“19 ـ ب”.. حين يقف الماضي بمفرده للمقاومة

19 ب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهى محمود

“في قلبي غرام يفكرني بأيام الهوى الحلوة”..
بطل عجوز تمتزج في وجهه خطوط الزمن والراحة في عزلته، وبيت قديم متداع يتكئ على أعمدة خشبية، وقطط وكلاب تشرب وتأكل معاً من أطباق واحدة في تنام، كوب شاي بالنعناع وصوت محمد عبد المطلب قادم من مذياع متهالك وقادر على تمرير الجمال مثل كل ما حوله.
قدم المخرج أحمد عبد الله السيد تجربته الجديدة “19 – ب” بعد عدد من الأفلام التي صنعت له حضوراً وبصمة ومنها ليل خارجي وميكروفون وفرش وغطا، وبإنتاج محمد حفظي الذي امتازت افلامه بالاختلاف وإثارة الجدل مثل شيخ جاكسون واشتباك.
فيلم جديد حصد جائزة هنري بركات لأحسن إسهام فني بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ويصور قصة حارس عجوز (سيد رجب) يعيش في قصر مهجور ومألوف في الوقت ذاته، قطعا مررت جوار مكان مثله، توقفت قليلا وتأملت الزمن وأفعاله وفكرت كيف كان البيت عندما كان شابا وحيا..
الرجل يعيش في عزلته، بروتين بسيط وثابت يبقيه منشغلا ويشعره أنه يستحق معاشه الذي يذهب كل أول شهر ليسحبه من ماكينة البريد، ليشتري احتياجات بسيطة، مثل كيس لبن يتقاسمه مع القطط في البيت، الشاي والجبن الابيض.

رغم أن حجرات البيت فارغة وكبيرة إلا انه ينام في حجرته كحارس عقار، يجلس في التراس مع صوت عبد المطلب “في قلبي غرام يفكرني بأيام الهوى الحلوة”، يشرب الشاي ويتناول فطوره بعد ان يملأ الماء لكلاب الشارع التي يستضيفها في البيت، وعلى رأسها عنتر؛ كلبه المفضل منها جميعا.
لعبة الظلال والظلام التي تبقى البيت نائما، طوال الوقت رافعا يافطة غير مرئية: كانت هنا حياة وبشر وتلاشى كل شيء، إلا أننا لا نستطيع أن نتورط مع حالة البيت لأن الرجل العجوز يبقى كل شيء متماسكا، يقاوم الفناء لأنه شيئا داخله يخبره أن فناء البيت يعني بالضرورة زواله هو الآخر، فيختبئ من رجال ومهندس الحي ليمنعهم من الدخول لسحب الأعمدة الخشبية التي وضعوها سابقا، يبقى الباب مغلقا بالقفل الحديدي، يضع صخرة كبيرة عجوزا مثله على باب العقار ليمنع السايس القبيح احمد خالد صالح من استغلال المساحة لركن السيارات، يغضب دائما ويقول إن المكان مدخل عقار وإن العقار له أصحاب ولا يمكن استغلال هذه المساحة.
الصخرة التي تتدحرج طوال الفيلم جيئة وذهاب من داخل البيت لخارجه، من ضفة الشارع حيث البيت للناحية الأخرى حيث السايس، علامة على الحرب التي لا تهدأ بين الطرفين في نظرات التحدي والغضب بينهما.
البطل هنا طوال الوقت في حالة مقاومة، يصلح الأسلاك التي تقضمها الفئران ليحصل على كهرباء تكفي لمبة صغيرة يضيئها في المساء، كهرباء كافية لتسخين ماء لكوب الشاي ولانبعاث صوت غناء بطيء وشجي من المذياع.
يقاوم السايس القبيح مثل مهنته وثقافته وزمنه، وماضيه الذي تعرف أنه كان هنا من قبل ثم غاب سنوات، وعندما عاد احتل مكان والده وأعاده لبلده، استغل عمله كسايس في الشارع واشتغل في بيع السجائر المهربة والخمر وربما أمورا أخرى، وكان صراعه مع الحارس ليتكمن من دخول البيت الكبير القديم الذي لا يسأل عنه أحد ولا يهتم به أحد، بينما الحارس يستمر في المقاومة والرفض، يقاوم لينقذ عالمه القديم الهادئ الذي يألفه ويحبه، ضد غزو واستباحة مساحته الخاصة هو والبيت وذكرياتهما معا
الحارس العجوز وصديقه حارس العمارة المجاورة، وأعواد النعناع بينهما، جارته الدكتورة كما يناديها الجميع طوال الفيلم والتي تعاونه بإحضار بقايا طعام كثيرة تكفي لكلابه وقططه، وتزوره احيانا لتلعب مع الكلاب والقطط الصغيرة الوليدة..
الدور قدمته فدوى عابد وهي ممثلة شابة لكنها ستصبح نجمة كبيرة لو توفرت لها الأدوار الحلوة، مثلت دورا أول في مسلسل سابع جار أجادته جدا حتى ظن الجميع أنها لن تتمكن من الخروج من الدور، لكن شعورا طيبا جدا وسعيدا انتابني كلما ظهرت في كادر من الفيلم ، إذ تبدو بسيطة وحقيقية.
ابنته التي تلعب دورها ناهد السباعي، والحقيقة ان ناهد تتوهج في هذه النوعية من الأفلام، تبدو جادة وساكنة تماما في مكانها، وكأن هذه الدور هو ما تفعله طوال حياتها، ابنة حارس عقار أمضت طفولتها وشبابها في ذلك المكان مع والديها، تزوجت لكنها تعيش حياة تعيسة، تذهب للعمل وتنفق على بيت الزوجية وتجيء لتزور أبيها من الحين للآخر تحضر له الطعام، تأكله معه وتؤنسه ثم تغادر سريعا، وكانت لها قصة حب حزينة ومؤلمة مع السايس الشاب مما أشعل المزيد من طاقات الكره والغضب بين السايس وبينها هي وأبيها حين عاد.

19 ب
يقاوم العجوز وصديقه وابنته، فرض السايس لإرادته بالقوة وقضم قطعة من البيت حجرة ليخزن بها تجارته، وينام فيها مزعجا البيت والعجوز الذي أخذ كنبته الخشبية ونام في حديقة البيت بينما تصدح من البيت موسيقى راب سريعة ورائحة مخدرات وقبح يمشي في البيت حيث السايس ورجاله.
يستغل الرجل العجوز الحيلة ليخرج السايس من البيت، يفتح الماء حتى يغرق البيت والبضاعة، لكن ذلك لا يكفي، يوسط صاحبه ليتصل بوالد السايس، ثم يبحث مع ابنته عن محامي ورثة العقار، وعندما لا يجد لديهم جميعا أي حل تبحث ابنته عن أصحاب القصر البنات المهاجرات على صفحات الفيس بوك.
لكن لا شيء يفيد.. هو وحده في مواجهة القبح، هو وزمنه وشيخوخته.
يموت الكلب عنتر مسموما من أحد جيران الشارع، تبكي الدكتورة ويحمله هو في صمت ليدفنه في حديقة البيت، تعبر نغزات الجاروف في الأرض عن غضبه وحزنه، تفشل كل محاولات إنقاذ البيت من الوافد المغتصب وعصابته..
منح صديق البطل نصيحته له، اقترب منه وهمس/ نصيحتي لك ألا تنتظر أن يجيء أحد لمساعدتنا، قال له: إحنا لوحدنا
مست الكلمة قلبي خاصة عندما أتكأ عليها الرجل كمطرقة / كمفتاح وحل لمعضلة مظلمة مهدت لاشتباك غير منطقي بين عجوز متهالك مصاب في قدمه وبين شاب ضخم وشرس ممتلئ بالكره والغضب تجاه الجميع، يكتب على قدمه أسماء بشر أهانوه وكان ينوي الانتقام منهم ومعاقبتهم لكنه كما قال للحارس العجوز في جلسة فضفضة ليلية بعدما شرب الحشيش وترنح أنه لم يستطع فعل أي شيء، وأن الحياة داسته بقدمها ولم يفعل شيئاً.
جاء الاشتباك في الليلة الأخيرة، كنتيجة حتمية للتصاعد والاحتقان بين الطرفين. اشتبكا وتكورا معا خارج البيت، ضرب الولد العجوز بقوة، وغرس العجوز قطعة زجاج من الشرفة المكسورة في عنقه، ثم جاءت إرادة البيت وغضبه هو الآخر، ورغبته في الهدوء والعزلة، ومساندة حارسه العجوز مثله.
ضرب البيت هو الآخر، قذف صخرة كبيرة في اتجاه رأس السايس فحطمه..لم تسقط عليه، زاوية الضرب لا تخطئها عين مشاهد، لقمه البيت بالصخرة كسر رأسه بقوة وإرادة وغضب.
لحظة واحدة بعد هذا الأحداث السريعة والعنيفة خارج إطار الفيلم والبطء والتناغم، شجار ودم وظلام وضوضاء ثم….
الحارس العجوز وصديقه وأكواب الشاي وحوض النعناع بينهما.
يسأله صديقه عن سبب الضوضاء ليلة أمس، يخبره أنه لم يسمع شيئاً ثم ينظر نحوه بابتسامة وتواطؤ، ويسأله: هل كانت الضوضاء عالية قبل أن يجيبه الآخر بأن “مفيش حد مركز مع حد”، وتتعالى ضحكتهما التي تمتزج بابتسامة البيت والصخرة الكبيرة التي تحجز مكانها أمام باب القصر، وكلب صغير يلعب مكان عنتر ابتسامة رضا وانتصار ملأت المكان ثم صوت محمد عبد المطلب: “في قلبي غرام يفكرني بأيام الهوى الحلوة، وذكرى هواك تسهرني.. واقول أنساك يحايلني ويغلبني زمان ودك”.

مقالات من نفس القسم