في انتظار اللاشيء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 " في  أعماق المقهي الصّاخبة ،

   يجلسُ وحيداً، رجلٌ عجوز،

    محْنيّ الرأس أمام المنضدة،

 و أمامه جريدة "

  يقولون أن للأمكنة ذاكرة مثل البشر ، ما ان يدخل امرءٌ ذو قلب صافٍ في محيطها ، إلا و تنهال عليه معلومات المكان أو ما يتّصل به من دون ان يطلب ، لا أدري أأملك أنا قلبا صافيا أم لا لكي يهبني هذا المكان ، و يسترجع عقلي تلك القصيدة ، لندع قضية القلب الصفي تلك لنقاش آخر ...

 

  ” في أعماق المقهي الصاخبة …”

  كانت ٍ تلك هي الكلمات التي كتبها الشاعر اليونانيّ: قسطنطين كفافيس، أتت علي ذهني بينما كنت أجلس و برفقتي تلك الانثي الجميلة في مقهي القهوة البرازيلية في محطة الرّمل بالاسكندرية ،و لا عجب ؛فكفافيس قد عاش زمان طويلا في الإسكندرية –علّه زار تلك البقعة- و لكن أظن ما جعلها تأتني في هذه اللحظات بالذاتٍ هي عندما شرد بصري و رأيتها … هي هي كما هي  لم تتغيّر..

مرّت الذكريات كشريط سينمائي ..

فلاش باك إلي الماضي ،

موسيقي تصويرية : سوناتة باخ الاولي  و صوت كفافيس يواصل إلقاء القصيدة..

 

” في رتابة شيخوخته البائسة ،

يتأمّل…”

  تلك العيون التائهة التي لا تدري عن اي شيء تبحث ،حائرة ،كالعادة تشرب قهوتها الصباحيّة المعدّة بعناية و لكن ، بنكهة الضجر المعتادة ..

 كانت –و مازالت- تعمل في مكتبة الإسكندرية ، كنتُ دائم التردد بصفة يومية تقريبا هناك ،فحفظتني ، لأنها تعمل كمنسقة هناك و مساعدة ، كنت اذهب إليها و أسأل عن كتاب ما فتطبع اسمه علي الحاسوب ، و تكتب رقم رفّه و مكانه بالضبط ،و بطبيعة الخال يتكرر الحدث فتعارفنا ،

توطدت الصّلات عندما صادفتها في مثل هذا المكان من خمسة عشر عاما ..هي كانت في الثلاثين و أنا كنتُ في العشرين ..

 

 

      ” يتأمل ،كيف أنه قليلا ما استمتع بالأعوام ،

حين كانت لديه القوة و الفصاحة و الجمال

 

   يوما ما كنت واقفا أتحدّث إليها ، وهي علي مكتبها وسط الكتب و الرفوف ،ثم شرد بصرها لم ادري إلي اين ثم قطعت الحديث فجأة و قامت من مكانها و تحرّكت بسرعة و كأنها مسرنمة ، تابعتها ، فوجدتها توقفت عن شاب و بنت كانا يجلسان علي طاولة متقابلين بتادلان مسك ايديهم و تمتمان بما يضحكانهما معا ” أعزائي ، لستما تجلسان علي الكورنيش أو هذا مكان المغازلات !،هذه مكتبة و هذا مكان محترم “ هكذا زعقت ،” هذه خطيبتي “ هكذا ردّ الشاب ببرود ..

                         . . . . . . . . . . . . . .

تتصاعد الموسيقي في رأسي ، و صوت كفافيس يملؤ الخلفية بوقار :

” يعرف انه قد شاخ كثيرا ، يري و يحسّ ذلك،

إلا أنه يبدو كأنه كان شاباً بالامس “

                         . . . . . . . . . . . . . .

   تصاعدت الاصوات و جاء الأمن ، ثم تركتهم و هي تتحدث بصوت عال و عادت ، أعتذر منها الأمن و ما ان ذهبت حتي أقترح علي العاشقين مكانا آخر مع توخّي الحذر ، هكذا فهمت من الإيماءات ، ” قلّة حياء” هكذا قالت ، و أسهبت في وصف ما يحدث عادة هنا من محادثات حب،مغازلات ، مناقشات حميمة ..

                         . . . . . . . . . . . . . .

     ” يا له من زمن قصير ، قصير للغاية..”

        بعد اسبوع إلتقيتها صدفة في ذلك المقهي الذي اجلس به الآن ناظرا إليها مسترجعا ما حدث ، توجهت إليها ، تفاجأت ، تجاذبنا اطراف الحديث، عرفت أنها تاتي يوميا إلي هنا ، تتناول القهوة الفرنسية-بالمناسبة ، كانت تتحدث الفرنسية ، و اخبرتني يوما بنيّتها في الهجرة خارج مصر ن لم تعد تطيق العادات و التقاليد البالية هنا – ثم ذهبنا إلي المكتبة معا ، هي إلي عملها ، و انا إلي مطالعتي ,,,

                         . . . . . . . . . . . . . .

” يتعجّب كيف خدعته الحكمة ،

كيف كان يصدّق دائما –ياللجنون – …”  

   كانت ناشطة في منظمات عدّة للدفاع عن حقوق المراة–يوما ما أجروا جوارا صحفيا معها لأنها كانت تصطحب معها شاوكشا للدفاع عن نفسها ضد التحرّش- ” الرجل الشرقي لا يعرف كيف يغازل الأنثي ، يفكّر أنها خُلِقت لتكون جاريته” هكذا قالت لي في إحدي المناقشات ، كنتُ أُوميءُ  دوما بالموافقة علي ما تقول مشجّعا إيها لتقول المزيد ، الغريب أنها كانت تتعامل بضحك و كأنها طفلة كبيرة ، ، صباحا هي في المكتبة ، ومساءا في المراكز الثقافية الفرنسي ، اليوناني –بالمناسبة ، هي من عرّفني علي كفافيس – في التظاهرات ، في الإعتصامات، كانت معجبة جدا بالشاعرة و الصحافيّة جمانة حداد ، و كنت أعرفها و تعجبني جدا إتساع ثقافتها و نشاطها الدّائم ، أطلعتني علي ديوانها المُصادر ” جُمانيات”  إعجابها بجمانة كان له وجه آخر و كأنها أحد أشباهها !! و لكن شتّان !!ٍ

                         . . . . . . . . . . . . . .

” كيف كان يصدّق –ياللجنون –

تلك الكذبة التي تقول :” إلي الغد ، فلديك وقت وفير”

      >> هل لكِ حبيب؟هل أحببتِ يوما ؟ << سألتها يوما ما بعد أن زالت بيننا الكلفة ،

 قالت  :” كلهن عاهرات ، و الشريفات منهن ناقصات فرصة فقط ، أليس هذا ما تؤمنون به أيها الرجال ” ثم قهقهت و قال : ” حب ؟ نحن في زمن الماديات يا صغيري ليس زمن المشاعر!!” ثم قالت هازئة:” ما هو شكل الحب صفه لي ؟ أله شكل ها ها ها ”  قلت لها باسما :” كل ما يحدّ الفراغ يصنع شكلا ، و لكن ليس ما ليس له شكل و لا يُري ليس موجودا ،؛ فالهواء خفيف و غيابه لن يجعلنها احياءً هنا نتجاذب أطراف الحديث!! و لو كنت أكرهك لما كنت الآن صابرا محاولا أن أعطيك هذا الدرس” ثم ضحكَتْ ، و ضحكْتُ و قالت : ” يا لك من فيلسوف ، و لكن ليس هذا زمن أفلاطون يا صديقي ، ما زلت صغيرا !!”

                         . . . . . . . . . . . . . .

“يتذكّر النزوات المقموعة ،

و المباهج التي ضحّي بها ،

فكل فرصة ضائعة ، تهزأ الآن من حكمته البليدة “

  كنتُ أحكي لها عن مغامراتي العاطفية و نحن في طريقنا إلي المقهي ، بدأت ذلك عندما صادفتني و أنا مع بنت بارعة الجمال ندخلت المقهي ، هاه كم حوي هذا المقهي من أُناس و كم حوي من ذكريات ، لو كانو يقدّمون الخمر أيضا هنا لحوي قصصا أكثر ! كانت تقول “ثم ماذا”  تتسائل تساؤل الساخر و الراغب في معرفة المزيد في ىن واحد –حسدا ما قد يكون – كانت راغبة في معرفة المزيد و المهم … التفاصيل ..

                         . . . . . . . . . . . . . .

” يتذكّر النزوات المقموعة … المقموعة … المقموعة “

   لا ادري هل قرأت هذه القصيدة التي عرّفتني علي كاتبها يوما ؟ هل تتردد تلك الكلمة في داخلها .. ” المقموعة ” ؟  أتذكّر كل ذلك الآن ، الخمس عشرة سنة التي مضت مرّت امامي كالبرق ، عشت شبابي ، و لم اترك قفلا للنزوات المقموعة إلاكسرته و  استكشفت ، ليس من الضروري حسيا و لكن خيالا ، و هي ..؟ .. أنا سافرت ، و عُدت  و تلمّست أخبارها من موظفات الإستعلامات التي صادقتهم بحكم حضوري الشبه يومي ، فعلمت أنها قد ترقّت و صارت في قسم المخطوطات، ” و لكنها كما هي معقذدة ” هكذا قالت أحداهن ضاحكة…

 تستمر سوناتة باخ الأولي التي كتبها في رثاء زوجته تعبيرا عن وحدته  العزف في راسي بينما يستمر كفافيس بصوته الوقور :

” فكلُ فرصة ضائعة تهزأ من حكمته البليدة ”

                         . . . . . . . . . . . . . .

كل ذلك مر في ذهني في لحظات ، ثم ابتسمت لا إراديا بفعل الذكريات لا الحنين ،نبّهني إلي إبتسامتي الأنثي التي امامي و لاحظت شرودي ” ماذا بك ؟ ” توقفت فجأت الموسيقي في ذهني و توقّف كفافيس و توجّهت عيناي إلي من أمامي التي لاطالما سحرتني عينيها أنظر إليهما فكأنهما خدرتاني و ابتلعتاني ! ”  دينا أنا  دوما معك يا أميرتي ” هكذا رددت في عفوية ..

                         . . . . . . . . . . . . . .

     مسكينة ، أظنها لم تدرِ تلك الرعشة التي تسري في جسد البشري حينما تلتقط  أذنه  من كائن مضاد له في الجنس  أشارة موجّهة مسموعة تحمل كلمة واحدة تهزّ الاوصال و تبعث النشوة و تشعرنا كم نحن مهمّون ،و كم هي الحياة جميلة … الإشارة هي , الكلمة هي … ” أُ ح بُّ ك ”

“بسّومي(أحيانا يصيبني السُّكْر عند نطقها تلك الكلمة ) أتفكّر في العمل أيضا !! ارجوك !! هذا الوقت لي وحدي الآن أنت لي وحدي ، !!” هكذا قالت لي ، أفقدت من حلمي و قلت : “دينا ، آميرتي ، أنا معك دوما تعرفين ”   آه …

  نسيت أن اقول أن هذه الانثي التي معي في المقهي هي ….   عشيقتي ، أو بالاحري : زوجتي ، و لكن لا أحب إختيار الالفاظ الكلاسيكية التي يستعملها بقية الناس و لا سيما أن علاقتنا كانت غريبة ، بدأت بأن أول لقاء لنا كنا في صحبة بعضنا البعض لأشتري أنا كتاب جلال الدين الرومي الخالد : ” المثنوي ” و من ساعتها بدأت بيننا مصادفات أكثر من مجرد توارد خواطر لحدوثها بصفة شبه يومية و أشياء لا يمكن أصلا توقّعها ،هاه توأم الروح كما يقولون ،  نتعامل علي أننا لسنا متزوجين بل عاشقين علي وشك الفراق ؛حتي تصير نار الحب دوما متقدة لا تقتلها العادة . غمزتُ لها بعيني و قلت : ” لنقم ، ساُحدّثك بقصّة رانيا المسكينة ”  قالت: “من رانيا؟ ” أبتسمتُ ..

 

 قمنا و بنما أنا أعبر بوابة المقهي ، التفتُّ لأختلس آخر نظرةعليها ،  يعاود باخ بسوناتته الحزينة و يعاود صوت كفافيس الظهور لينهي قصيدته :

” لكنّ هذا التفكير الطويل ، هذا التذكّر الطويل ،

يصيب العجوز بالدوار

يهوي نائما،

و رأسه يستقر علي منضدة المقهي “

كم أنت رائع يا كفافيس ، التفت إلي الأمام و قد أنتهت الموسيقي في دماغي و أنهي هو قصيدته : و لكن أتسائل بعد ما حدث كل ما تنبّأ به كفافيس لها في قصيدته، هل ستترك رأسها لتستقر علي منضدة المقهي ؟

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون