بحثا عن الشمس المشرقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 4
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود الورداني

1

لاتكتب ميرال الطحاوي عملا روائيا، بل تشيّد عدة عوالم متشابكة ومتداخلة في ضفيرة واحدة محكمة. غادرت الطحاوي هنا عالمها القديم بعد أن استنفدته على مدى رواياتها السابقة: الخباء، الباذنجانة الزرقاء، نقرات الظباء، ثم بروكلين هايتس التى أعتبرها القنطرة التي عبرت من فوقها نحو «أيام الشمس المشرقة» – دار العين – 2022.

لاأظن أنها مصادفة أن يفصل بين آخر رواياتها «بروكلين هايتس» وبين هذه الرواية مايزيد على عشر سنوات، حتى لو كانت قد أصدرت بالفعل أكثر من دراسة أكاديمية.

أريد أن أؤكد أولا على أن أعمالها الروائية التي ذكرتُ عناوينها لتوي، كانت أعمالا استحقت كل الحفاوة النقدية التي نالتها، وكذلك الحفاوة من جانب القراء، لكنها استُنفذت.
وفى اللحظة المناسبة، غادرت الكاتبة عالمها القديم، عالم التماهى مع شخوص الرواية، والامتلاء بشحنة عاطفية على وشك الانفجار، واستخدام ضمير المتكلم، واللغة الحافلة بالظلال، اللغة الناعمة العاطفية..

كل هذا كان جميلا ومعبّرا عن مرحلة سابقة، وقامت الكاتبة ببناء عالمها السابق الإشارة له حجرا فوق حجر، ثم غادرت كل مابنته، وانتقلت تماما إلى عالم آخر. لاأفاضل هنا بين عالم وعالم آخر، لكني أؤكد على أنها عندما شعرت بأنها استنفدت عالمها القديم، غادرته لتشيّد عالم الشمس المشرقة.

على القارئ ألا يخدعه العنوان فليس هناك أي شمس مشرقة، بل تجري الأحداث في آخر العالم إذا كان للعالم آخر. أغلب شخوص الرواية لفظتهم بلادهم، أو أُلقى بهم على هذا النحو أو ذاك. فقراء يتضورون جوعا، ويواجهون عالما بالغ الشراسة، يسعون طوال الوقت للسماح لهم بخدمة السادة الذين يسكنون في القمة وماحولها.

من جانب آخر، تكشف الطحاوي عن عالم مغاير لعالم المهاجرين إلى أمريكا، بلاد الوفرة والثراء والفرص الذهبية. شخوص هذا العالم- وأغلبهم من النساء، وحتى الرجال القليلين جدا يلعبون أدوارا هامشية.
والأبطال الحقيقيون نساء يملأون الرواية صخبا وضجيجا، لاتكتفي الكاتبة بتقديمهن وتقديمهم في بلاد الشمس غير المشرقة أبدا، بل تصحبهم من طفولتهم الباكرة، وتمضي بهم وتعبر عقودا من الكد والغُلب والمهانة، وعندما تصل بهم إلى بلاد الشمس المشرقة يواصلون رحلة المهانة والفقر.

أشير على سبيل المثال لـ«نعم الخباز». أبوها خباز فعلا، لكنها قطعت رحلة مخيفة من قرية صغيرة في الدلتا، طفلة مشوهة الوجه بسبب الإهمال، وكدحت لسنوات في بيوت العجائز الذين يواجهون نهاياتهن، والتحقت بخدمة إحداهن وعبرت إلى نهاية العالم.

ويمكنني أن أشير أيضا إلى «نجوى» أو «ميمي دونج» أو «أحمد الوكيل». كل من هؤلاء وغيرهم تصحبهم الكاتبة من أبعد نقطة، وتمضي بهم إلى بلاد الشمس المشرقة، وتكتب عدة روايات عنهن وعنهم، ليس في المهجر فقط، بل ماذا جرى وهم في طريقهم إلى المهجر، وكيف فقدوا كل شئ حتى الأولاد الذين أنجبوهم، وهاهم يتسكعون قرب الشاطئ الخانق برائحة كلاب البحر النافقة.

لذلك ذكرتُ في أول سطر أنها تشيّد عدة عوالم متشابكة في ضفيرة واحدة محكمة، وتغزل خيوطها بأناة وخبرة جديدة مدهشة في كل شئ: خبرة بعالم جديد تقتحمه للمرة الأولى، ولغة مختلفة، بل وإحساس مختلف بالكتابة ذاتها، وسيطرة وإحكام.

ليست مصادفة أن تكتب ميرال الطحاوي «أيام الشمس المشرقة» بضمير الغائب الذي يسمّيه النقاد السارد العليم.، وليست مصادفة أيضا أن تكون لغتها عارية إلى هذا الحد من الظلال، وساخرة ولايفوتها الحس الكوميدي عند الضرورة.على أي حال، أستكمل قراءة أيام الشمس المشرقة الأسبوع القادم إذا امتد الأجل..
2
ربما كان من بين أهم إنجازات « بلاد الشمس المشرقة» نجاحها فى صياغة وتشكيل وبناء رواياتها القصيرة الأربع داخل العمل ككل. نعم الخباز، على سبيل المثال نصحبها منذ طفولتها الباكرة فى عمل روائى مستقل، وفى الوقت نفسه مرتبط ببقية الروايات ، منذ تعمل خادمة عند «السيدة ذات الأوجاع»، وحتى تُلقى بها المقادير فى ظروف غامضة فى أمريكا لتواصل مكابداتها.

تتزوج نعم أو تصطاد رجلا يفرّ منها ويترك لها طفلين يهرب أحدهما وينتحر الآخر..ولأن الحياة تمضي، فإن نعم تواصل حياتها، تنظّف بيوت السادة بعد أن نجحت فى الحصول على سيارة صغيرة من إحدى الجهات المانحة، وفى الوقت نفسه تنصب شباكها حول سليم النجار علّها تفوز به.

وتربط بها وتلتحم رواية أحمد الوكيل وسيرته وسيرة عائلته وقريته والنساء اللائى فشلن فى إغوائه، حتى يقع فى نهاية الأمر فى شباك نعم الخباز، ولكن فى أقصى بقاع الأرض فى بلاد الشمس المشرقة.
أما نجوى فإن الطحاوى تحكى روايتها منذ طفولتها أيضا. نحن نتعرف على أبيها وعائلته وأمها وعائلتها كذلك، وتذهب بنا إلى الجامعة التى تلتحق بها، وتخرجها وعملها كمعيدة لدى أستاذ هوايته بل وحياته اصطحاب طالباته إلى خلوته، فيما عدا نجوى فقط، فهى لاتملك أى مؤهلات للهنك والرنك، وتكون مكافأتها الوحيدة الحصول على منحة دراسية لأسوأ مكان فى العالم لكنه فى أمريكا حيث الثلج طوال العام والعزلة التى تقترب من الموت.. يلاحقها الفشل تلو الفشل، حتى تنجح فى نهاية الأمر فى الحصول على زوج صورى يشترط حصوله على مبلغ محدد نظير زواجه ومنحها الإقامة، كما يشترط أيضا أن تغرب عن وجهه فورا، وتشدّ هى الرحال إلى بلاد الشمس المشرقة، حيث لاتحقق أى نجاح أيضا.
وعلى الرغم من أن سليم النجار يظهر قرب النهاية، إلا أنه – وحده- يشكل رواية أيضا. فلا أحد يعلم أصله من فصله ومن أى أرض جاء.

سليم أردنى وفلسطينى ومقاتل فى جنوب لبنان ومصرى هارب. فهو يحكى كل هذه الحكايات عن نفسه، ويذكر أن السبب الوحيد لهروبه من حياته السابقة رغبته فى التفرغ للكتابة، هوفنان وكاتب ومفكر ويحتاج للتفرغ، فيعمل بوابا وحارسا لأحد العقارت، ويتنقل بين أحضان النساء، ويهرول وراء امرأة عراقية من سكان القصور أعلى الشمس المشرقة.

وأخيرا هناك رواية أسرة حقا وتخطف القلب . حكاية ميمى دونج الفتاة الساحرة السمراء، التى تم إنقاذها من الذبح على يد إحدى القبائل فى جنوب السودان، وحطّت رحالها من خلال مراكز الإيواء فى الشمس المشرقة. مهنتها الوحيدة بعد البلوغ بيع بويضاتها لأحد المراكز الطبية، وممارسة الحنان مع من يحتاج من الشباب. كشف آخر سطور الرواية عن سر اختفائها المفاجئ، وتكتب الطحاوى فى السطر الأخير» لم ينتبه أحد لخبر العثور على جثة ميمى دونج إلى جوار عدد من جثث كلاب البحر النافقة فوق رمال الخليج»

حاولتُ فى السطور السابقة أن أشير إلى هذا العالم المترامى الذى أحكمت الطحاوى السيطرة عليه، والأهم أنها صاغت وضفرّت أكثر من رواية معا. وكان مهما أن تتحرر لغتها أيضا، وأن تمارس السخرية القاسية، وتتجرأ على مغادرة لغتها فى أعمالها السابقة نحو آفاق أكثر رحابة.
وأخيرا .. كتّر خيرك ياميرال على كل هذه المتعة فى عمل ساحر حقا..

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم