هدايا الوحدة : شعرية الهشاشة .. والخيال القريب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فتحي عبدالله

المجتمعات الحديثة التي تقوم علي بيع قوة العمل وعلي التبادل السلعي، تخلق نوعاً من التشيؤ والعزلة أو الاندماج وقبول التبادل حتي علي مستوي الجسد والمشاعر مما يهدد تاريخ الجنس البشري وجميع التمثيلات النوعية والرمزية الدالة علي ذلك، ومن أكثرها حضوراً وفاعلية " الشعر " إلا أنه عبر مسارات متنوعة ومتعددة استطاع أن يحقق وجوده بامتياز، فقد طور شكله من حقبة إلي أخري وأخذ أطواراً أكثر رحابة وأكثر إنسانية وأكثر اقتراباً من الواقع المعيش بكل تفصيلاته الدقيقة، وقد ظهر ذلك بوضوح في نمط " قصيدة النثر " في جميع اقتراحاتها منذ الأربعينيات وحتي الآن .

وقد أثرت هذه الازدواجية العنيفة من المجتمع الحديث علي الرؤية الكلية للشاعر وعلي انفعالاته ومشاعره بدرجة متفاوتة، حسب الثقافة والانتماء الطبقي لكل شاعر، فقد أحدثت نوعاً من العدمية الخلاقة التي لا تجد مبرراً للسلوك الإنساني سوي تلبية الرغبات الأساسية دون النظر إلي أية قيم أو نوع من الانسحاق والاستسلام، يظهر هشاشة العلاقات الحاكمة بين الفئات الفاعلة في المجتمع أو البحث عن قيم جديدة أكثر رديكالية تتجاوز هذا المأزق سواء علي المستوي الاجتماعي أو علي المستوي الشعري .

وقد تتجاوز هذه الاستجابات الثلاث في ثقافة العرب دون نفي أو قطيعة، وقد يعود هذا إلي طبيعة المجتمعات العربية، فلا هي حديثة ولا هي متخلفة مما يسمح بتجاور أنماط الحداثة اليومية مع أنماط المحافظة وإن كانت أكثر تناقضاً وأشد قطيعة فيما بينها .

وفي هذا الإطار يأتي ديوان ” هدايا الوحدة ” للشاعر ” محمد خير ” ممثلاً لشعرية ” الهشاشة ” والانفعالات ليست حادة وإنما هادئة وأقرب إلي السكون وإن كانت عميقة، تظهر فاعليتها بعيداً عن السطح المشقق أو الخارجي المتداعي، ومن هنا فإنها تتمركز في مجملها حول علاقة الذات الذكورية بالأنثي أو بالأحري تكشف عن هذه العلاقة بعد تدميرها وانفصال الذوات .. فهي في جانب منها تذكر أليم، لا طقوس للفرح أو البهجة فيها ولا سخرية ولا تهكم وإنما هناك نوع من الاسترسال الأنثوي لا يقطعه إلا البكاء مثل قصيدة ” سهو “.

” فوق أرفف المطبخ، تركت لي، كل هذه العلب، وقد ألصقت فوقها أوراقك الصغيرة وخطك الكبير، يشرح أسماء البهارات بوضوح وصبر .

كنت أعرف أن هذا الحنان سيؤلمني يوماً، وهذا الاسترسال قد يأخذ أكثر من صيغة من أهمها الحكي أو القصة الشعرية كما في قصيدة “. ص ٣١-٤١

” احتفالها السري “:

” من فتحة بابها الموارب، تتسلل أنغام فرنسية قديمة تحكي عن كائنات ليلها :

مدفأة تعمل بنصف طاقتها، جدران ملونة، ستائر خضراء، كتاب مفتوح وممدد علي وجهه، فوق فخذيها المضمومتين “. ص ٥٤-٦٤

وقد يأخذ شكل الحوار أو مخاطبة الآخر، بحيث ينمو الحدث ويتراكم حتي يصل إلي الذروة كما في قصيدة ” عن وقت مضي ” ففعل الأمر الذي يختاره الشاعر في بداية كل مقطع هو مركز توليد الشعرية، ومركز البناء في نفس الوقت ففي المقطع الأول يقول :

” اشغليه بالكلام

حارس البناية

ارسليه في مهمة وهمية

تمنحني الدقائق كي أتسلل ” ص ١٦

وفي المقطع الثاني : ” اخفضي النور – اغلقي الشباك – افتحي الآخر ” وهكذا في كل المقاطع حتي ينتهي النص .

أما العدمية الخلاقة فقد ظهرت في قصيدة ” الكسل “:

” سأقوم متأخراً، كعادتي

سأكون آخر المغادرين

دون أدني شعور بالفلق

فالمستقيل يعرف كيف يعتني بنفسه

سيجد منفذه إلينا

عاجلاً أم آجلاً ” ص ٦-٧

وعلي الجانب الآخر فهناك اهتمام كبير بالجماعة التي يعيش فيها لا لتكريس الحس الجمعي ولا خياله الفني المليء بالمتناقضات وإنما ليعبر عن ذاته المعذبة مثل قصيدة ” دون أن ينتبهوا “:

” يؤجلون حياتهم في سبيل الحذر

يجلسون هادئين، مندمجين في أحلام يقظتهم بينما

تسرح في أرواحهم قرحة الانتظار ” ص ١٣

أما النصوص القائمة علي التأمل القريب، والحكمة الموروثة والقلق المتعارف عليه، الذي لا يدفع إلي الفعل وإنما إلي النكوص والحياد أو رؤية الأشياء والأحداث دون انفعال، فالشاعر هنا لا يقدم إلا الرصد فقط، وهنا تغلب التصورات الذهنية والمنطقية مما يوقع النص في التجريد الذي يقلل الشعرية كما في قصيدة ” كما تدين “:

” البراويز تسجن اللوحات

المسامير تدمي البراويز

الجدران تبتلع المسامير

الطلاء يخفي الجدران

الشمس تفتت الطلاء ” ص ١٥-٢٥

إن هذه البناءات ليست جديدة في قصيدة النثر، وإنما جاءت هنا في عفوية وفطرية مما خفف من آثار التجارب السابقة عليه، ومن أهم ما يميز هذه التجربة هو ” الخيال المدني ” ، فهو بسيط وقريب وغير مركب، ولا يحتمل التأويل، فدلالته قاطعة، لأن العناصر الفاعلة به بسيطة أيضاً وتكاد تكون واقعية .

أما اللغة التي يستخدمها الشاعر، فإنها أحادية أيضاً وأقرب إلي اللغة التداولية، مما أعطاها قدراً من الحميمية والألفة، وقد وقفت عند مستوي التعبير فقط، فلا هي جزء من التجربة، ولا يطمع الشاعر إلي لغة خاصة، وإنما يكتب في المشترك اللغوي العام .

إن هذه التجربة رغم تميزها وفطريتها لم تكن حادة ولا قاطعة ولا متفردة بشكل كافٍ، وإنما دلت علي ما هو شعري في هدوء كامل .

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم