1917 .. يا لهذه المُعجزة السينمائيَّة!

فيلم 1917
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد المنعم أديب

يا له من فيلم! ويا لها من تجربة! .. هذا الفيلم الذي سيصير -يقينًا- أحد موادّ الدراسة في معاهد السينما في العالم. فإنَّه فيلم أيقونيّ كما “نظريَّات الكمّ” الفيزيائيَّة. إنها المعجزة التي شهدناها في أوائل العام 2020م، وهي من إنتاج العام السابق. إنَّه الفيلم الذي أزاح -بجدارته- فيلم “جوكر” من جائزة “جولدن جلوب” ليفوز بأفضل فيلم. إنه تحفة العام السينمائيَّة “1917”. ولا أدري ما الذي يُذكر وما لا يُذكر؛ فإنَّ أقلّ ما يكتب في هذا الفيلم كتاب منفصل وحده. لكنني سأحاول بكل جهدي إيجاز الإيجاز في مقال واحد.

الفيلم يتناول فترة “الحرب العالميَّة الأولى”؛ التي امتدَّتْ من 1918:1914م. وهي حرب عظمى تقاتل فيها دول الحُلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا) مع دول المحور (الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، ألمانيا، النمسا والمجر -وكانا دولة واحدة-) وراح ضحيتها عشرات الملايين. اختارها الفيلم حيِّزًا له.

وتناول بدقة عام 1917م، حيث نرى الجنديَّيْنِ “شيفلد” و”بلايك” -وهما من الإنجليز- يجلسان تحت ظل شجرة حين يتمّ استدعاء “بلايك” إلى مقرّ القائد، ويُطلب منه أن يصطحب زميلاً له. فاختار زميله “شيفلد”. وذهبا للقائد ليجدا مفاجأة كبرى ستغيِّر مجرى حياتهما. ها هو القائد يُكلفهما بمهمة تنبيه أحد الفيالق (تنظيم عسكريّ داخل الجيش) -التي تتمركز بالقرب من خطوط العدوّ- بمكيدة دبَّرتها لهم القوات الألمانيَّة لتُوقع بالفيلق كلَّه. وعليهما أن ينقلا رسالة من القائد العامّ إلى قائد الفيلق ليُلغي هجومه قبل الفجر. وقد اختار القائد هذا الجنديّ “بلايك” خاصةً لوجود دافع شخصيّ هو أنّ أخاه أحد ضباط الفيلق الذي سيهلك هو الآخر إنْ لمْ يسرع لتنبيهه قبل بلوغ الفجر القادم.

هنا وفي هذه اللحظة يجد الجنديان نفسيهما في ورطة كبيرة؛ فكيف لهما أن يعبرا أراضي العدو الألمانيّ ليصلا إلى الفيلق المنشود؟! القائد قال بأن الأراضي التي سيعبرونها قد تركها الألمان، لكن عليهما أن يظلا حذرَيْن فلا أحد يعرف ما سيقابلان. إنَّها قصة شابين صغيرين كانا تحت ظلّ شجرة في دقائق سابقة، فأصبحا تحت أمطار الخطر في رحلة لا يعرف أحد عواقبها. وفي الفيلم نرى ما سيصاحبهما من ويلات في رحلتهما، ونرى مصير كلٍ منهما، ونرى هل ستنجح المهمة المنشودة أم لا؟!

ولأنَّ الفيلم يدخل في نطاق الأفلام شديدة الفنيَّة، التي لا تعتمد على قصتها لتقول ما تريد قوله؛ فلا طائل من تتبُّع الرحلة التي يخوضها الجنديان. بل الأجدى وقد انتهينا من التعريف بالفيلم أن نفرغ إلى نقاط القوة الشديدة في الفيلم. وقد تميَّز بالكثير من نقاط القوة. فلنتناولْ كلاً منها على حدة.

قصة الفيلم ليست مناط تميُّزه فإنَّ هذه القصة قد قُدِّمتْ من قبل في أفلام حربيَّة أخرى. لكنَّ ما يمكن اعتباره تميُّزًا -وإنْ لمْ تنفردْ به- أنَّها لمْ تتناولْ الحرب من حيث القادة، بل من خلال البسطاء وأحلامهم، من خلال شابين يافعين لا يعرفان إلا حضن الأسرة ودفأها ليُريك ما هي الحرب حقيقةً وما ويلاتها! .. قصة الفيلم من ثيمات قصص رحلات النجاة. والفيلم بها يدخل تحت تصنيف “حرب”، “دراما”، “مغامرة”. لكنَّه اختار أن يُقدم “الدراما” على الحرب والمغامرة. والفيلم من تأليف مُخرجه “سام ميندز” بالاشتراك. ولا يعد من أفلام التاريخ لأنَّه قصة يقول مؤلف الفيلم إنه سمعها من جدِّه على خلاف أفلام “التاريخ” التي تتناول حوادث بعينها. وقد رسم صانع الفيلم فيلمه على المعهود من أفلام الحرب، وقصص رحلات النجاة. وهذا قد يكون مأخذًا لولا أنَّه ضمَّنه الكثير من المعاني الفكريَّة والنفسيَّة الإنسانيَّة.

اختار الفيلم أن يعرض هذه المعاني عن طريق “التجربة المَعيشة الحقيقيَّة” فنحن نعيش حقًّا في التجربة، أيْ داخلها تمامًا وهذه نقطة الامتياز العظمى في الفيلم. ومعنى هذا أنَّه لمْ يلجأ كثيرًا إلى الحوار؛ فالفيلم كله قليل الحوار جدًّا. إنّ صانع الفيلم جعل المأساة تتحدث، لا الأبطال. هذا هو ملخص الحوار في فيلمنا. إنَّه حوار الطبيعة، حوار الخوف، حوار الرجاء، حوار العيون والوجوه، لا حوار الكلمات التي قد لا تجدي نفعًا في مثل هذه المواقف. مع هذا الفيلم في حواراته القليلة اختار معانيه بدقة، وكثَّفها في حكايا البسطاء لتصل إلى القلوب.

أما عن المعاني وهي واحدة من أكبر نقاط التميُّز في الفيلم. فقد استطاع الفيلم بالإخراج السينمائيّ المعنويّ أن يبرز الكثير من المعاني الرفيعة مثل المعنى الحقيقيّ للحرب وشقائها والويلات التي تنتظر الجميع فيها. نرى هذا في كل مشاهد الفيلم بوضوح شديد. نراه في العيون المترقِّبة، نراه في الأكتاف التي ترتعد من الخوف، نراه في دعاء الجرحى أن يعودوا سالمين، نراه في الرجال الأشداء مفتولي البنية وهم يترجون الإله أن يعيدهم إلى أحضان أمهاتهم كما يفعل الأطفال تمامًا حينما يتيهون في الطرقات. هم أيضًا يشعرون أنهم تائهون في طرقات الحياة، يتساءلون عمَّا جاء بهم إلى هذا الجحيم المستعر الذي لا يهدأ.

نرى معنى “الواجب” وفكرة “التضحيَّة” من أجل الجماعة والآخرين. ولعل ما يبرز هذا المعنى هو الخوف البالغ الذي يعرضه الفيلم في كل دقائقه، والترقُّب الذي في العيون. وبالرغم من هذا نجد الشابيْن اليافعين لا يجدان أمامها إلا الاندفاع نحو نداء الواجب، نجد “شيفلد” وهو يضحي بآخر ما عنده من زاد لأجل طفل صغير ويمضي لا يعرف له مُستقرًّا.

نرى -وهذه إحدى نقاط التميُّز- فكرة “العداء”، و”النظرة إلى العدو”، كيف ينظر كل جانب إلى الآخر. وهنا قد اختار الفيلم ألا يُظهر العدو إلا نادرًا وللضرورة. وكأنَّه يعزز العداء معنًى لا شخوصًا. ويقول لك: ها هو الإنسان أمام عدوه بغضّ النظر عن العدو.

