وصية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الشربيني عاشور

أزاح بابَ الغرفةِ بهدوء، وبخطواته المجهدة البطيئة وجدته أمامي؛ فقفزت من تمددي على الكنبة آخذا بيده ليَقْعُد.

كانت الساعةُ تشير إلى الحادية عشرة والنصف ليلا. سألته إن كان متعبا. فنفى.  وقال:

ــ معاك سجاير.

أخرجت علبة سجائري من درج مكتبي، مددتها إليه. سحب منها سيجارة، أسرعت بإشعالها له. وجلست إلى جواره على الكنبة صامتا.

قال: ولع لك سيجارة. عاوز أدخن معاك.

قلت بانزعاج: مستحيل!

قال: أنا أبوك، وانا اللي باقول لك.

غمغمتُ مرة أخرى:

ـ مستحيل أدخن قدامك. مش كفاية إنك عارف إني بادخن!

أضاءت وجهَه المتعب ابتسامةٌ خافتةٌ، وقال:

ـ تعرف مين اللي علمني التدخين؟

قلت متحمسا: مين؟

قال وهو يَعْبُرُ بابتسامتِه الخافتةِ إلى ضحكتِه الساخرةِ الجميلة:

ـ أبويا، هأهأهأ، جدك هو اللي علمني، في يوم قاعد معاه، وهو بيدخن ” الجوزة “، مد لي ” الغابة “، وقال لي  “خد دخن، انت خلاص كبرت وبقيت راجل، هأهأهأ “.

راقبتُ ضحكتَه وهي تخبو ببطءٍ وهدوءٍ على ملامحه التي بصمها المرض، إلى أن تلاشتْ الضحكة تماما، ثم قال:

ـ ما احبتش أنام قبل ما أقول لك حاجة.

شعرتُ بالقلق ناعما يتسربُ نحوي، وقلت باهتمام:

ـ اتفضل.

قال:

ـ لما أموت اوعى تخاف من الدنيا، وماتبكيش، ادفني، وارجع شوف شغلك.

في اليوم التالي ـ ويا للعجب ـ مات!

دفنتُه، وحبستُ دموعي عليه في أرضٍ بعيدة. لكن دموعي الحبيسةَ أنبتتْ مع الأيامِ شجراً، وأصبح الشجرُ غابةً، كلما أحزنني شيءٌ رحتُ أركضُ في ظلالها الكثيفة!

مقالات من نفس القسم