نقد التطبيق النقدي ـ هدى وصفي نموذجا

نقد التطبيق النقدي ـ هدى وصفي نموذجا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في الفترة الأخيرة طُرِحت العديد من الدراسات حول «نقد النقد»، وتراوحت ما بين محاولة التأصيل، وبين البحث عن جذور لمثل هذه الممارسة في تراثنا العربي، سواء التراث القديم أو الحديث. 

لكن المشكلة الجوهرية التي تهدد هذه الدراسات ضعف قدرتها على تكوين وعي منهجي يؤطر التطبيق الاجرائي لـ «نقد النقد» على الممارسات النقدية المتنوعة. خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان المعطيات التاريخية والمنهجية للممارسات النقدية المتنوعة. مما يهدد بتحول هذه الدراسات من كونها «نقدا للنقد» إلى «تأريخ للنقد والنقاد»، وإن كان البعض يرى أن التأريخ للنقد والنقاد من بين مواضع عمل «نقد النقد» ([1])، فإنني أرى أن الإجراء الأصيل لـ «نقد النقد» هو التحليل الاجرائي للنقد التطبيقي، حيث تتم مساءلة الموضوعية والمنهجية للممارسة النقدية التطبيقية، بما يُسهم في تطوير النظرية النقدية ذاتها في وقت لاحق، وتدعيم الفكر العربي نفسه أيضا.

والمتابع للكثير من الأطروحات حول «نقد النقد» يلمس نُدرة مثل هذا التحليل، ومن هذا المنطلق تأتي محاولتي لتحليل دراسة الدكتورة ((هدى وصفي)) حول رواية «الشحاذ» لـ((نجيب محفوظ))، والتي عنونتها بـ «الشحاذ: دراسة نفس بنيوية»، وسبب اختيار هذه الدراسة للتحليل يرجع للجدل التاريخي حول تقديم هذه الدراسة. فقد جاءت في العدد الثاني لمجلة فصول النقدية (يناير 1981م)، وهو العدد الذي من المفترض أنه يُقَدِّم المناهج النقدية الجديدة – وعلى رأسها البنيوية – للقراء العرب، ومن ثم فإن الدراسات المُقَدَّمة فيه دراسات توحي بطابع النموذجية التطبيقية؛ وكأنه يُقال للقارئ: إذا ما أردت أن ترى ثمرة تطبيقية لهذه النظريات فها هي! كما احتوت الدراسة على رسوم بيانية لا زالت تثير الكثير من الإشكاليات في فهمها وتحليلها، حتى أن الدكتور ((عبد العزيز حمودة)) قال عنها: «ومما كان يُعمِّق ذلك الإحساس بالعجز تلك الرسوم التوضيحية (يفترض أنها كذلك!) والبيانات والجداول الإحصائية والرسومات المعقدة من دوائر ومثلثات وخطوط متوازية ومتقاطعة وساقطة (…) فقد كنت أقف أمامها في عجز كامل عن فك طلاسمها أو ((شفرتها)) كما يحلو للبنيويين أن يقولوا»([2])، وهي الأوصاف التي تنطبق تماما على الرسوم المُقدمة هنا، وإن كان ((حمودة)) لم يصرح باسم الدراسة إلا أنه أشار لهذا العدد، مما يُرجِّ ح أنه يقصد دراسة الدكتورة ((هدى وصفي)) في هذا العدد.

إذن تحتل هذه الممارسة التطبيقية لـ ((هدى وصفي)) في هذا التوقيت أهمية خاصة في مسيرة التأثير النقدي والتطبيقي، ولها بالتأكيد تأثير على ما يأتي لاحقا لها من ممارسات، وفي محاولة مساءلة هذه الممارسة سأضع في الاعتبار سياقها التاريخي، وسياقها المنهجي من خلال ما ورد في هذا العدد نفسه، ثم من خلال ما اختطته ((وصفي)) لنفسها من منهجية، وما أرفقته من رسوم بيانية في محاولة لفك ((شفرات)) هذه الرسوم.

لنبدأ بما عللت به الناقدة سبب اختيارها لرواية الشحاذ دون الأعمال الأخرى ((لنجيب محفوظ)) إذ تقول: «ولم ((الشحاذ))؟ ربما لأنها تمثل -أكثر من غيرها- نوعا من القصص الذي يستعين بالمونولوج أو الحوار الداخلي، ويستغل أقصى درجة العلائق، قاص – مؤلف/سارد – راو/قارئ – متلق. وقد استطاع محفوظ إبراز عدة مستويات في روايته تجعلها جديرة بالدراسة الجادة.» ([3])

هذا التشديد علي ما في الرواية من علاقات ومستويات -ومن اللافت أن هذه العلاقات التي ذكرتها الناقدة، تقع في مجال «الصيغة» دون غيرها من المجالات التي حددها ((جينيت)) ([4])ـ هذه العلاقات تتوافق تماما مع ما تفترضه «نظرية السرد البنيوية» من محاور اهتمام في النصوص الأدبية، أي أن ذلك يسير في توافق مع منطلقات المنهج المستخدم، لكن ما يبدو غريبا في هذا الصدد، ما أشارت إليه الناقدة من أن “البنيوية” تلخص الحدوتة في:

 

 

صراع  –

معركة –

 خلاص

أو

؟

 ب

أو

؟

ب

 

فما المعنى الحقيقي لهذه الرموز، وما السبيل إلى فهمها. 

وفيما أعتقد، فإن علامة الاستفهام التي تظهر في هذه المعادلة هي خطأ مطبعي عن حرف الألف بالصيغة التي يظهر بها في المسائل الرياضية غالبا، يؤكد ذلك عودة الناقدة في الموضع نفسه إلى استخدام حرف الألف بالطريقة التي أتحدث عنها –] ([5])، وهو الأقرب إلى المنطق بحيث يقف حرف الألف  على النقيض من/ حرف الباء، وهو ما يقترب من الصيغة الرياضية التي صاغها ((جريماس)) من قبل على النحو التالي:

 

     A     ~      B    

 

non A        non B

 

ثم عاد وعدلها إلى الصيغة التالية:

 

                                           __                __

 

    S                                ضد         S     أو S ضد S([6])

 

non S            non S                           

 

حيث أشار ((جريماس)) إلى أن الحكاية تقوم على أساس الضدية بين ثنائيات صغرى، تصبح هي نفسها – الوحدة الصغرى وضدها – وحدة ضدية أكبر في مواجهة ثنائية أخرى نقيضة لها، تتكون أيضا من وحدتين صغريتين متضادتين معا؛ ليشكلوا معا البنى الكبرى للحكاية. وإن لم تكن الناقدة ((وصفي)) تقصد التعريب لهذا النموذج باستبدال (A) و(B) بـ (أ) بصيغته الرياضية و(ب)، فإنها مفقودة المعني بالنسبة لنا. 

لكن الناقدة تعود إلى هذه الصيغة وتؤكد عليها أكثر من مرة في سيـاق نقدها، وكأنها شيء متعارف عليه في النقد البنيوي، فهي تلخص القصة في أنها:

 

 

؟

 ب

أو

أسرة + مجتمع

عمر

 

ثم تلخص جدلية الرواية في المعادلة التالية:

 

صـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراع –

معركة –

خــــــــــــــــــــــــــــــلاص

(]

ب)

استمرارية الحدث 

])

     ب)

       

 

إذا ما كان قد أمكن تعليل الصيغ الرياضية المقدمة بأنها تتبع نموذج ((جريماس))، فإن تلخيص الجدلية الحكائية بهذه الطريقة كتطبيق على هذه المعادلات يعد من المنطلقات الخاصة بالناقدة في تعديلاتها المنهجية حول الإجراءات التطبيقية، وذلك لأن ((جريماس))فيما يصوغه من معادلات، يضع الوظائف في علاقات ثنائية ضدية مع بعضها البعض، ثم يجعل من هذا الثنائي الضدي وحدة تدخل هي نفسها في علاقة ضدية مع وحدة أخرى تتكون من ثنائي ضدي آخر، وهكذا، لكن الناقدة وهي تضع متقابلات ضدية هنا لا تصوغ ثنائيات متقابلة في الوحدة الواحدة، وإنما تجعل كلا من “الأسرة” و”المجتمع” معا ثنائية متناقضة تمثل وحدة واحدة. تقف في الضد من ((عمر)) بمفرده دون وجود ثنائي آخر يكامل تضاده، وذلك ما يشكل بنية الرواية من منظورها عندما تمضي في خط متصاعد من: «الصراع» إلى «المعركة» إلى «الخلاص»، وفي معادلتها يظهر «الصراع» مشيرا إلى «الأسرة» و«المجتمع» مشطوبا عليهما في مواجهة «عمر»، بينما «المعركة» هي «استمرارية الحدث»، أما «الخلاص» فهو «عمر» مشطوبا عليه في مواجهة «الأسرة» و«المجتمع» غير مشطوب عليهما هذه المرة. 

وقد مضت الناقدة في اتباع تعاليم «الشكلية الروسية» فيما توصي به من تلخيص للقصة من أجل الوقوف على الفارق بين “الحكاية” و”الحبكة”، أو بمصطلحات الناقدة، الفرق بين «الحدوتة» و«السياق»([7])؛ بهدف الوصول إلى «الحكاية» كما هي في الحقيقة أي وفق تسلسلها الزمني المنطقي في الحياة الحقيقية، ومن ثَمَّ دراسة وتحليل كيف أصبحت هذه “الحكاية” بالشكل الذي قُدِّمت به في “الحبكة”. ثم حاولت بعد ذلك تحديد «الوظائف» الموجودة في القصة، تقول: «وبالنسبة ((للشحاذ)) فإن هناك عشرة أجزاء تتابعية مقسمة إلى خمسة أجزاء ذات طبيعة تفاؤلية، وخمسة أجزاء ذات طبيعة إحباطية. وهذه الأجزاء مسندة إلى عشر نوبات أو وظائف تتردد بين التفاؤل والإحباط: 1-الزواج 2- الإحباط 3- الهروب 4- هجر المجتمع 5- رد الفعل 6- اللامبالاة 7- السعي الروحي 8- الهذيان 9- محاولة عثمان 10- البلادة.»([8]). وتصوغ ذلك في الرسم التوضيحي التالي: 

 

وتعد التفرقة التي تقيمها الناقدة هنا على أساس تقابل ضدي بين «النجاح» – الذي اسمته التفاؤل ثم قيدته في الرسم التوضيحي حياة (نجاح)، و«الفشل» – الذي أسمته احباط ثم قيدته في الرسم التوضيحي موت (فشل)، هذه التفرقة تابعة للإجراءات البنيوية الأساسية، خاصة وأن «البنيوية» تميل إلى إقامة نماذج ثنائية ضدية في تحليلها للظواهر بعامة، لكن ما يلفت النظر هنا طبيعة هذه التفرقة ذاتها، فعناصرها قد أقيمت على أساس مراعاة الحالة النفسية الخاصة ببطل الرواية، وذلك يخالف النظرة البنيوية التي تقيم عناصرها على أساس الصراع والحدث الموجود في الرواية من ناحية، ويخالف إهمال «البنيوية» للعنصر البشري في الرواية بعامة من ناحية أخرى. لكن لا شك أن لجوء الناقدة إلى إقامة هذه العناصر بهذه الكيفية يُعَدُّ مما أدخلته الناقدة من تغيرات وفقا لتأثرها بطبيعة الرواية التي اختارتها هنا.

فرواية ((الشحاذ))لها بنية وجو نفسي خاص، مما يجعلها تُلقي بظلالها النفسية لا محالة على من يتصدى لها بالتحليل، وأكبر دليل على أن هذه الظلال قد أثرت على الناقدة في دراستها لها، كلمة «نفس» التي أضافتها الناقدة إلى المنهج البنيوي الذي تعاملت به مع الرواية، وهنا يتولد سؤال آخر: لماذا لم تختر الناقدة إذن -وهي بصدد إعداد نقد بنيوي من المفترض أنه أنموذجي- رواية تجنبها الوقوع في هذا المأزق؟ أو على الأقل لماذا لم تتجاهل المحتوى النفسي الذي فيها، لكي تركز على المنولوج والاسترجاع وغيره مما أشارت إليه في تعليل سبب اختيارها لهذه القصة؟ خاصة وأن هذه العناصر من السمات الأساسية لأي تحليل بنيوي لأي عمل سردي؟

وربما كان من الممكن الإجابة هنا بأن الناقدة ترى أنه ليس من الضروري العمل وفقا للأسس الصارمة التي يفترضها المنهج التطبيقي المُتَبَع، وإنما من الممكن عمل تغييرات على المنهج طالما تطلب النص الخاضع للنقد ذلك، خاصة وأن الناقدة كانت واعية بما تضيفه من تعديلات على هذا المنهج، أقصد واعية بأي نوع من الإضافات تقوم به في تعديلاتها الاجرائية، وبخروجها عنه في بعض أصوله، وهو ما يبدو واضحا في مقولتها التالية: «وهنا ربما نهجنا نهج بعض التحليلات النفسية التي ترى الإنسان المعاصر سجين[هكذا] للقلق وأنه يحاول محاولة مستميتة للفرار من عبثية وجوده. وقد يبدو هذا من تأثير سارتر على نحو ما. ولنا [الكلام لها] أن نتساءل عما إذا كانت العلاقة التي تقوم بين المؤلف والشخصية، أو بين القاص والسارد، هي من النوع الذي يسمي ((رؤية كلية))؟ ولكن إذا افترضنا ذلك ألن نحول هذا الكاتب الكلي المعرفة إلى عالم يحلل عمله لكي يطلعنا على أدق أسراره، ومن ثم يفتقد العمل المنافذ التي نستطيع أن نطل منها عليه، ويتحول النص الروائي من المتعة إلي الموضوع العلمي؟» ([9]).

وواضح في هذه الفقرة أن الناقدة على وعي بخروجها عن معطيات “نظرية السرد البنيوية”، وأخذها ببعض جوانب “الوجودية” عند ((سارتر))، خاصة النواحي النفسية للشخصية في ضوء ما تتعرض له من مشكلات ناجمة عن مسئولية الاختيار. ولا تجعل الناقدة ذلك مؤثرا على المنهج الأساسي المستخدم في تحليلها لرواية «الشحاذ»، وكأنها تقول بضرورة تطعيم المنهج البنيوي المستخدم بغيره من المناهج الأخرى، على ألا يُفْقِد هذا التطعيم المنهج البنيوي قوامه الأساسي، وما يؤكد ذلك عدم توقفها طويلا أمام إشارتها إلى صنيعها هذا، ومضيها مباشرة إلى مناقشة قضية جوهرية في «نظرية السرد البنيوية»، وهي قضية صيغ السرد، وما تنطوي عليه من أبعاد تخص «الراوي» و«السارد» و«التبئير» في العمل الأدبي، وكأن ما أدخلته من تطعيمات منهجية قد أمكن له التلاحم مع نسيج المنهج البنيوي، بما لا يمنع من متابعة إجراءاته الأصيلة. ورغم الناقدة بدأت حديثها في أسباب اختيارها لرواية ((الشحاذ)) بالإشارة إلى ما في هذه الرواية من علاقات: قاص – مؤلف/سارد – راو/قارئ – متلق، وبالرغم من إشارتها إلى أبعاد «السارد» و«التبئير» في فقرتها السابقة، إلا أنها لا تمض أكثر من ذلك في تتبع هذه العلاقات وتقصيها.

وجدير بالذكر أن الرسوم البيانية التوضيحية التي قدمتها الناقدة في دراستها تعكس فهما وتوصيفا بنيويا دقيقا للرواية، فمثلا الرسم التالي – شكل رقم (2)، يشير إلى التقسيم البنيوي للمتقابلات الضدية، وهو ما صاغته الناقدة في صورة: [زينب، الأسرة، عمر الاجتماعي]، كمقابل ضدي [لعمر الجبان] الذي يقف هو نفسه في مقابل [عثمان الشجاع]، ثم [المجتمع ومصطفي وعمر الاجتماعي]، كمقابل ضدي لعثمان الذي يخرج من السجن ويرغب في أن يعيش حياة مستقرة تعويضا عما قضاه في السجن، ويقف هنا [عثمان] كمقابل ضدي [لبثينة] التي هي أكثر ثورية وانطلاقا في هذه المرحلة، لكن [عثمان] يتراجع عن رغبة الاستقرار ويكتشف أن هذا سيحوله إلى إنسان غير حر في معتقداته، فيعود من جديد إلى التضاد مع السلطة، وفي الوقت نفسه، يحرر [عمر] نفسه بالعزلة التي فرضها على نفسه، وبابتعاده عن كل الأدوار الاجتماعية، وكل ذلك يقف كمقابل ضدي لعناصر: [الصداقة والمجتمع وعمر الاجتماعي وعثمان الاجتماعي]، وهو ما لم تؤكد الناقدة على توضيحه سواء عند تقديمها لمعادلات ((جريماس)) سابقا التي لم تكتمل معادلاتها الثنائية في شرحها بحسب ما أوضحته، أو بعد تقديمها لهذه الرسوم التوضيحية، رغم ضرورة مثل هذا التوضيح حول معنى ومغزى الرسوم المُقَدَمة. ولو كانت الناقدة فعلت ذلك؛ لكانت أضافت لنقدها توضيحات هامة تفيد القارئ العربي الذي يطالع هذا النمط من النقد للمرة الأولى في ذلك التوقيت، وتجعله أكثر فهما للإجراءات التطبيقية «لنظرية السرد البنيوية».

[شكل رقم (2)([10])]

 

وعند النظر أيضا إلى التخطيط التالي:

[شكل (3)([11])]

 

فإن الوعي بعناصر الزمن وتوظيفها في بنية الرواية، يكشف عن نفسه بوضوح في هذا التخطيط، فهناك وعي بأن الرواية تبدأ من منطقة وسطى في بنية «الحكاية» بين الماضي والحاضر، وهي المنطقة التي شهدت تأزم ((عمر)) لكن لا يكتمل فهمنا لهذا التأزم إلا من خلال الحركة البندولية بين الماضي والحاضر، ومن الغريب أيضا أن الناقدة لم تشرح هذا الرسم التوضيحي، الذي يستلهم معطيات «نظرية السرد البنيوية» إلى حد كبير، وعدم شرحها هذا جعل رسوماتها التوضيحية رغم دقتها الشديدة، غائبة المعنى عند الكثير من القراء. 

ومن اللافت للنظر أن الناقدة في دراستها لعناصر الصوت السردي، لا تتابعه في تفصيلاته الأساسية، وإنما تعرض له ملخصا في مقولتها التالية: «وتزيد الأدوار ذات الطبيعة الاستبدالية، أي أدوار القاص السارد، من ازدواجية النص، وتحاول أن تبرز معنى مهما، فهي تستجدي انتباه القارئ الذي يشعر أنه في داخل اللعبة، وذلك من شأنه أن يدمجه في السياق. ومن ثم فالعلاقة التي تمت بين القاص والشخصيات قد ربطت القارئ كذلك بنفس الشخصيات. ولنوضح هذا: شكل (4) [لا يزال الكلام لها]

وينشأ عن هذا التوازي بين رؤيتي القاص والقارئ نوع من الجاذبية التي تربطنا بالنص، وبشخصية عمر، الذي يدفعنا معه في عملية السعي الميتافيزيقي.))([12]).

ومثلما كان تعليقها على «الصوت السردي» تعليقا يلخص الكثير من المعطيات، كان تعليقها الختامي لافتا للنظر أيضا، تقول فيه: «وختاما لا نستطيع القول بأننا قدمنا القراءة النهائية للمضمون الروائي، ولكنها محاولة قد تلاقي الاستحسان وقد لا تلاقيه. وعموما فإننا نعتقد ـ مثل بارت ـ أن ((العمل الأدبي باق، ليس لأنه يفرض معني واحدا علي أناس مختلفين، بل لأنه يقترح معاني مختلفة علي شخص واحد.))»([13]). والسؤال الجوهري هنا، أليست «البنيوية» تغض الطرف أساسا عن المضمون، أليست مقولة ((بارت)) هذه هي – في الغالب – تابعة لمرحلته التي تحول فيها عن «البنيوية»، – وأقول في الغالب لأنها لم توثقها ومن ثَمَّ يصعب تحديد المرحلة التي يتحدث فيها ((بارت)) هنا؛ لذا فإني أرى أن الناقدة في ختام دراستها هذه تؤكد -وإن كان بشكل غير قصدي- على ضرورة العمل وفقا لمناهج نقدية متسامحة إلى حد ما في حدودها المعرفية، وذلك حتى يتيسر تعديلها وتطويرها؛ لكي تواءم المتطلبات التي تواجه الناقد عند تعامله مع النصوص الأدبية في نقد تطبيقي.

لقد تابعت التطبيق النقدي للدكتورة ((هدى وصفي))بتحليل إجراءاتها وفق ما اختطته لنفسها من منهج من ناحية، ووفق السياق العام الذي قُدِّمت فيه هذه الدراسة في وقتها التاريخي، وتكشف هذه المتابعة عن وجود نوع من القلق باتجاه اختيار الانحيازات المنهجية في التعامل مع النصوص الأدبية، بدءا من اختيار نص يغلب عليه الجانب النفسي، وترك نصوص أخرى قد تكون أيسر تطبيقا في الهدف المقصود، مرورا بحالة انفتاح الأبعاد المنهجية، ما بين «الوجودية» و«السلوكية في التحليل النفسي» ثم «نظرية السرد البنيوية»، كما استطعت من خلال متابعة إجراءات «الشكلية الروسية» فهم معاني وإشارات الرسوم البيانية التي ظلت لفترة طويلة معضلة بالنسبة للكثيرين من القراء، ومن ثم فإن هذه الدراسة على ما كشفت عنه هنا، إلا أنها بحاجة ماسة إلى متابعة مسيرة التطبيق النقدي عند ((هدى وصفي)) في تطبيقات أخرى وعبر امتداد زمني آخر، ليتيسر لنا الكشف عن عقلية الناقدة من ناحية، وتطويرها لأدواتها الإجرائية من ناحية أخرى، ومثل هذا الإجراء من منظوري هو ما يفيد في بناء «نقد النقد» العربي بشكل يحقق له رصانته ومنهجيته.


 

[1])-) انظر: رشيد هارون: الأسس النظرية لنقد النقد، مجلة: مركز بابل للدراسات الإنسانية، مجلد 2، عدد1، حزيران، 2012م، العراق، صـ124-125.

[2])-) عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، عدد 232، 1998م، الكويت، صـ11-12.

[3])-) د.هدي وصفي: ((الشحاذ: دراسة نفس بنيوية))، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد الأول العدد الثاني، القاهرة يناير 1981م،، صـ182.

[4])-) الصيغة عند جينيت تشمل إمكانيات الحكي، ووجهة النظر، والتأكيد على أشياء دون غيرها من بين أحداث السرد، والمسافة والمنظور الذين يروي من خلالهما الراوي متخذا مسافة معينة من حكايته، راجع: جيرار جينيت: ((خطاب الحكاية: بحث في المنهج))، ترجمة: محمد معتصم، وعبد الجليل الأزدي، وعمر حلي، ط2، المجلس الأعلي للثقافة، ، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1997م،، صـ177-178.

[5])-) أنظر: د.هدي وصفي: ((الشحاذ: دراسة نفس بنيوية))، مرجع سابق، صـ182-183.

([6]) أنظر: إيڤيجيمي ميليتنسكي: ((الدراسة البنيوية والنمطية للقصة))، ضمن كتاب: فلاديمير بروب: ((مورفولوجيا القصة))،ترجمة: د.عبد الكريم حسن، و د.سميرة بن عمو، شراع للنشر والتوزيع، دمشق، 1996م ، صـ223.

[7])-) أنظر: د.هدي وصفي: ((الشحاذ: دراسة نفس بنيوية))، مرجع سابق ، صـ182.

[8])-) السابق، صـ183.

[9])-) السابق، نفسه.

[10])-) السابق، صـ184.

[11])-) السابق، نفسه.

[12])-) السابق، صـ185.

[13])-) السابق، صـ186. 

 

مقالات من نفس القسم