كتابة وحوار: أسعد الجبوري
لم يكن مشغولاً بالحسان اللاتي يجلسن حولهُ مدخنات الأراكيل. ولا هو مهتمٌ بالتنظير عن الشعر والعروض وضوابط الفلسفة في العقل. بل كان الشاعرُ عبد الله البردوني يتحسسُ تحت جلدهِ حرائقَ من غير تلك النيران الجهنمية التي جاءت في الكتب والأساطير والملاحم.
رأيناهُ بشَعرٍ منكوش، كما كان في سابق عهده على الأرض، من ذلك العمر المتبصر البصير على الرغم مما حدث لتلك العينين بفعل فيضان العتمة القاسية، تلك التي أفقدتهما لذّة التناظر والنظر في عموم مناظر الحياة.
غير أن العمى، لم يقف عائقاً يحول دونه ودون الزمن. فما كان يميز البردوني، قدرته العجيبة على الغناء البدوي الشجي، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالحداء. كان الشاعرُ ينشدُ، وكان كورال الحسناوات يرددُّ خلفه سينو كوبليه تلك الأغاني المُلتهبة.
كل شئ كان يمضي بشكل خاطف. الريح والصوت والبرق والقوافل التي كانت تشق تلك الطقوس المُوجعة. لكن. . وما أن قضى البردوني (الميلاد: 1 يناير 1929، الحداء، اليَمَن ـ الوفاة: 30 أغسطس 1999) من الغناء الحزين وطراً، حتى سارعَ بتجفيف منابع الدمع بمنديلهِ، لينظر نحونا محيّياً، ووجهه لم يتخلص من الاكفهرار بعد. ذلك لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما عاجلناه بالسؤال عن المفصل الأول الذي أسسَ الشاعر البردوني عليه حياته. قلنا له:
س/هل تعتبرُ الظلامَ مسقطُ رأسك؟
فأجاب الشاعر عبد الله البردوني مسترسلاً وهو يتصنعُ البرودَ:
ج/بكل تأكيد. فالظلامُ مسقط رأس الشمس. وأنا أتشرفُ بأن أكون من ذلك النسل.
س/أليستْ هذه إجابة تحملُ مكابرةً عظيمةً؟!
ج/الظلامُ الذي عندي هو مجرد لون، بينما عند الآخرين من المبصرين، ليس إلا مَدفناً.
س/كيف تدرّبت على إدخال النور إلى قصائدك، وبذلك الإشراق الحادّ؟
ج/اللغةُ هي من يفعل ذلك. فعندما استمعُ لأصوات الرعد، سرعان ما تبني اللغةُ مبنى ذلك الشئ بداخلي، فيكرّس المعنى بحدوده الصوتية واللونية.
س/هل تعني بأن اللغة تقدمُ للبردوني تعويضاً ما عما خسرته عيناهُ مثلاً؟
ج/ليس تماماً، ولكنها تُسهل المأساة على الشاعر الذي بداخلي. فلا يمكن تعويض البصر بشئ، مهما عظمت أهميته.
س/إذا كان الأعمى الذي بداخل عبد الله البردوني، ليس هو بالشاعر. . فمن ذلك الشخص الأخر. الشخص الضرير؟
ج/هو أجيرُ الشاعر الملعون بالضبط. الأجيرُ الذي عادةً ما استخدمهُ للمهمات الشريرة.
س/وهل يمارس عبد الله البردوني الشر ضدّ أحد؟
ج/أجل. فالعمى الذي جلبَ لي الكثير من العداوات، شجع الخلايا الشريرة على النمو بجسدي بشكل وافٍ وشجاع. وكنت لا أهتم. غير مكترث للطعن أو للموت.
س/هل لأنكَ مررت بالموت أو بالقهر سابقاً؟ سَجِلُ تاريخك يشير إلى أنك كنت جائعاً. .
ج/نعم. وإذا كان ثمة كلمة أكثر حدّة من جائع، فيمكنك استخدامها. أنا أمضت حياتي الأولى في مسغبة لا متناهية.
س/تعني أنك لم تمرّ يوماً بالطفولة كإحدى مراحل عمرك كإنسان؟
ج/لا طفولة لأعمى. وأنا منذ أن فقدت البصر في الخامسة من عمري، تحوّلت حياتي إلى خزان لجمع المراثي على مختلف الصعد. ولكن أمي كانت فاعلة في حياتي، عندما قدمت كل الدعم والإسناد لي بعد فقداني للعينين. كانت أماً جليلةً.
س/وهي من دفعت بك لأن تتعلم في مدارس كتاتيب مدينة ذمار النقد قبل الجدري وحروف اللغة؟
ج/هي وخالي أولاً. بعدهما طاف الفيضان المضاد للأمية بداخلي، فبدأت بمعالجة التيه النفسي وأمراض العمى والجدري بكل ما في اللغة من قوة وأبعاد فنية تحقق الانتصار لي على خصومي من المبصرين. كنت الأعمى الذي يخوض حرباً حقيقية ضد الآخرين من أصحاب الأعين المبصرة، وشاءت الأقدار لأن أحقق منجزات، ربما عجز المبصرون عن تحقيقها في حياتهم.
س/ثمة من يعتقد بأنك أتيت للشعر اليمني من جذر شعري عامي كانت تحكيه الأم. وأن العائلة تركتك لتنتصر على أمراضك بالشعر والأدب؟!
ج/قد يكون في هذا شئ من الصحة. ولكنه ليس دقيقاً. فأن تكون فاقداً للرؤية البصرية، فليس معنى ذلك أن تكون مخلوقاً وديعاً ومسالماً وبريئاً، دون أن ترمي برأسك في آتون الفلسفات، فتسأل عن العدالة الإلهية التي جعلت منك فاقداً للبصر، فيما تركت أعين الآخرين مليئة بالصحة والنور وهي تغرف جماليات الأرض بكل ما تملك من طاقات، بينما أرشيف عينيك معتم وأسود؟
س/هل هوّن أبو العلاء المعري عليكَ مصيبتك بالعمى؟
ج/كنت أزور المعري ويزورني في دار الكتب السماوية. كلانا لم ينشغل بالآخر، فهو شاعرٌ انغلاقي، ويحب العزلة حتى في دار الآخرة. وأنا شاعر يحاول الفرار من ثيابه وملاحقة الأحداث اليومية. من الممكن القول، بأنني أحاول التعويض عن خسائري بالحركة، حتى لو قادتني إلى الهاوية.
س/ربما لأن المعري قضى على ظلمة العينين برفع سقف الفلسفة في ذهنه. . فما الذي فعلته من أجل التعايش مع الظلام الداخلي على سبيل المثال؟
ج/ إذا كان تأليفُ الشعر يطردُ عتمةَ العقل، فما الحال بالنسبة لظلام الأعين؟
س/كان الشاعر بشار بن برد يعشقُ بأذنهِ. هل حدث لك مثلما حدثَ له؟
ج/ أنا كنت لَمِاساً بعكس بشار بن برد السماعي. ولي يدان تنظران ما يمكن أن تتمتعَ به نفسي أوقات الحوادث الغرامية الجلل.
س/يقال أن بشار ضُرب بالسياط حتى لفظ أنفاسه ميتاً، وكانت التهمة الزندقة!
فهل دنى منك موتٌ بسبب تهمة ما في اليمن؟
ج/ أنا عشت على صفيح ساخن كما يقال. فإذا كان المعري عاش سجين المحبسين وهوميروس الإغريقي ألفّ الحرب الطروادية ذهنياً. وطه حسين فضح الشعر الجاهلي بقوة ذهنه. والسيد مكاوي جسر التلاقي ما بين العتمة والنور الموسيقي، فيمكنك القول عني، بأنني جرثومة قاتلة في جسد كل من حاول حرق خريطة اليمن، واستخدام شعبها للأغراض القذرة.
س/هل يمكن للشاعر عبد الله البردوني ترجمة عواطفه وأحاسيسه الكبرى مع النساء عبر طريقة لويس برايل مخترع كتابة المكفوفين؟
ج/أن تقرأ نساءً، غير أن تترجمهنّ برأيي. أنا فشلتُ بالأولى، ونجحتُ بالثانية.
س/هل هو اعترافٌ؟!
ج/ أنا لا اسميه اعترافاً، بقدر ما هو إفصاحٌ عن تجارب خضتها من أجل أن أحقق لنفسي ما كان يعتمل بداخلي من شهوات فسيولوجية. فالعمى يلغي الرغبة والترغيب عن المصاب بفقدان البصر، ويترك له أشغال البدن التي تقوم على تلبية الحاجات فقط.
س/كيف يحبُّ الضريرُ برأي الشاعر البردوني؟
ج/ الضريرُ الضريرُ الضريرُ، لا يحبُ إلا بطريقة ((برايل)).
س/هل يمكن اعتبار حصولك على جائزة التفوق اللغوي من دار العلوم الشرعية، كان بغرض الاقتراب من عالم النساء، وبخاصة المُطَلقات منهنّ؟
ج/ أجل. فلمْ أجد في غير تلك المهمة، ما يمكنني من الاحتكاك بالنساء الضعيفات المغلوب على أمرهنّ.
