اللغة فضاء القصيدة: نوستالجيا هبة عصام … ھمس ھادر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام وهبان

لا تترك لنا ھبة عصام رفاھية الاسترخاء لدخول عالمھا، إنها تأخذك إليه مباشرة بمجرد أن تقرأ العنوان : ( نوستالجيا)

ويستخدم مصطلح نوستالجيا لوصف الحنين إلي الماضي، حيث يرجع أصل الكلمة إلي اللغة اليونانية، وهي تشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة إلى بيته، وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد. وتوصف النوستالجيا بأنھا حالة مرضية، أو شكل من إشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا أھمية بالغة في فترة الرومانتيكية. 

يمكننا القول إذن أن عنوان القصيدة قد هيأ روح القارئ لبكائية الحنين للماضي، وھي أبرز أغراض الشعر العربي منذ بكى امرؤ القيس أطلاله، وحتى بكائنا المتواصل على فردوسنا المفقود.

(الحنين صوفي تائه/ وجد طريقه حين واربت الباب)

جملة بسيطة جدا ولكن لها تأثير ساحر في نفس القارئ، ويأتي ذلك من وعي الشاعرة  بالقوة الكامنة في كل كلمة بها، فتشبيه الحنين بالصوفي وهي كلمة لها دلالات التوحد بالمحبوب، والتفاني في حبه، والإيمان التام بأن الأشياء تستمد ماھيتھا من جوھرھا الباطني العميق، كل هذا أضفى على المعنى بھاءا وروعة، فھى لم تقل ( عاشق تائه) مثلا و لكنه صوفي يشتاق للفناء التام في المحبوب ليتجدد ميلاده ويكتسب وجوده وشرعيته.

أما وصف الصوفي بالتائه فقد زاد المعنى اتساعا، بما يتيح لنا من تصور لما يعانيه من يحمل  شوقا جارفا لحبيب لا يجد له سبيلا، وفى ذلك ما يدل على معاناة العاشق وقسوة العالم المحيط وقد أوصد في وجھه الأبواب.

وقد استخدمت كلمة وجد التي تعني في اللغة : علم، أي علم طريقه واستدل عليه، ثم أضافت لھا (طريقه) وهي تعي تماما قيمة استخدام (الھاء) كضمير للغائب العائد على الصوفي، هذا يجعلنا نستشعر إحساس السكينة والھدوء النفسي الجميل بعد طول حيرة وعناء، ولو قالت مثلا وجد طريقا لضعف المعنى، لأن إضافة ضمير الغائب تشعرنا أنه ليس طريقا عاديا بل طريقه ھو وكأنه وجد ضالته، ويؤكد على ذلك ارتباط كلمة طريق ارتباطا معنويا وثيقا بالفكر الصوفي لأن الطريق للصوفي يشمل أيضا رؤيته للحياة، وهو واحة لروحه المتعبة المشتاقة دوما.

 ( واعتكف طويلا)  تصف لنا هذه الجملة حاله الصوفي النفسية، وكيف أنه اتخذ من روحھا مكانا مقدسا انقطع فيه عن العالم ليمارس طقوس محبته و فناءه، ويدلنا أيضا على قدسيه روحھا التي تتلاءم مع العاشق المتفاني في حبه، وكلمة طويلا تضيف للقصيدة معنى الخضوع والاستسلام التام للحنين، كما تعطينا الإحساس بتفاني العاشق وقدسية روح المحبوبة، فأي عاشق يستطيع الاعتكاف طويلا وأي روح قدسية تناسب ھذا المحبوب لإقامة صلواته وترانيمه وفى ھذا تجسيد لعمق العلاقة بين الطرفين، وما يفعله الحنين في نفوس البشر.

(رَتَّبتُ لَهُ حقيبةَ السفرِ

وتذكرةً بلا عَودة )

تركنا الجزء الأول من القصيدة باستسلامھا للحنين المقيم وخضوعھا التام لشعائره، لنبدأ الجزء الثاني بمفاجأة صادمة، فھي لا تريد له البقاء ولكن كيف عبرت عن ھذا الرفض؟ لقد رتبت له حقيبة السفر، مدلول نفسي عميق يشعرنا أن بين نھاية الجزء الأول وبداية الجزء الثاني من القصيدة يوجد فضاء نفسي واسع جدا وممتلئ بالأحاسيس والصراع الداخلي، وأنھا يؤلمھا الحنين حقا ولكنھا لا تكرھه وأنھا تطرده من داخلھا، وتحاول الھروب منه، ولكن ھروب العاشق لا نفور الكاره فھى تعتني به حتى أثناء طرده من داخلھا، و حتى تذكرة السفر أعدتھا له فيا له من مدلل !!

( لَكِنهُ ادَّعَى المَرضَ ونام بنصفِ عينٍ

وفَمٍ مفتوحٍ على آخره)

و كان رد فعله ادعاء المرض ليستدر عطفھا عليه، وغالبا لا أحد يستدر عطفا ممن لا يشعر أنه لن يستجيب فكان ھذا امتدادا لمكره ودھائه، هكذا جاء وصفھا للحنين بأنه نام بنصف عين وفم مفتوح على آخره، هذا الوصف الذي يوحى بالخبث والشراھة والمكر كما تدل عليه  كلمة ادعى، واستخدام نام بعدھا تدل على أنھا لم يكن لھا أى رد فعل مؤثر عليه، بل إنه حتى لم ينتظره أصلا و ھذا ما يوحى بنوع من دلال العشاق خاصة أنھا تركته يدعى النوم وھي تعلم أنه كاذب.

(كثيرٌ مِن القسوةِ لن يكفي

لأُلقي بِهِ مِن شُرفَةٍ مُتَھدِّمة)

    وھنا بداية الاستسلام التام وإعلان الهزيمة النھائية، فمن شدة تمكن الحنين منھا لا تستطيع أن تمتلك القسوة المفرطة لكي تلقيه من نافذة متھدمة، هكذا تأتي كلمة متھدمة لتعطى الإيحاء بالقدم والتھالك للروح المتعبة التي استھلكھا الحنين، ولكن ھل تمتلك البطلة أى قدر من القسوة وھى التى رتبت له حقيبة سفره بما يحمل ذلك من حميمية وود وأعطته تذكرة السفر؟ ھنا ينتھى الجزء الثاني من القصيدة بإعلان الھزيمة ..ھزيمة العاشق المستباح!!

هنا يصل الترقب إلى منتھاه فكيف سينتھى ھذا الصراع النفسي بينھما؟

( الحنينُ صُوفِيٌّ بائِسٌ

يَأْكُلُني قِطْعَةً قِطْعَة

ليَسْتَرِدَّ عافيتَه)

و بنفس الأسلوب البسيط تقرر نھاية الصراع، فھو بائس والبائس ھو الإنسان الغير محظوظ والغير سعيد، ولھذا فكلمة بائس تحمل الكثير من الشفقة والحنان عليه، أكثر بكثير مما تحمل من كره أو حتى مجرد انتقاد. وفى السطر الأخير من البيت تقرير لمصير كل منھما فھو البائس المسكين التي تحمل له ھى كل ود وشفقة،  يلتھمھا قطعة قطعة بشراھة و نھم ويأتي كمال الجمال و بھاء المعنى فى ( ليسترد عافيته) فرغم ما توحي به يلتھم من قسوة وافتراس تتقبل ھى ذلك راضية فلا مانع أبدا من أن تفنى (ھى) ليسترد عافيته (ھو)

وفي القصيدة قدمت الشاعرة لنا:

-1 قصيدة تشبه لوحة الموزاييك، لا استغناء أبدا عن أى قطعة و لو صغيرة منھا وإلا لتشوھت اللوحة تماما، ولا يمكن حذف أو تعديل أى كلمة منھا ولا تغيير مكانھا أصلا ويدل ذلك على التمكن التام من اللغة ووضوح الفكرة

-2  لفة شاعرية حقيقية خالية من أساليب البلاغة التقليدية، نصل من خلالها إلى الجمال الحقيقي  ويتضح هذا من العنوان حيث لم تسم القصيدة الحنين مثلا بل أعطتھا اسم نوستالجيا بما فيه من إيحاءات عميقة، بالإضافة إلى ذلك نلمح وجود فضاءلت نفسية واسعة، تترك للقارئ تخيلھا والتعايش معھا كما حدث بين الجزء الأول والثاني من القصيدة فقد تركتنا بنھاية الأول ونحن نفھم أن الحنين مارس فيھا كل شعائره واستبد بھا تماما لفترة طويلة من الزمن، وفجأة تريد الفرار منه و تترك لنا تخيل ما حدث خلال اعتكافه الطويل، وأيضا كما حدث بين الجزء الثاني والثالث فقد تركتنا فى نھاية الجزء الثاني ونحن نفھم أنھا لا تستطيع التخلص منه لضعفھا أمامه الذي يدل على عشق مدفون لتفاجئنا فى الجزء الأخير بالاستسلام التام له ليلتھمھا قطعة قطعة، وتقدم له العذر لأنه بائس لتترك لنا المجال لتخيل الصراع النفسي الذي دار داخلھا حتى تستسلم له بھذا الشكل، وھنا يكمن ما يمكن أن نسميه بقصيدة الظل، حيث يكون لكل جملة جملا أخرى مستترة ومعنى آخر يضاف للمعنى الظاھر المباشر.

3 – لا يوجد أى تعبير مباشر عن عواطف وانفعالات البطل فى القصيدة فھى تدل على المعنى ولا تصرح به أبدا، إذ رسمت الشاعرة لوحتھا البديعة وأخذت أيدينا بحنان أمومى جميل ثم ألقتنا داخلھا، فھى لا تعطينا المتعة ونحن خارج المشھد، ولكنھا جعلتنا جزءا أصيلا منه مندمجين تماما مع حالتھا الشعورية نرى ونسمع ونتألم وفى رأيي أن ھذا آخر مدى يبلغه الشعر وھذه الحالة الشعورية البديعة

تجعلنا نحيا القصيدة بأحداثھا كشريط سينما فنرى الصوفي فى طريق ينكره ونشعر بفرحته حين واربت الباب وسكينه العابد العاشق فى محراب روحھا المقدسة وألمھا النبيل الصامت ورغبتھا الرقيقة الملائكية فى التخلص منه واستسلامھا الرقيق له حتى التھمھا قطعة قطعة بلا ألم ولكن بإحساس ملائكي نادر بالشفقة عليه. ونكاد نرى ملائكة ترقص على آھاتھا وھى تفنى ليسترد ھو عافيته حقا إن من البيان لسحرا. وفى النھاية نحن نحتاج لھذا الشعر البسيط فى أسلوبه العميق فى معناه كمدى مفتوح  يوقظ فينا الروح التي أھدرتھا الحياة.

 

مقالات من نفس القسم