بالميرو
أحمد الخميسي
سافر إلى "محج قلعة" عاصمة داغستان ليحضر احتفالاً بذكرى أحد كبار شعراء القوقاز. كان يكره السفر لكن الصحيفة أجبرته تقريبًا. بعد سبع ساعات في الطائرة وجد نفسه في حجرة بفندق على بحر قزوين وقد تدلت من رقبته بطاقة "وفد أجنبي". كان برنامج الاحتفال مرهقًا لم يفلت صغيرة ولا كبيرة بدءًا ًمن وضع الزهور على ضريح الشاعر مرورًا بالندوات إلى اللقاءات وغير ذلك، ثم انقلب مؤشر الإرهاق من تكريم الشاعر إلى تكريم الوفد الذي جاء لتكريم الشاعر.
يجلس يبحلق في المنصة التي توالى عليها الخطباء ورأسه يتساقط من التعب. ينعس. يفيق. تهتز بطاقة التعريف المدلاة على صدره كبطاقات المذنبين في ساحة العقاب. قال لنفسه والله لو أن الشاعر نفسه هو الذي يحتفل بذكراه ما تحمل كل هذا. لابد من العثور على كافيه إنترنت لإرسال المقال إلى الصحيفة. ندم على أنه لم يأخذ معه "لاب توب". حزم أمره ونهض رافعًا سبابته في الهواء كأنما يستأذن وخرج يبرطم.
الله على الشارع مشمس منير. سار يتلفت برقبته إلى أن شاهد لافتة على جدار بيت مكتوب عليها "كافيه بالميرو". إلى اليمين تحت اللافتة باب حديدي مشغول بالزهور، وقف بجواره شابان يثرثران. أخرج ما في جيبه من روبلات. تساوي ما قيمته عشرين دولار. المفروض أن تكفي فنجان قهوة ونصف ساعة إنترنت. اتجه إلى الشابين "هل لديكم إنترنت؟". أجابه القصير "سندبر ذلك". هز الآخر رأسه يودع صديقه وأولاهما ظهره مبتعدًا. أفسح الشاب الطريق أمامه. دخل إلى ممر مسقوف بتعريشة عنب تدلت أوراقها. غير بعيد تراصت ثلاث مناضد من البلاستيك الأبيض بمحاذاة سور قصير. كان المكان فارغًا إلا من رجلين يثرثران بألفة وهما يحتسيان الشاي. جلس إلى المنضدة القريبة من باب الكافيه.
اختفى الشاب وعاد بعد قليل يحمل "لاب توب". وضعه وانحنى يسأله بود "ماذا تود أن تشرب؟". أجابه "فنجان قهوة تركي" وحدث نفسه "أدب الجرسونات جسر إلى جيب الزبون". فتح ملفًا في "اللاب توب". بدأ يكتب "محج قلعة مدينة صغيرة بين الجبال الشاهقة على بحر قزوين. ناعسة مثل خاطر هاديء. رست السفن العربية على شواطئها في القرن السابع ميلادي. سادت فيها اللغة والثقافة العربية حتى مطلع القرن العشرين". طقطق بلسانه غير مستريح لمطلع المقال. تقدمت نحوه شابة طوقت خصرها بحزام ملون بالورد. وضعت أمامه فنجان قهوة وصحنًا من شرائح الشمام وشطائر الجبن. ابتسمت تسأله "أي شيء آخر؟". شكرها. "لم أطلب سوى فنجان قهوة، فنجان واحد، لكنهم يضاعفون الحساب بأطباق إضافية. فتاة جميلة كهذه ولا تترفع عن المشاركة في عملية احتيال صغيرة".
جلس الشاب على حافة السور الملاصقة للمنضدة. سدد نظرة إلى شاشة "اللاب توب". قهقه "هل ترسل معلومات سرية؟". أجابه مبتسمًا "نعم. أفشي أسراركم". قال الشاب "أتمنى لو أنك كتبت أن لدينا أشهى لحم ضأن وألذ سمك في القوقاز". حدق بالشاشة "أليست هذه هي اللغة العربية؟". أجابه "نعم" وزر عينيه متسائلا "ومن أين له أن يعرف ذلك؟". استرسل الشاب "جدي كان يقرأ ويكتب بالعربية. كان يعدني كل صباح أن يعلمني إياها لكنه كان يسكر في المساء وينسى". "أكان يسكر كثيرا؟". أجاب "يوميًا. ذات مرة رأيته على غير العادة متجهمًا، فسألته ما بك اليوم يا جدي؟. أجابني اليوم أنا في كامل وعيي"! قهقه الشاب وسأل متوددًا "ما رأيك في قدح شاي بالنعناع؟". قال "جميل". وفكر "ضاعفوا الحساب والآن يخططون للحصول على بقشيش كبير". عاد إلى المقال "يعشق الداغستانيون السيوف المنقوشة والأزياء الموشاة بألوان كبرياء الجبال، والرصاص عندهم أعز من الخبز. لا يخلو بيت من بيوتهم من صور الإمام شامل على حصانه وتحتها عبارته الشهيرة "قدسوا الحرية يا أهل الجبال، كأنها أمهاتكم، ولا يغرنكم ذهب ولا ثروة".
عاد الشاب بفنجان شاي. ارتشف رشفة فوجد سكره قليلاً. "يسرقون الزبون ويستخسرون فيه ملعقة سكر". صاح في الشاب "سكر لو سمحت". "هل تكفي النقود التي بجيبي أم سيتحتم عليَّ تبديل دولارات إلى روبلات؟". أنهى المقال وأرسله إلى إيميل الصحيفة. نهض ولسبب ما وقف الرجلان الآخران وتقدما إليه. راح كل منهما يصافحه بحرارة ويهز يده في الهواء عدة مرات. استفسر من الشاب "كم الحساب؟". أجاب "لا شيء". قال "أشكرك. هذا كافيه ولابد من المحاسبة". أجابه "هذا بيت ليس كافيه". حلت عليه الدهشة "أي بيت؟ هناك لافتة ضخمة مكتوب عليها كوفي شوب بالميرو؟". قال الشاب "نعم، لكن مدخل الكوفي شوب على الناحية الأخرى من الشارع". تعجب "الله! والجرسونة الشابة؟". رفع الشاب رأسه ضاحكًا "أتقصد زينب؟ إنها زوجتي!". قال "والزبائن؟!". أجابه "أي زبائن؟ هما عمي وابن عمي في زيارة لنا". تمتم "لكن؟!". قال الشاب "أنت سألتني عن انترنت وأنا عندي. الشاي وغيره هو واجب الضيافة".
استوثق مندهشًا مستريبًا "بذمتك أليس هذا كافيه بالميرو؟". قهقه الشاب يدق كفًا بكف "والله العظيم بالميرو من الناحية الأخرى"!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة " أنا وأنتِ " الصادرة عن دار" كيان" أكتوبر 2015