س/وهل سمحت لك قوانين الشريعة بشم عطور الإناث، كأن تقم باستغلال حاجة النساء إلى منقذ من تماسيح القبائل ذلك؟
ج/أنا لم أخلق لهنّ المشاكل من أجل استغلالهنّ بالضبط، بل الربّ وأقدارهنّ من فعل بهنّ ذلك على وجه الدقة، لأتمكنّ منهنّ مساعداً ومدافعاً عن حقوقهن في أشدّ المجتمعات القبيلة وحشية وتخلفاً وقتلاً للرغبات وللحقوق.
س/أين الشاعر عبد البردوني من القات ونشوة هذا النباتُ المقدس والشهير في اليمن؟
هل بسببه سُميتْ بلادكَ باليمن السعيد؟؟
ج/أنا أعتبرُ نبات القات، بمثابة شجرة لإنتاج الجعة. ومن حق اليمنيين التمتع بشيء ما. فالشجرة التي اجتمع اليمنيون على وصفها بالأم الحنون، والرمز الأسرع والأسهل إحساساً بالتخلص من الكوارث، لابد وان تكون مصدراً من مصادر القوة على مواجهة الآلام العظمى، بعد أن عجزت أقوى البلدوزرات عن اقتلاعها من تربة اليمن، أو قبرها بعيداً عنه بين طبقات الصحارى.
س/هل ينتشي قلبك بالطرب؟وهل ثمة ما يجمعك بالمطرب سيد مكاوي؟
ج/عندما استمع للمغني الملحن سيد مكاوي، أشعر وكأنني أستعر ناراً بفرح غامر. فطالما أخرجنا سيد مكاوي بأغانيه وألحانه من معتقلاتنا السوداء، لننتشي مجدداً بشكل الحياة الأخرى التي تنبعث من الغناء. فالأصوات المُعطرة بالغرام، تكسرُ شجنَ الجسد السجين، لتطلقهُ في مدار آخر، بعيداً عن عنق الزجاجة التي نعيش بداخلها.
س/قال عنك د. إبراهيم أبو طالب.
من يريد أن يعرف اليمن ومن هو اليمني في مسيرة قرن من الزمان إلا قليلاً، فليقرأ شعر البردوني، ومن أراد أن يرصد تاريخ المكان بأفكاره ومنعرجاته وتفاصيله ورؤاه وانكساراته وآماله فعليه أيضا بشعر البردوني لأنه أدقُّ مَرْصداً، وأكثرُ حساسيةً، وتوضيحاً، ووضوحاً.
ج/أشكره على ما قاله عني. ولا أشكر اليمن التي لم تقطع رؤوس ثعابين القبائل، ممن جعلوا رحمها أرضاً للبركة المؤجلة. وحقلاً للقمة المسّمومة التي لم تساوت فيها أفواه أبناءها مع المقابر عبر كل هذي القرون الفائتة على المجاعات والحروب والسعادة الغائبة.
لقد جسدت الحزن اليمني. والجوع اليمني. والغناء اليمني الأسود منه أو الأحمر. وكتبت باليمن أساطيري الخاصة بمائه وترابه ودم شعبه. ولكن ذلك لم يكن مديحاً، بقدر ما تمكن من شعري الرثاء لأهجو رموز ظلامه وأبطال حروبه وحيتان فساده.
س/ماذا ترى في اليمن وأنت في السموات الآن يا بردوني؟
ج/أنا الآن في مختبر الفحص الطبي لأعين العميان في هذه المقاطعة المطلةِ على بحر الجماجم والرماد. ولكنني لا أرى في اليمن إلا جهنم وبئس المصير. لقد تضابعت على لحم شعبي سيوفُ من انْخَنثَوا من الرجال وهم في بطون أمهاتهم.
س/هل كان خروجك من مقبرة ((خزيمة)) في صنعاء إلى هنا آماناً؟
ج/بالضبط. لم أجد صعوبة تعرقل رحلتي إلى السموات. وغداً، لن يجد اليمنيون أثراً لجثمان في قبري. فقد سحبتُ جثتي يوم انتقلت إلى هنا، وما زلتُ أعيدُ ترتيب أوراقي الثبوتية عند مكتب شؤون اليمن في هذا المكان.
س/ولم تُبقِ لليمنيين منكَ شيئاً؟!!
ج/ أبقيتُ لهم نسخةً من عمودي الفقري فقط، فقد تنفعهم يوماً، بسحق رأس الثعبان الكبير للربع الخالي، فنعود القهقرى من السموات إلى اليمن للاحتفال بالعيد السعيد، تتقدمُنا سيدةُ العصر القديم بلقيس.
س/كنت في حياة مليئة بالاضطراب – صعوداً وهبوطاً- فعلى منْ كنت تراهن ليعيدك إلى الثبات أو الاستقرار؟
ج/ الاستقرارُ في الشعر، تراجع نحو الحضن الأول للموهبة. وأنا لم أفعل لأكون مستقراً لا في الشعر ولا في الحياة العامة.
س/ ولكن في الجانب الأدبي، لم تتفرد بقتل الأمية في أكثر المناطق كثافة بالجاهليات المتعددة؟
ج/أنا لم أضع في شعري يوماً إستراتيجية بذلك الخصوص. ففي الوقت الذي كنا نعلّق مصباحاً هنا وشمعةً هناك في شوارع اليمن، كان الآخرون يزرعون الظلام في لحوم الشعب اليمني زراعة، مثلما يدفعون بملايين الدولارات الآن، لتأسيس مراكز خاصة واسعة الانتشار للتجهيل الفكري إلى حدود محو العقل، واستبداله بقطعة أسفنج مليئة بالنفط الأسود.
س/ثمة من يرى البردوني، ليس سوى إذاعة شعرية تتحكم بصوتها شيوخ القبائل. ما ردّك؟
ج/سامحهم الله. ثم ما العيب بالإذاعة وبشيوخ القبائل إذا كانوا من تربة البلد؟
س/هل حزنت لكونت مت جائعاً ومتألماً، دون أن تتحقق في زمنك، لا العدالة ولا الحريات ولا اشتراكية السوق والسلام الاجتماعي؟
ج/وربما أكثر من ذلك بكثير. أنا فقدتُ بصري بسبب إحساسي المبكر بما يحدث الآن، لأنني لم احتمل رؤية البلد على مشرحة المسلخ.
س/ تعال نتذكر ما كتبهُ عنك أحدُ النقاد. د. عبد الحميد الحسامي قال:أن فرادة البردوني تأتتْ من عبقريته الشعرية المتوهجة، التي تعززها رؤية واسعة فضلا عن تقنيات بنائية ظل يعززها ويجدد فيها عبر مسيرته الإبداعية. ما رأيك؟
ج/هو يُدرّسني أكاديمياً، وأنا غير ذلك.
س/ولكنه يذكرُ عنكَ عددا من السمات الأسلوبية التي ميزك عن غيرك، كاللغة الشعرية التي تمكّنت من انتزاعها من البيئة المحلية اليمنية وإدراجها في سياق النص الشعري الفصيح، وتخصيب نصك بالرموز الإنسانية التي تمنح النص ثراء دلاليا وتوسع أفقه الثقافي، واشتغال نصك الشعري على أسلوب المفارقة، الأمر الذي منحه طاقة جديدة، وفتح أمام المتلقي مفاجآت من شأنها أن تكسر أفق التلقي، واستلهام المعطيات السردية في النص، والشغف بالتجريب الذي لا ينبت عن الأفق الرؤيوي للشاعر.
ج/أنا شاعر يكتب بنظام تفاعلي ليس مع اللغة وحدها، بل بمشاركة الأصوات الخارجية التي تصنع رموزها بذهني. صحيحٌ الشِعرُ فورّة لا متناهية من العواطف المقولبة بالأعمدة والأوزان، ولكنني سرعان ما وسعتُ من المساحة التي أمشي عليها في أثناء الكتابة، محاولاً استبدال حركة القدم بحركة الصوت المختمر بمياه الذهن.
س/ما المسافة التي تفصلُ ما بين الحداثة والبردوني؟
ج/ عندما قرأتُ التراث الشعري للعرب، وجدتُ فيه الكثير من ينابيع الحداثة، وبنسب متفاوتة. ولكن ذلك لم يمنعني من القفز إلى السفينة والإبحار نحو التأليف الحديث الآتي من العقل المنتصر للأشكال الأدبية والبنى الجديدة. حرصت على احترام الأب الشعري، دون تقديسه. واستغرقت عمراً بالفلسفة وآداب الغرب وكتابات مؤلفيه البارزين.
س/ ثمة من اعتبر أن قصيدتك المسماة ” أربعينية الشتاء” كانت عبارة عن شفرة معقدة تشبه إلى حدّ كبير شفرة دافنشي!
هل كانت تلك القصيدة صرخة مضادّة للحرب التي تنبأتَ أنتَ بقيامها ضد اليمن؟
ج/أجل. وربما هي القصيدة التي أعادت لي العينين من شدّة ما جرى بهما من سيول حمم شبيهة بتلك التي تقذفها البراكين التي طالما رأيتها وأنا في النوم.