نرى المعنى الأسمى في الفيلم، وأبرز ما قدمه الفيلم من معاني. وهي التحولات النفسيَّة للنفس البشريَّة أثناء الحرب. ويا له من تعبير الذي سلكه الفيلم ليقول ما يريد! فالإنسان في حال السلم غير الإنسان في حال الحرب، بل تكاد لا تعرفه هو نفسه إذا رأيته في الحالين. نرى فيه شابين في ساعات أصبحا على علاقة أشد من علاقة الأخوَّة، نرى فيه كيف تكوَّنتْ أسرة من “شيفلد” وفتاة ورضيعة لمْ يرهما إلا منذ دقائق حتى تودِّعه كأنَّها صارت أمَّه أو زوجته على بُعد دقائق من معرفتهما. نرى كيف يطال العطف والشفقة حتى الأعداء، كيف يصل الإنسان إلى حال لمْ يعدْ فيها محتملاً لرؤية الاختلاف بين إنسان وإنسان فكلاهما واحد في نظره إذا تكاثف عليه الشقاء؛ نشهد هذا بأعيننا عندما نشاهد “بلايك” و”شيفلد” وهما يساعدان الجنديّ الألمانيّ وهو يُحتضر. والفيلم قد ركَّز تركيزًا على هذا المعنى الذي وصفته بـ”التحول النفسيّ للإنسان في الحروب”.

ولكنْ قد يطرأ في ذهنك سؤال: كلّ هذا قد عبَّر عنه بحوار قليل؟! نعم .. لقد استخدم ما يُسمَّى بـ”المشاهد الرمزيَّة” وأهمها:

مشهد لنْ يُمحى من تاريخ الذاكرة السينمائيَّة هذا المشهد الذي نرى فيه البطل “شيفلد” وهو أمام طرقات كاملة تحترق بالنيران؛ وكأنَّه أمام جهنم حقًّا، لكنَّها جهنم الدنيا لا الآخرة. والمخرج يصوره من ظهره وهو يتهاوى من الخوف والتعب، والنيران تملأ الشاشة جميعها، ثم نرى على يساره نافورة قديمة تتشكَّل بخلفيَّة النيران على هيئة صليب “إحدى معبودات ومقدسات الديانة المسيحيَّة”. كانت لحظة بالغة الرمزيَّة وهذا الصليب ذو الخلفيَّة الجهنميَّة والبطل بجانبه، ثم نجد على يمينه إنسان آخر مسيحيّ أيضًا يجري وراءه ليُرديه ببندقيته.

لقطة البطل “شيفلد” وهو يقف متقابلاً أمام قائده والمشهد تنيره خلفيته فقط حتى يظهرا أمام عينَيْ المشاهد وكأنَّهما شخصان رمزيَّان؛ هذا بقُبعة القائد، وهذا بطاقيَّة الجنديّ. وهو يقول له: هذه الحرب ستنتهي بآخر مَن يظلّ واقفًا على قدميْه، وسنرى البطل في النهاية واقفًا على قدميْه. وهي فيها ما فيها من مقارنة بين أحلام القائد، ورغبات الجندي البسيط.

لقطة البطل “شيفلد” وهو يتهاوى من التعب في النهاية وبجانبه نجد شجرة هي الأخرى واقفةً تعاني الهُزال وسقوط أوراقها -كما الجندي تمامًا- لكنَّها تقف صامدةً حتى النهاية. وأيضًا تبرز ما تعانيه الطبيعة من ويلات الإنسان.

وهنا نصل إلى الجزء الأشد بروزًا في الفيلم كله ألا وهو “الإخراج”. فقد استطاع “سام ميندز” أن يضرب مثلاً في الإخراج السينمائيّ سيظلّ يُردد وراءه طويلاً. وهنا أجد في نفسي شيئًا هو أن “ميندز” قد راعى في إخراجه أن يكون مخالفًا ويشقّ لنفسه طريقًا مغايرًا للأفلام الحربيَّة العظمى مثل “إنقاذ الجندي رايان”، “جبل هيجسو”، “دانكارك”. هذا ما كان واضحًا. لقد أراد أن يصنع فيلمًا حربيًّا لينافس به السابقين، ولا يتهمه أحد بالتقليد أو بالتأثُّر. وهنا سأحاول إبراز نقاط التميُّز في أقصى حد من الإيجاز، التي أهَّلتْه ليفوز بجائزة “أفضل إخراج” في “جولدن جلوب”. علمًا بأنَّ كل ما سبق يُضاف إلى الإخراج لسبب بسيط أن المخرج هو المؤلف أيضًا.

لقد استخدم “ميندز” كل ما يمكن استخدامه في إخراج الفيلم. أخرج بالتصوير، بالإضاءة، بالمكياج، وبرمزيَّة المشهد، وبهيئة الصورة الفيلميَّة. لكنَّ أبرز خصيصتيْنِ في إخراجه لهذا الفيلم هما: أنّ كل شيء كان مقصودًا بعينه، أيْ لا وجود لأيّ زوائد أو حشو طوال دقائق الفيلم، والثانية أنَّه التزم بمبدأ أن الكاميرا هي عين المشاهد. ولكي لا ندخل في تعقيدات تقنيَّة دعونا نلخص ببساطة شديدة أهمَّ ما استخدمه.

أخرج بالتصوير فاختار أسلوبًا في التصوير هو ما يُسمَّى (One Shot) أو ما يُمكن ترجمته بـ”أسلوب التصوير المُتصل” أو “أسلوب اللقطة الواحدة”. وتعني ببساطة أن يستمر المصوِّر في تصويره دون أن يقطع اللقطة -لتُركَّب بعدها لقطة أخرى فيما بعد-. وهذا من أصعب الأساليب تنفيذًا على وجه الإطلاق. وقد اختاره المخرج ليحقق مُعايشةً كاملةً شاملةً بين المُشاهد وبين اللحظات المُصوَّرة. وقد نُفِّذ بطريقة مذهلة بل قد لا تصدق أن نصف ساعة كاملة صُوِّرتْ دون أدنى قطع للتصوير. كما أنَّه اختار أحجام اللقطات الكبيرة، والمتوسطة؛ هذا ليُرينا دائمًا البيئة المُحيطة. وهو من أهم أولويات فيلمنا. وقد اختار من الزوايا “الزاوية العينيَّة” (Eye Angle Shot) وهي أن تكون الكاميرا موازية لعين الشخص المصوَّر. ولمْ يخرج عنها إلى التصوير من الزاوية العلويَّة أو السفليَّة إلا لإبراز معنى معين. وكل هذا من الصعوبة بمكان في التنفيذ، بل يكاد يكون حُلمًا.

أخرج بتصميم مواقع التصوير التي كان عليها المُعوَّل الأعظم في إدخال المشاهد في المعايشة للأجواء. أخرج بالإضاءة المختلفة في مشاهد كثيرة، بل تكاد الإضاءة أحد معارك إخراج الفيلم الكبرى التي فاز بها. أخرج بالمكياج أو التزيين ومما يدلّ على ذلك أنّ المكياج في بعض المشاهد قد غُيِّرَ دون مبرر، ما بين ابيضاض بشرة البطل قبل النهاية، وحُمرته وإشراقه في مشهد النهاية وكأنَّه يستقي الحُمرة من الشمس التي تسقط على وجهه. للأسف كان بودي أن أفصِّل أكثر في جانب الإخراج لكنَّ التفاصيل فنيَّة تقنيَّة قد تخرج القارئ الكريم من حيز المعاني التي بالفيلم.

وهناك أمور أخرى تستحق الإشادة مثل الموسيقى التي لعبت دور الحوار مع اختفائه المستمرّ، مثل الإشادة العُظمى بإدارة التصوير وطاقمه، مثل ذكاء المُلصق الدعائيّ للفيلم وجماله وأناقته، وغيرها. لكنَّ المقام يضيق بنا، الأهمّ أنّ المعاني لا تضيق.

وفي النهاية هذا هو الفيلم الذي يمكن أن نطلق عليه “فيلمًا حقيقيًّا” قدَّم فيه صانعه موازنة تامة وشاملة بين الفنّ والمعنى؛ ليُخرج لنا في النهاية أحد أعظم أفلام التاريخ التي ستظلّ محفورة في سماء الفنّ العالميّ.

مقالات من نفس القسم