تِلْكَ الغُرْفَة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

الحياةُ عبثٌ مَحضٌ..

استأجرت غرفةً.. غرفة بلا نوافذ.. غرفة يتيمة بها مرحاضٌ، لم يكن المرحاض مستقلاً بل كان جزءً من الغرفة، عند مدخلها تماماً. وضعتُ طاولة على بعد مترٍ من المرحاض. كان المستجير قبلي رغب عن أخذها عندما رحل حسب ما قالته مالكة الغرفة. وضعتُ فوقها الفرن الغازي والقليل من الأواني التي تفضلت مالكةُ الغرفة بمنحي إياها يوم استلمتُ الغرفة. لم أكن أستعمل من تلك الأواني غير إبريق الشاي والكأس المزينة بصورة لعصفور يحط على عرش شجرة لأني كنت أقضي اليوم كله في الخارج وأتناول وجباتي كيفما اتفق. وضعت قرب السرير الحديدي نظاراتي الطبية، وصندوق الكارتون المقوى الذي أحتفظ فيه ببعض الكتب وألبوم الصور؛ هي كل رأسمالي أو ما تبقى منه. أنظر إلى تلك الكتب كأنها أحياء تبادلني النظر بحزن وشفقة، وتبكي مصيرها في غرفة بلا نوافذ.

ما كنت أتخيل أنني سأعيش، يوماً، في بيت أو غرفة دون نوافذ. النافذة رئة يتنفس المرءُ منها.

أمدُّ يدي إلى مكسرات؛ هي كل ما تبقى لي من أمس، أقضمها قضمات صغيرة، أمضغها وبصعوبة أبتلعها.. أعب نفساً عميقاً من السيجارة وأرشف من كأس الشاي رشفات متتالية.. أرفع الكأس إلى مستوى عينيَّ وأتأمل العصفور وهو يحط على عرش الشجرة حرّاً طليقاً بينما أقبع أنا هنا محاصراً بالجدران ومحروماً من نافذة أطل منها على الخارج. أضع الكأس وأحدث نفسي:” ماذا كانت ستخسر مالكة الغرفة إن هي فتحت نافذتين؛ واحدة تطل على المنور وأخرى على الشارع.. كنت على الأقل سأتلصص من النافذة المطلة على المنور على النساء اللائي يحضرن كل مساء، يتحلقن حول إبريق شاي ويقضين غالبية الوقت في جلد أعراض الناس”.

في الحقيقة استأنستُ بأصواتهن وضحكاتهن، وكلامهن الفاحش في بعض الأحيان. كوَّنتُ عن كل واحدة منهن صورة في مخيلتي، ووضعت لكل واحدة منهن اسماً حسب موضوع حديثها المفضل أو ضحكتها، أما صاحبة الغرفة فصورتها راسخة في ذهني ولم أضع لها اسماً لأني عرفته يوم استأجرت الغرفة، هيئتها تثير فِيَّ الضحك، فهي امرأة مكتنزةٌ تميل إلى القِصَر وبشعر أشعث وصوتٍ رجولي خشن.  كلما جاءتْ لاستلام إيجار الغرفة، أو التقيتُ بها على السلم وأنا خارج، أخفي ابتسامتي حتى أتقي غضبها عليَّ وإمكانية طردي من الغرفة.

لو كان للغرفة نافذة تطل على الشارع لشاهدتُ ما لا أستطيع مشاهدته وأنا بالداخل؛ لشاهدتُ الحلاق الذي يظل يتحدث للزبائن عن الفضائل والأخلاق وإذا ما مَرَّت امرأة أمام دكانه توقَّفَ عن الحديث أو قصِّ شعرِ رأس زبونٍ وأطل متابعاً خطواتها إلى أن تغيب عن ناظره فيعود ليتابع حلق رأس زبونه وهو يبتسم ويهمهم بكلمات غير واضحة أو تستدعي تنهداً من جوف صدره.

ولو كان للغرفة نافذة تطل على الشارع الخلفي لتابعت المعارك التي تنشب، أحياناً، بين بعض مرتادي المقهى؛ لاعبي الورق والنرد والتي غالباً ما تنتهي بتكسير الكؤوس والقنينات ورمي الكراسي إلى طوار المقهى والشارع. ولتابعتُ، أيضاً، المشاداتِ الكلاميةَ والتدافعَ بالأيدي والأرجل بين الفتيات والنساء وهن يتعاركن قرب حنفية الحي حول أحقية الأسبقية للسقي. ولو كان للغرفة نافذة.. ما علينا، الآن يجب أن أتعايش مع وضعي الجديد وأن أبعد فكرة النافذة من ذهني. فأنا عشتُ في منزل ريفي لم يكن به نوافذ.

أقعد على حافة السرير، آخذ ألبوم الصور.. أقلب صفحاته أقف عند صورة بيتنا وأمي تطل من النافذة.. تلك النافذة التي أغلقها أبي بأجُرٍ وإسمنت يوم ألفى أختي تطل منها وتبتسم إلى شاب من شباب القرية..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون