مُداعبة الحكاية مع “أرملة تكتب الخطابات سراً”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود خيرالله

ينتقي طارق إمام أبطال رواياته،كأنّه يختار قميصاً بألوان زاهية، لايُفضّل أن تكون الحكاية قابلة للتكرار، ولا يلعب في الساحات التي جرت  فيها الرواية العربية وجرّبت، لذا جاءت " الأرملة تكتب الخطابات سراً" ـ روايته الجديدة الصادرة عن دار العين ـ رواية الانحياز المنَظّم إلى  الخصوصية في الحكي، إلى الغرائبية التي تصنع عالماً حطّمتْه الهواجس والخُزعبلات والإحباطات واليقين الضائع، متجاوزاً عن عمد نموذج الحكاية المحفوظية، والنماذج اللاحقة عليها،فلا صورة واضحة لواقع مُعاش، ولا شخصيات تدلّ على زمنٍ يشبه هذا الزمان، على نحو ما يفعل كتّاب تحقق رواياتهم مبيعاتٍ وشُهرة، رغم أنها لا تزال ترفل  في العباءة المحفوظية نفسها ،مثلما نجد عند علاء الأسواني مثلاً.

 لطارق إمام روايتان أخريان قبل هذه الأرملة، شريعة القطة 2003 ، وهدوء القتلة 2008 ،ومجموعتان قصصيتان هما: طيور جديدة لم يُفسدها الهواء 1995 ،وشارع آخر لكائن 1997،فضلاً عن مجموعة قصص للأطفال،يجمعُ بينها جميعاً الانحياز الواضح نحو الغرائبية التي تدفع القاريء إلى مساءلته،عن الهدف الذي لأجله يكتب الكاتب، بينما لا يبدو هو مشغولاُ سوى بالعالم شديد الثراء الذي يغزل منه الحكاية، التي تحكي عن حيواتنا إلاّ قليلاً، وبغض النظر عن الجوائز التي حصدتها روايات طارق،وآخرها جائزة ساويرس في الرواية ـ المركز الثاني ـ عن هدوء القتلة ،فإن الخصوصية التي يكتب بها تدفعنا إلى محاولة فهم المناطق الجمالية التي يسعى إلى تفجيرها، كبديل عن النماذج التي سبقه إليها الآخرون.

“مَلَك” أرملة تسكن مدينة ممطرة، المدينة ساحلية في الغالب،والمرأة تمشي في أحلامها الطويلة ،مع ذكريات زوجها الراحل، تعمل مدرّسةً وتقتل الوقت في كتابة خطابات عاطفية لفتيات هذه المدينة، “مَلَك”  إذن غير واقعية، لكنها تتورّط في الحياة على أكثر من نحو، ولأنها تنامُ لتخترع لنفسها عالماً بديلاً، تدخل الرواية ـ منذ السطر الأول ـ غرفتها  على هيئة حجر يكسر زجاج النافذة، ويحمل خطاباً غامضاً يصل إلى سريرها وينام بجوارها ليلة كاملة ،وحين تصحو تبدأ الرواية في الخطو مع امرأة مُسنّة، تثير حكايتها مدينةً صغيرةً تلوك القصص كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لتصبح الرواية كلها قصة خطابات عاطفية مُتبادَلة، في واقعِ يرسمه طارق ببراعة لافتة للنظر.

على مستوى اللغة يجب أن نُحيي كاتبنا ـ مع كل رواية جديدة ـ على كل هذه الشاعرية الفائقة للغة، على كل هذا الانسياب والاختزال والادهاش باللغة ، لدرجة أنك تخرج من رواياته بجرعة شعرية قد لا تصادفك في كثير من الدواوين التي  يجتهد شعراؤها  بلا طائل، هكذا فعل في “هدوء القتلة ” التي تحكي عن قاتل مُتسلسل، يكتب شعراً بيد ويقتل بالأُخرى من أحبّهم، يتخلّص طارق من أسرار حكايته على الورق بأكثر الألفاظ دلالةً وإيحائيّة ،واضعاً حكايته كلها في أكثر المناطق شاعرية، إنّها القيمة المُضافة إلى عمل الروائي، حتى بدا مفتوناً ببعض المفردات، وبدا الحدث الذي يدور داخل الروايةـ أحياناً ـ وكأنه توقّف قليلاً، ربّما لكي يُفسحَ المجال لكل هذه اللّوعة الهادرة بين السطور.

