تقطعه عودا على بدء، توافى نولها
تنسج ما يغزله الفجر من العتمة والضوء،
وما تحمله الطير لها
فإذا ما غابت الشمس، وضاقت حولها الآفاق،
هدت غزلها
ثم نادت أهلها الموتى،
وقالت قولها فيهم
وشدت فى المساءات إليهم رحلها!
منذ كانت طفلة، كان لها الفقدان بالمرصاد،
لا تمنحها الأقدار إلا ريثما
تسلبها الأقدار ما فى يدها
فلها الأمس الذى أصبح عمرا ثانيا
يمتد باليوم الذى تفقده من غدها
ولها من أهله الموتى رسوم فى محاريب
تناديهم، فلا يسمعها غيرى،
ولايبكى سواى!
وأنا أذكر أمى فى صباها وصباى
كنت طفلا،
لا أرى فى المرأة الكاشفة الساقين
إلا أنها أمى التى تجلس للمرآة
تفشى عطرها الفواح
أو ترسم فيها كحلها
ثم تمشى فى ظلال الصيف كالطيف.
لها خدان من ورد
وعينان كما لو كانتا
من ذلك الحلم الذى تسهر فيه ليلها
كنت طفلا، لا أرى فيها سوى أمى
وكانت هى لا تعرف فى الطفل
الذى يملأ من فتنتها عينيه.. إلا طفلها!
لم يكن إلا أنا فى بيتها
فلمن كانت إذن زينتها
وهى تنادى أهلها الموتى
بما فى صوتها من شجن عذب،
وما فى صمتها
وأنا أتبعها منفطر القلب، وأبكى مثلها!
كنت مسحورا
وكان الموت قد أصبح فى أغنياتها جارا لنا
أو شقيقا توأما للراحل الغائب
يأتى معه فى حلمنا
يتراءى الوجه فى الوجه كظل راقص فى الماء،
أو مثل فراش حائم
من فوق وجه نائم
ينأى بعيدا، كلما نادته أمى
وهى تعدو خلفه واولداه!
وكأنى لم أكن طفلا،
وأمى لم تكن تلك التى تبكى ذويها
وهى تعدو فى الضحى
حافية محلولة الشعر،
كما لو أنها كانت تصلى لإله لا نراه!
وأنا أتبعها فى وحشة الدار،
وأعدو معها خلف جمال فاجع
يهرب من ذاكرتى إيقاعه الآن
وتستخفى رؤاه!
هكذا سارت بها الأيام،
لم تعرف سوى الفقد،
ولم يبق على العهد سوى الحزن
الذى كان لها خلا وفيا
مثلما كانت له خلا وفيا
لم تزل تبكى على الأموات حتى لم يعد دمع،
وحتى ابيضت العينان،
واسود المدى شيئا فشيئا
كلما فارقها لون من الألوان
كانت تقتفى آثاره بالذاكرة
وتلاقيه بوجه باسم فى سرها
وتنادينى
كأنى لم أزل فى حجرها!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعر مصري