“فيلليني” الذي صنع فيلماً من لا شيء!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
   حنان هاشم  كيف يمكن لأي إنسان أن يحقق أحلامه إلا إذا كان مخرجاً؟ الحقيقة. ليس هذا هو السؤال الصحيح، السؤال سيصبح في محله إذا كان كيف يمكن لمخرج أن يحقق أحلامه إلا إذا كان "فيدريكو فيلليني" ذاته ؟ "فيلليني" الذي لم يخش أن يطرح جنونه وخيالاته أرضاً وينام فوقها، ويقدمها على طبق سينمائي شهي لمشاهد مجنون.                                      بدأ "فيدريكو فيلليني" فيلم "ثمانية ونصف" الذي قدم للمشاهد في عام 1963، من النقطة التي تاه فيها هو شخصياً، عندما شعر بالاضمحلال واليأس من كونه مبدعاً ذا خيال فقير أو كما تخيل وقتها، فقرر أن يقدم سيرة ذاتية عن هذا التيه الذي عبر خلاله ليكتشف أنه إذا أردت أن تصنع فيلماً جيداً ما عليك سوى أن تقدم الجنون وتغلفه بقيمة سينمائية. صنع "فيلليني" في "ثمانية ونصف" فيلماً داخل فيلم، هو فيلم يحكي عن مؤلف أفلام اسمه "جويدو" يقوم ببطولته الممثل الإيطالي "مارشيلو ماستروياني"،  والذي يقع في أزمة إبداعية، فهو ملزم بتسليم سيناريو لا يعلم عنه شيئاً، فيماطل في الاتفاقات ويعطل المنتج ولا يعطي الممثلين أدواراً؛ لأنه ببساطة لم يكتب حرفاً من هذا الفيلم أبداً، لا من قبل ولا حتى من بعد أن تمت صناعة الفيلم. فنكتشف أن "جويدو" هو "فيلليني" الذي قرر أن يقدم نفسه وأزمته الإبداعية من خلال تلك الشخصية وهذا الفيلم السريالي. هنا يقدم "فيلليني" ما أستطيع أن أسميه الحبكة الفانتازية حيث لا يوجد سيناريو ولا أدوار تذكر لممثلين، ولكن يوجد فيلم بطله الأوحد عقل المخرج. الأحلام هي لغة "فيلليني" للإفلات من كل شيء يستهل الفيلم بحلم، وفي هذا الفيلم لا تنزعج من كونك تتسكع داخل رأس "فيلليني" أو شخصية "جويدو"، لأنك ستخرج من حلم لتدخل آخر، وتلك هي اللغة السينمائية التي كون بها "فيلليني" فيلمه، مجموعة من مشاهد الأحلام ليست بالطبع بغرض التكرار؛ بقدر ما كانت هي الأكثر تعبيراً عن الرموز والتفاصيل التي ألقى بها "فيلليني" في وجه المشاهد، دون أن يمرر تفسيرات، كالرموز الدينية، السياسية، والجنسية، ولأنها أحلام فلم يكن مطالباً بتفسير تلك الرموز، التي صورت في مشاهد أقرب إلى الحركة والتمثيل المسرحيين تأكيداً على عدم تحقق تلك الخيالات في الواقع المعاش، كذلك الديكور والإضاءة التي استخدمت في هذه المشاهد كانت أقرب للمسرحية منها للسينمائية؛ كما لجأ "فيلليني" في مشاهد الأحلام لمواقع تصوير متسعة تحوي عمقاً ليس اصطناعياً أو وهمياً، وتتخللها إضاءات طبيعية قوية كضوء النهار الساطع، والحوارات في تلك الأحلام كانت ثرية بالرموز النفسية التي تفكك شخصية "جويدو" وتجعل المشاهد يتقبل غرابة الشخصية بسلاسة.                الحلم في بداية الفيلم قدم كبرولوج مسرحي طويل من خلال لقطات متتابعة عرضت عدة تكوينات متخمة بالأداء التمثيلي المسرحي، كذلك التصوير وحركة الكاميرا التي جالت في مشاهد طويلة نسبياً محاولة التخلي عن عملية المونتاج قدر المستطاع، والحقيقة أن مشاهدة الفيلم ستجعلك تفهم هذا الحلم جيداً حيث يقبع "جويدو" داخل سيارته التي تحترق وسط اختناق مروري وكل من حوله لا يعيرونه اهتماماً، وهذا ما كان يشعر به طوال الفيلم؛ عقله صاخب لكنه لا يشعر باحتواءه أفكاراً ذات قيمة، ومن حوله لا يتفهمون دوافعه للقيام بتصرفات غريبة الأطوار دائماً. الفيلم لا يخلو من الرمزية لأمور كثيرة، كـالإشارات عن تشتت النخبة المثقفة، وسلطوية الدين وكهنته، وتفريغ القيم السياسية من أساسها وتحويلها لمصطلحات استعراضية في حوارت النخبة وسهرات الأصدقاء، وكان منفذ "فيلليني" - حسب اعتقادي-  للهروب من وطأة اللوم الاجتماعي، هو الأحلام التي لعب بها كـتيمة ثابتة في "ثمانية ونصف"، حيث مرر من خلالها كل انتقاداته للمجتمع الإيطالي في هذا الوقت، واستياؤه من الجيتوهات/ المجتمعات الصغيرة الناشئة في روما، وكانت تلك الأحلام والذكريات بمثابة الوسيط النفسي بين "فيدريكو فيلليني" وداخله، والتي تمكن من خلالها استعراض كل العبث والفانتازيا التي نتجت عن أزمته الإبداعية بصورة تجعل المشاهد يجاهد في تحليلها بشكل منطقي. وأنا أشاهد الفيلم كنت أشعر وكأني أجري وراء فيلليني ولا أستطيع ملاحقته، فهو يخرجني من قضية إلى أخرى لا تمت لها بصلة، ثم يخرج لي لسانه ويقل كنا فقط في أحد الأحلام دعينا نلحق حلماً آخر، بين الدين والنساء والكتابة وعلاقته النفسية بأبويه وذكريات طفولته، صور تلك الأحلام كما كانت تدور بمخيلته تماماً. "فيلليني" كان يمتلك العصيان لمواجهة القضايا الشائكة في هذا الوقت في المجتمع الإيطالي، والتي لم يكن ليستوعبها الجمهور من المشاهدين، اللذين اعتادوا لفترة طويلة مشاهدة سينما "التليفون الأبيض" والتي كانت تحتضر في ذلك الوقت، فتعرض في الفيلم لتأثير وتحكم رجال الدين بالمنتج الفني في تلك المرحلة، واللذين بدورهم عرضوا عليه الخلاص من الجنون الذي يعيشه، والتكيف مع روح الكنيسة الهادرة لرؤية الجمال الحقيقي، ففي حين يرى الكاهن أن الجمال يكمن في تأمل السماء والاستماع إلى نواح الطيور على غرار الكليشيهات السينمائية، فإن "جويدو" يرى الجمال يكمن في التفاصيل، فجل ما يلفت انتباهه في المشهد قدمي امرأة متسخة تعبر في طين الأرض، هو دائماً يرى الجمال في تلك التفاصيل المعقدة، حيث حشدت ذاكرته ذلك الجمال القديم واحتفظت به في مشاهد متعددة، بعيداً عن الجمال المزيف بالألوان والأساطير الكاذبة، ففي ذاكرته تسكن "ساراجينا" إحدى محبوباته تلك المرأة المجنونة التي أدتها الممثلة "إيدرا جايل" والتي كان يطلب منها الرقص هو وأصدقاؤه، ويستمتع بمشاهدة رقصها إلى أن عاقبته أمه على ذلك. نساء "فيلليني" الثائرات الشخصيات في "ثمانية ونصف" حملت أبعاداً نفسية عميقة، حيث لا ترى شخصية سطحية مهما كان صغر حجم الدور الذي تؤديه، والحقيقة أن "فيلليني" بارع في سرد رحلة كل شخصية، حتى أنه صرح ذات مرة بأنه كان يكتب أفلامه بناء على تخيله للشخصيات وسلوكها وتاريخها، ومن ثم يشرع في الكتابة على هذا الأساس. يذكر "فيلليني" في كتاب سيرته الذاتية "أنا فيلليني" أن الناقد الفرنسي الأصل "أندريه بازان" منح أفلامه مصطلح "سينما المؤلف - Cinema Auteur"، وأنه أول من حظي بهذا التعريف بعد عرض فيلمه "ليالي كابيريا" عام 1957.          تجلى تجسيد "فيلليني" للشخصيات بتعقيداتها النفسية في "ثمانية ونصف" بمشهد الحلم بالثورة النسائية ضد "جويدو"، حيث كان يحلم بأن كل النساء في حياته ومن ذاكرته يعشن بالمنزل ذاته ويكرسن حياتهن لإسعاده، حتى زوجته "لويزا" المثقفة والعنيدة والتي قامت بدورها الممثلة "أنوك إيمييه" عاشت في الحلم كسيدة لا تهتم سوى بشئون المنزل وإسعاد زوجها، أعتقد أن "فيللني" كتب أحلامه كما رآها وتمناها تماماً، فكل النساء في الفيلم كانت تدللنه وتقدسن كلماته إلا "لويزا" زوجته على عكس ما أراد، لكنهن في لحظة ما من هذا الحلم يرون كل عيوب هذا الرجل ويثرن عليه، وهذا ما يواجه به "جويدو/ فيلليني" نفسه في عقله الباطن المحرك الأساسي لحلمه، هذا المشهد أيضاً أتخم بالإضاءة والتصوير المسرحيين، كتصوير الممثلات تحت بقاع إضاءة مخصصة لحركاتهن، وكأنه كان يقوم بتصوير استعراض غنائي على أنغام موسيقى المؤلف الإيطالي "نينو روتا". فيلليني في هذا الفيلم يرينا كيف يصنع المبدعين معجزاتهم من خلال التماهي مع الفوضى والجنون، ليس في زمن محدد ولا مكان معين، فقد قدم في "ثمانية ونصف" العديد من الحكايات والمشاهد، التي لو تفككت لأصبح كل منها فيلماً قائماً بذاته؛ رأسه المدجج بالصور السينمائية واللغة الشعرية، كان عليه أن يصل إلى نقطة نظام في حربه مع تلك الفوضى.                     هنا علينا أن نقدر فكرة أن "فيدريكو فيلليني" صنع فيلماً من لا شيء، وأقصد أنه قدم ما في مخيلته متخلياً عن المنهج السينمائي الأكاديمي كحال أي مبدع مجنون، في حين كان متمسكاً باختبار ألعابه في مواقع التصوير، لذا كان "مارشيلو ماستروياني" مرآته وظله في هذا الفيلم، فكان "فيلليني" يحبه ويقول أنه يأتي إلى موقع التصوير دون استعداد أو قراءة للحوار، ليسقط في بؤرة التجريب التي طالما قدسها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم