، إذ الأمر يحتاج إلى تنقيب معمق، وتحقيب منظم للوقوف على الحضور التاريخي للجسد في الثقافة العربية، وقد كان للرواية نصيب كبير في تقديم عدة تجارب إبداعية أسهمت إلى حد معين في تقديم بعض المعطيات عن موضوع التمثيل التاريخي للجسد.

     وقد عمد المؤلف إلى رصد التمثيل التاريخي للجسد في صيغتيه الفردية والجماعية، وذلك من خلال ضبط ترددات هذه الثنائية في رواية ” خاتون بغداد ” لشاكر نوري، ورواية المبدع ناصر عراق ” الأزبكية “.               

1ـ الجسد التاريخي وتمثيل الفردي:

     يشير الكاتب إلى أن رواية ” خاتون بغداد ” ترصد صيرورتين تنتهيان إلى مآلين مختلفين. ترتبط الصيرورة الأولى بسقوط بغداد في يد الانتداب البريطاني، وتنتهي بموت غيرترود بيل. بينما ترتبط الصيرورة الثانية بالاحتلال الأمريكي لبغداد وتنتهي بكتابة أجزاء من سيناريو يرصد حياة غيرترود بيل. وتتوزع كل صيرورة إلى تواريخ لها إحالة مرجعية تتصل بحدث تاريخي بارز.

     يؤكد المؤلف على أن الرواية لا تنبني على ترتيب الأحداث وفق تسلسلها التاريخي، وإنما تبنى وفق ترتيب خاص يقوم على التقديم والتأخير والاسترجاع والاستباق، بما يخدم بنية الرواية ومآلها، حيث تتساند الصيرورتان لتقدما منظورين تجاه التاريخ الفردي لغيرترود بيل: ينطلق المنظور الأول من جسدية مس بيل بما هي صيرورة تجسدت من خلال ثلاث مراحل، وهي: الهيمنة والمقاومة والتلاشي. وينطلق المنظور الثاني من جسدية مس بيل بما هي جسدية معروضة في العالم. ويتحقق حضورها من خلال تمثيلين: أولهما تمثيل انحيازي، وثانيهما تمثيل تبخيسي.   

2ـ الجسد التاريخي وتمثيل الجماعي:

     يلجأ المؤلف إلى توصيف الجسد الجماعي من خلال النظر إليه بوصفه جسدا ذهنيا، لأن حضوره يتحدد بما هو موضوع غائب، وينتقل من الغياب إلى الحضور عبر التمثيلات، فهو جسد لا صلة له بالأشخاص من حيث تعينه في العالم، بقدر ما يشكل خلفية جماعية لأنه جسد ثقافي خضع لصيرورة من التحولات والانتقالات أفضت لصيغة مشتركة حددت شروط وجود هذا الجسد الجماعي، دون أن تعني هذه الصيغة توقفها في نموذج ثابت وقار، وإنما هي قابلة للتغير بناء على طبيعة التحولات التي يعيشها مجتمع ما.

     من خلال تحليل رواية ” الأزبكية ” لناصر عراق من أجل الوقوف على مفهوم الجسد التاريخي بما هو جسد جماعي توصل المؤلف إلى أن المنظور الاستشراقي استند إلى تمثيلات منجزة استهدفت إرغام الجسد على تبنيها، وهي تمثيلات انقسمت إلى قسمين:

ـ قسم التمثيلات التبخيسية، وقد انطلقت من مبدأ الهيمنة الذي يروم إخضاع الجسد الجماعي، عبر تمثيله في نقصه، وهو نقص شمل الجسد من حيث هو حضور اجتماعي وثقافي واقتصادي وديني ونفسي، فالجسد الجماعي صار مرادفا لصفات الجهل والتخلف والمرض… وقد وظفت هذه التمثيلات بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى بهدف إقناع الجسد الجماعي بالخضوع والانصياع لقرارات المؤسسة الاستعمارية.

ـ قسم التمثيلات الانحيازية، التي نهضت على التعاطف مع الجسد الجماعي عبر الانتصار له وإبراز جوانب قوته، وفي الوقت نفسه توجهت هذه التمثيلات الانحيازية إلى نفي التمثيلات التبخيسية، وتقويضها، وكشف رؤيتها الاستعمارية.

     أقول: إن كتاب ” تمثيل الجسد في الرواية العربية “، إنجاز نقدي وإبداعي يستحق كل التقدير، ويدعو إلى الاهتمام بزوايا الجسد الإنساني التي اشتغلت عليها الرواية العربية، وقد اعتمد المؤلف في عرض مواد كتابه الثمين على رؤية تاريخية تطورية، ومنهج تتبعي دقيق، من أجل الوصول إلى بناء تصور علمي مبني ومضبوط حول تمثيل الجسد، ولا يجب أن ننسى بأن الرواية عبارة عن وعاء زاخر بمختلف المتغيرات الثقافية والاجتماعية والفكرية والتاريخية … لها كامل الجدارة في رسم معالم صورة أو صور كافية عن تطور التعامل مع الجسد الإنساني، وكذلك لها كامل الصلاحية في تقديم ملامح كافية عن تحرر الجسد الإنساني في الرواية العربية. ومن الرواية إلى الواقع، أو من الغياب إلى الحضور استطاع الباحث الدكتور ” عماد الورداني ” أن يسجل توفقه في الوصول إلى مشروع تحقيق مصالحة الثقافة العربية مع الجسد … مع جسدها هي دون غيرها.

 

                                                  

مقالات من نفس القسم