شاعرية طارق إمام لها دائما ما يُبرِّرها، درامياً وفنياً، كان بطله في “هدوء القتلة” شاعراً، وبطلته الأرملة صائغة خطابات عاطفية ملتهبة، ويكون طبيعياً ـ والحال هكذا ـ أن تأتي لغته هي الأخرى شاعرية، دعْك من هؤلاء الذين ينسون لغتهم أثناء الحكي ، فيدخل قارئهم في المتاهة اللغوية التي تدور معها الحكاية، كانّهم لا يتجمّلون قليلاً من أجل الرواية، تقول “مَلَك” لنفسها مبررة احتياج الفتيات إلى من يكتب لهنّ الخطابات العاطفية، ومقللة من شأن رسائل الهواتف المحمولة “ليس هناك ما يُعوِّض خطاباً كتبَتْهُ يدك تلك،وفردت كفّ يدها اليمنى أمامها في الشبورة الصباحية، فلم تر سوى بريق الخاتم الذهبي الغليظ. قرَّبتها قليلاً، ورأتها مُزرقَّةً وشاحبةً كأنها سبقت جسدها إلى الموت”.

لا أريد أن أقول إن شاعرية اللغة لعبت الدور الأكبر في هذه الكتابة، لكنها ـ على الأقل ـ جعلت العالم مقنعاً أكثر، لمثلي، من هؤلاء الذين يبحثون في الرواية عن ظلال الحكاية الواقعية،ولا يعوّلون كثيراً على الخيال في القص، لأن الشعر أولى به على أيّ حال.

على مستوى الهدف، لا تستطيع أن تسأل كاتباً شاباً ـ طارق غادر عامَه الثلاثين منذ عدة شهور ـ  عن الهدف ممّا يكتب، بعضهم يظن أن هذا السؤال ـ بحدّ ذاته ـ جريمة حرب، لكنني أتفهّم اليقين الذي لا يتورَّط  صاحب “الأرملة تكتب الخطابات سرّاً” في الإفصاح عنه، اليقين الذي اختار أرملةً لتكون ـ بكوابيسَها وعجزَها ولانهائية حُزنِها ـ بطلة روائية، والذي اختار مدينةً صغيرة لتكون مكاناً روائياً، واختار التدريس ليكون مهنة البطلة، واختار السكرتيرة رجاء والراهبة والبواب والمشاهد الجنائزية الكثيرة لتكون في مركز الأحداث، وعلى الرغم من أنهم يقولون إن الكاتب هو أسلوبه، فإنني أعتقد أنه أيضاً شخوصه، الذين يحرِّكهم في الزمان والمكان، والذين يخوض معهم وبهم معركة الحكي، والذين يكون عليه وحده مهمة تفسيرهم، كأنهم أفعاله على الورق، يمشون في رأسه أولاً قبل أن يجرِّبوا المشي في ضمائرنا، نحن قرّاء الروايات.

على مستوى الحكاية، لا يُنتظر من مثل طارق إمام ـ في “الأرملة”وغيرها ـ أن يحكي قصة إنسانية مُعتادّة، أن يحرّك أرملته على الأرض، وأن يتركها تمرض وتموت، مثلما يحدث في بيوتنا جميعاً، يضعنا الكاتب أمام أرملة تخصّه، تمشي تقريباً في أحلامها،ووراءها تمشي رواية كاملة، كأنه يريد أن يحكي قصة أحلامٍ تورّطت في هذه الدنيا على هيئة حكاية،وحين يكتبها يكون قادراً على تأكيدها بأقل قدرٍ مُمكنٍ من الواقعية.

امرأة اسمها مَلَك، وحيدة تعولُها الذكريات، عادت إلى مدينتها بعد عشرين عاماً من الزواج والإقامة في القاهرة،كانت زوجة لصائغ رحل لكي يُفاجئها دائما أثناء النوم، وحين سُئلت “ولماذا عدتِ” أجابت : لكي أموت،و لكي لا تموت تحترف مهنة سرية هي كتابة الخطابات العاطفية للفتيات، حتى ساءت سمعتها في المدينة الصغيرة، ولقَّب الأهالي الفتيات المنحرفات باسم “بنات مَلَك”، امرأة بمفردها، لا  تتكلم طوال الرواية سوى مع صمتها، وسكرتيرتها اللّعوب،والراهبة التي تعالجها في المستوصف،وبعض الأشباح،أنت حتى لا تعرف هل قصد الكاتب أن تكون كل شخوصه تقريباً من النساء أم لا؟ وهل قصد أن يكون كل الرجال إما بين الأموات أو هم أشباح يتنقّلون بخفة بين الغرف كأنّهم أصحاب البيت، أم لا ؟.

لا تستطيع أن تقول إن هذه المرأة هي مصر، لأنك لست أمام الحكاية المحفوظية التي بإمكانها أن تمنح الدلالة الكبرى لأبسط الشخوص، لكن اختيار الشقاء والعذابات والأحلام المجهضة لا يمكن أن يمرّ بلا دلالة، اختيار الكبت الجنسي الذي تعاني منه المدينة كلها رجالاً ونساء، لا يمكن أن يكون فارغاً من المعنى، اختيار الجنازات التي تعبر تحت شرفة الأرملة، التي شاء الكاتب أن تسكن بجوار المقابر، وأن تذهب لتطمئن على قبرها الذي اقتنته مؤخراً، لا يمكن أن يكون هباء منثورا، لأن كل هذه المتاهات ابنة شرعية للمرارة التي يتذوّقها سكان العالم الثالث، مهما حاول الكاتب أن يُخفي ـ  ربما بدافع الهروب من التورط الأيديولوجي ـ مرارة قسوتها على البدن، ومهما تأنّق في رسم حكايته بلغة الشعر التي تُضفي على كل هذه المرارة لوناً من الحكمة، فعلاً، هذه المرأة ليست رمزاً لأحد، لكنها وسيلة أُخرى للتعبير عما يحدث، طريقة طارق إمام وطريقُه إلى اكتشاف هول ما يحدث.

ليس غريباً إذن، أن يحضر الموتُ بكل هذه القوة في الحكاية، تماماً، مثلما حضر القتل قوياً في هدوء القتلة، يقول “احتاجت وقتاً كي تُصدّقَ أن يناير آخر عَبَر وجهها دون أن تموت”،ولماذا لا يكون الموت حاضراً بجنازاته في رواية لم تتخلّص تماماً ـ لحُسنِ الحظ ـ  من واقعيتها، الموت الذي يجري بلا هوادة على هذه الأرض ليحصد الحيوات التي تجري بدورها فراراً منه يبدو هائلاً في هذه الرواية، الموت هنا جنازة يتضاعف روَّادها كلّما مَشَتْ، والحديث عن الموتى والجثث والرحيل واللوعة المصاحبة لكل ذلك لا يغادر أيّاً من صفحات هذه الأرملة، كأنّها مشروع قبر، ً،وكأن الموت يأخذ مقاساتها قبل أن يُفصِّلَ لها الكفن.

الموت هنا نوع من الاستعمار، لابد أن يُقاوَم، ولو برسائل غراميّة لاهبة، تستعيد بها “مَلَك” حباً سابقاً وحياة تُريد أن تطول، لاشك أنها تستنشق من تلميذاتها  العاشقات مايساعدها على المقاومة، وحين انتهت الحكاية، أراد الكاتب أن يكون المشهد الختامي في المقابر، ربما لكي يقول لقارئه إن الرسائل التي كتبتها هذه الأرملة قد وصلت أخيراً إلى غايتها

يلعب طارق إمام ببراعة على تيمة الموت، مدركاً أن أقصى لحظات العشق ربما تأتي وسط الأموات،في مشهدٍ ختاميّ مؤثّر جمع الأرملة  برجل المقابر، الذي تفوح من فمه رائحة التبغ والكحول، كان طبيعيّاً أن يضمّها حين ذهبت إلى المقابر، وأن يعرِّيها تماماً، لكي يخلـِّصها من الترمُل، ولكي يتوّج وحدتها بجسدٍ لاهث،و يزفها إلى القبر الذي نامت فوقه عاريةً، إنها واحدةٌ من لحظات الأسى التي تحفرها الرواية في الذاكرة، كأنّ الجنس أفضل وسيلة بشرية لقتل الموت.

 لا تمضي رواية طارق إمام الجديدة بعيداً في السرد، لا تبذر الحكايات مجاناً، أبداً، ولاتأخذها غواية الحكي إلى منحنيات وشخصيات ومعارك جانبية،  تبدو معه الرواية وكأنها غابة من الشخصيات النمطية،على العكس، جاءت  “الأرملة تكتب الخطابات سراً”مُحكمةًً مثل بناء لايمكن حذف حجرٍ واحد منه، أقل عدد من الشخصيات، وأقل ما يُمكن من الحوار بين الشخوص، أقل استخدام لمفردات العامية، ما يجعل الكاتب عُرضة للتساؤل حول قناعاته بالعامية، ويجعل العمل مُنتمياً إلى مُحيطٍ لغوي مفارق بدوره للمعيش واليومي، كأنّه بهذه اللغة يكمل مشواره مع الخصوصية، التي تتحالف فيها الشاعرية الهائلة للغة، مع خصوصية الحكي، مع فانتازية المسار الروائي، لتكون كل هذه المعالم اختياراً واضحاً من الكاتب.

لا يريد الكاتب في هذه الرواية أن يروي عطش القارئ الذي تربّى على الحكاية المحفوظية، كل المصائر معلّقة في خيالٍ واسع، لا تفاصيل إنسانية عن هذه الأنثى الضائعة، ولا عن عشيقها الوحيد، الذي ترك لها خطاباتها فور انتهاء العلاقة بالفشل، كنوعٍ من المحبة، لا تفاصيل عن المناخ السياسي، باستثناء وحيد هو العلاقة الطائفية المُتوتّرة بين أصحاب اللُحى في الشارع الذي يحمل اسم “السبع بنات” ـ نسبة إلى راهبات مسيحيات ـ  جئن قبل ستين عاماً إلى هذا الشارع، وكان أن تحوّل الشارع إلى اسم ” شارع الشيخ…”، ليتوّج الكاتب خصوصيته الروائية بشخصية مُغايرة،  ب “مَلَك” التي اختارت أن تدخل الأدب المصري الجديد مُمسكةً بيد الروائي طارق إمام.

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم