رواية سيدة الفساتين لماريا دوينياس.. الفتق والرتق

موقع الكتابة الثقافي default images
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

تعتبر جمعية "درر للتنمية والثقافة" من أشهر الجمعيات الثقافية والتنموية النشيطة بمدينة تطوان بالمملكة المغربية، وهي تضم في عضويتها نساء وذكورا بارزين وناشطين على المستوى الجمعوي والثقافي والفني، وتساهم الجمعية في تنظيم كثير من اللقاءات  الرصينة التي تهتم بمختلف المجالات الفكرية التي لها علاقة بتنمية الفكر والذوق، وقد ساهمت الجمعية في تنظيم نشاط ثقافي بديع بمقر دار الصنائع بمدينة تطوان يوم الخميس 01 فبراير 2018، من أجل تقديم رواية "سيدة الفساتين"  للروائية الإسبانية المعروفة "ماريا دوينياس"، وترجمة الدكتورة الروائية والمترجمة شريفة الدحروش، والمترجم والناقد السينمائي عبد اللطيف البازي العمراني.

     كان لي شرف المساهمة في أعمال هذه الأمسية الجميلة، حيث شاركني المنصة كل من منسق الجلسة الأستاذ المقتدر سعيد الشقيري، والمترجمين، والدكتور يوسف الركاب والأستاذ أحمد محمد امغارة وقد قدم كلاهما عرضا باللغة الإسبانية بينا فيه الشروط التي أحاطت بكتابة النص الروائي، مع وصف لأهم الصور والمنعطفات المرتبطة ببناء النص وكتابته، وقد تكفلت بتقديم قراءة للرواية باللغة العربية.

     سيدة الفساتين” تسمية الرواية من اقتراح المترجمين المغربيين “شريفة الدحروش و عبد اللطيف البازي العمراني” بينما العنوان الحقيقي للرواية باللغة الإسبانية هو ” Tiempo Entre Costuras ” ويمكن أن نترجمه بعبارة ” زمن بين غرز الخياطة “، وقد كان تغيير العنوان بعد عملية الترجمة منسجما للغاية مع مسعى المترجمين لتوطين النص الروائي باللغة العربية، خصوصا وأن مجريات أحداث الرواية تدور كلها حول البطلة التي تمتلك موهبة وفن الخياطة الذي اكتسبته مع أمها ” دولوريس ” بورشة السيدة ” مانويلا ” بإسبانيا، واشتغلت به بجدارة ورقي في مدينة تطوان بشمال المملكة المغربية قبل أن يتم تجنيدها كعميلة في المخابرات البريطانية. لقد كانت ترجمة المترجمين ناجحة للغاية، ولقيت صدى كبيرا من طرف المهتمين بالنصوص الإبداعية العربية والإسبانية. 

     لطالما قيل إن الترجمة خيانة، بمعنى أن النص الجديد الذي هو الترجمة عبارة عن عالم جديد يقطع مع النص الأصلي، وينحو لبناء علامته وهويته المستقلة، ولكن ترجمة الأستاذين القديرين المتمكنين من أسرار اللغة الإسبانية ” شريفة الدحروش ” و ” عبد اللطيف البازي العمراني ” تعتبر وفاء عوض أن تكون خيانة، فقد استطاعا أن يترجما بل أن يبدعا نصا فاتنا للرواية باللغة العربية، وقد بذلا جهدا ملموسا في هذه العملية الأدبية نظرا لغزارة صفحات الرواية، وعمق رؤية المبدعة الإسبانية في التعامل مع الأحداث والشخصيات، وطبيعة اللغة الإسبانية التي تكتب بها المبدعة الأصلية، وتبعا كذلك للنقلات التيمية أو الموضوعاتية التي كانت تلجأ إليها ” ماريا دوينياس ” باستمرار أثناء صياغة الرواية، والتي تتطلب وعيا دقيقا وإلماما وافيا بالعلامات الفارقة في اللغة، والثقافة، والتقاليد، والعادات الإسبانية، وهو أمر أفلح المترجمان في اعتباره فخرج عملهما جاهزا، يتميز بأصالته وإشراقه.

     إن الأساس في عملية الترجمة هو أنه لكي تترجم جيدا يجب عليك أن تتبين النص الهامس غير المنظور الذي يكمن في النص الذي نسميه أصليا، إنها سياحة إبداعية لا يتقن ولوج غمارها إلا الذي انفلت عمره في اقتحام النصوص ومعاشرتها باستمرار. ولكي تتبين جيدا هذا النص الهامس عليك أن تتوفر على ولع الإقبال على النصوص، وحبها، والغوص فيها بمختلف أنواعها، وترجمة المبدعين لهذه الرواية الإسبانية تجلت عندما حصلنا على النص العربي جميلة، ودقيقة، ويبدو المجهود الكبير ملموسا فيها، وقد تجسدت في شكل جمل منتظمة، محددة، مرتبطة بدلالاتها، وبهذه الصيغة عمل المترجمان على تطويع النص الإسباني للغة العربية، وساهما بدون كلل رغم التعب الكبير والمجهود الدؤوب في  التنقيب والبحث لإثبات كثير من المعاني ذات الدلالة الثقافية والفكرية في الهوامش، بالإضافة إلى توثيق الأماكن والعلامات التاريخية والجغرافية، وكان يحرصان جيدا على تثبيت الأبعاد الثقافية أثناء الترجمة، وقد مرت هذه الترجمة لدى المترجمين المبدعين عن طريق توظيف العبارات بأنواعها الثلاثة، حيث استعملا في عملهما العبارات المسكوكة التي يتعامل معها الجميع والتي أصبحت تشكل علاقة ألفة في الجمع بين المهتمين، ثم قاما باستدعاء العبارات المهملة والتي تدخل في عملية المزج في الكتابة الروائية بين التخييل والتاريخ والتي يبدو أن كثيرا من إمكاناتها تم التخلي عنها بسبب الزمن المتعاقب، كما وظف المترجمان العبارات الفنية الإبداعية التي رسمت عملية مساهمتهما الفعلية، حتى بدا الأمر وكأنهما ساهما بداهة مع الروائية الإسبانية في كتابة الرواية.               

     الروائية ” ماريا دوينياس فنويسا ” Maria Duenas Vinuesa ، أستاذة جامعية بجامعة ” مورسيا ” بإسبانيا للغة والأدب الانجليزي، ازدادت بالعاصمة الإسبانية ” مدريد ” وبها درست الأدب الإنجليزي حيث حصلت فيه على درجة الدكتوراه، كما درست وحاضرت بعدد من الجامعات الأمريكية، كتبت روايتها الأولى ” سيدة الفساتين ” سنة 2009، وقد لقيت الرواية رواجا كبيرا وانتشارا واهتماما من طرف المولعين بالأدب والرواية، فقد فاقت مبيعات الرواية مليون نسخة، كما تمت عملية ترجمة الرواية إلى خمس وعشرين لغة، وحولت إلى مسلسل أنتجته القناة الإسبانية Antena 3 . كما أصدرت الروائية روايتها الثانية ” مهمة منسية Mision Olvido  سنة 2012، وروايتها الثالثة ” العفة La templanza ” سنة 2015.

          رواية ” سيدة الفساتين ” تحضر روعتها وجماليتها انطلاقا من تغطيتها لفترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وهي تروي حكاية صبية إسبانية جميلة وفاتنة اسمها ” سيرا كيروخا Sira Qiroga “، كانت تعمل خياطة هي وأمها في مدريد لدى إحدى السيدات التي تملك محلا معدا لذلك، ثم تنتقل إلى شمال المغرب بمدينة طنجة حيث سيهجرها عشيقها ويستولي على أموالها التي تسلمتها من أبيها الذي كان منفصلا عن أمها، ولم يلتقي بها إلا وهي شابة متفتحة، سوف تتنقل الشابة الإسبانية الحسناء بعد ذلك بين عدة مدن، طنجة، وتطوان، بالمملكة المغربية، ومدريد بإسبانيا، ولشبونة بالبرتغال، وترحالها هذا مرتبط بتجنيدها في أعمال سياسية واستخباراتية وحربية لها علاقة مباشرة بالحرب الأهلية الإسبانية، والحرب العالمية الثانية.

     لقد صدرت الروائية الإسبانية روايتها بإهداء أشارت فيه بالقول: ” ذكرى سنوات تطوان والحنين الذي رافق دوما استحضارهم ( تقصد أهلها الذين عاشوا في مدينة تطوان المغربية ) لتلك السنوات، إلى كل الذين أقاموا بمنطقة الحماية الإسبانية بالمغرب، وإلى المغاربة الذين اقتسموا العيش معهم “، كلمات رائعة، ومعبرة من المبدعة الإسبانية، كلام رقيق يدل على حنينها إلى شمال المملكة المغربية الذي كان في فترة الثلاثينيات والأربعينيات التي تغطيها الرواية يرزح تحت نير الحماية الإسبانية، وخصوصا في تطوان حيث تدور كثير من مجريات أحداث الرواية، أما مدينة طنجة فكانت منطقة دولية تتواجد بها كثير من الإقامات والسفارات الأجنبية، البريطانية، والإيطالية، والفرنسية، والإسبانية…  وبمدينة طنجة وبتوجيه من والدها المنفصل عن أمها ” كونثالو ألبارادو ” نزلت البطلة ” سيرا كيروخا مرطين ” أول مرة عندما نزحت من إسبانيا مع حبيبها الساحر ” راميرو أريباس “، الذي خذلها بحقارة ونذالة، حيث تركها معلقة بالمدينة بعد أن سرق جميع أموالها وفر مهاجرا إلى أمريكا الجنوبية.

     تنتظم الرواية في صورتها المترجمة ضمن خمس مائة وسبعين صفحة من القطع الكبير، وجميع الصفحات مسودة بأسطر كثيفة تدل على ضخامة حجم الرواية، ولنا أن نتصور الجهد اللافت الذي بذله المترجمان في تقريب هذا العمل للقارئ والمهتم العربي أمام هذا الكم الهائل من الصفحات، وقد صدرت الطبعة الأولى للترجمة التي نشرت بدعم من وزارة الثقافة للمملكة المغربية سنة 2017 عن مطبعة ” لينا ” بمدينة الرباط.

     من حيث الشكل عمدت الروائية إلى تقديم روايتها وفق نظام الأجزاء والفصول، وقد حافظ المترجمان على هذا النهج، حيث تتشكل الرواية من:

الجزء الأول: وينتظم ضمن خمسة عشر فصلا، صياغته تستغرق من الصفحة الخامسة عشرة، إلى الصفحة الرابعة والستين بعد المائة، وهي تدور حول حياة البطلة ” سيرا ” في إسبانيا بمدريد مع أمها ” دولوريس “، إلى عتبة وصول الألمانية ” فراو هينز ” إلى صالون الخياطة الأنيق الذي افتتحته ” سيرا ” بمدينة تطوان.

الجزء الثاني: وينتظم ضمن سبعة عشر فصلا، صياغته تستغرق من الصفحة الخامسة والستين بعد المائة، إلى صفحة ثلاث مائة وثلاث، وهي تدور حول الرواج الكبير الذي لقيه صالون ” سيرا ” لخياطة الفساتين الراقية الفخمة بمدينة تطوان، حيث أقبلت كثير من الزبونات الثريات من ذوات الجنسية الألمانية والإيطالية والإسبانية… من الجالية المقيمة بالمدينة على طلب الفساتين ونماذج الموضة من الخياطة الشابة الإسبانية، إلى توصل ” سيرا ” بخبر من ” ماركوس لوكان ” شريكها في المخابرات البريطانية، بقرب وصول أمها ” دولوريس ” إلى تطوان.    

الجزء الثالث: وينتظم ضمن أحد عشر فصلا، صياغته تستغرق من صفحة ثلاث مائة  وخمس، إلى صفحة أربع مائة واثنتا عشرة، وهي تدور حول وصول أم البطلة الخياطة السيدة ” دولوريس ” إلى تطوان في حالة صحية مزرية من الضعف والهزال والخوف بسبب الرعب الذي عانته في مدريد، وبسبب صعوبة الإبحار عبر البوغاز من إسبانيا إلى تطوان، لتواجد قوات الجيش المنتشرة بسبب الانقلاب العسكري الدامي الذي قاده الجنرال ” فرانسيسكو فرانكو ” ضد الجمهوريين والشيوعيين انطلاقا من شمال المغرب. إلى حد وصول إحساس ” سيرا ” بالقرف من مهمتها وهي في مدينة مدريد الإسبانية، حيث عبرت عن ذلك بكونها قضت فترة طويلة من عمرها: ” عميلة رائعة ومطيعة لجهاز المخابرات البريطاني، مطيعة إلى أقصى حد. إلى حد الاشمئزار “.

الجزء الرابع: وينتظم ضمن ستة وعشرين فصلا، صياغته تستغرق من صفحة أربع مائة وثلاث عشرة، وهي تدور حول تقديم ” سيرا ” الخياطة عميلة المخابرات البريطانية لتقرير مفصل بمعلومات عن ” بيكبيدير ” المقيم العام الإسباني بمدينة تطوان، والذي كان قد قد نحي من مهمته في هذه اللحظة. إلى الصفحة الأخيرة من الرواية حيث تفكر ” سيرا ” في احتمال عودتها لخياطة الفساتين في مدريد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحصول اليقين لديها بأن الأدوار التي لعبتها لصالح المخابرات البريطانية كانت مجرد سراب خادع. 

     حياة الفتاة ” سيرا ” يمكن النظر إليها عبر الرواية الطويلة بواسطة حركتي الفتق والرتق، المصاحبين دائما لنشاط الخياطة وتشكيل الفساتين، وذلك في مقابل التأطير النظري لهما استنادا إلى مفهومي الانفصال والاتصال، وبهذه الصيغة كانت تسير حياة الصبية، صاخبة، ومثيرة، وعاصفة، وأحيانا عنيفة وخطرة، في ” مدريد “، و ” طنجة “، و ” تطوان”، و ” لشبونة “، حياتها كانت تارة فتقا وتارة رتقا، مرة انفصالا وأخرى اتصالا، أسلوب حياتها وعلاقاتها مع غيرها كان مسطرا بوتيرة مشتعلة، فقد ساهمت قراراتها الأولى والمتسرعة التي اتخذتها في ” مدريد “، والتي كانت حاسمة في رسم معالم مستقبلها المضطرب، مستقبلها الذي اتسم بطموح كبير من جانبها، طموح لم تكن تضبط جيدا إيقاعه، فألقى بها في دروب ملتوية، فيها كثير من الغموض، وقليل من الاستقرار.

     طموح ” سيرا ” دفعها إلى قطع علاقتها مع حبيبها الأول ” اكناثيو مونطيس ” الذي كان يحبها بجنون، ويحرص كل الحرص على إرضائها، وإشباع رغباتها في حدود دخله الوظيفي البسيط، الفتاة كانت تتطلع إلى ما هو أكثر بريقا، ولذلك ارتمت في أحضان الحبيب المتوهم الساحر والوسيم ” راميرو أريباس “، الذي كان حبيبا في الظاهر، ونصابا في الباطن، حيث أقدم بكل بساطة، ورعونة على سرقة أموالها في مدينة ” طنجة ” التي تسلمتها من أبيها ” كونثالو ألبارادو ” في مدينة ” مدريد “، وتركها بكل دناءة وحقارة وحيدة، معدمة في المدينة المغربية الدولية، بعد أن كانا قد غادرا مدريد في 1936.

     لقد كانت هذه الحادثة الصادمة سببا مباشرا في توجه ” سيرا ” إلى مدينة ” تطوان “، وهناك في هذه المدينة التي كانت عاصمة لمنطقة الحماية الإسبانية في شمال المملكة المغربية سوف تقوم المبدعة ” ماريا دوينياس ” بنسج خيوط روايتها بتفصيل، في المدينة المغربية هاته سوف يتحدد مصير الفتاة عبر العلاقات التي ربطتها مع صاحبة إقامة متواضعة تسمى ” كانديلاريا “، فقد كانت لهذه الشخصية علاقة خاصة مع الفتاة، حيث إن ” كانديلاريا ” شخصية تشبه شخصيات المقامات، فهي ربما كانت شخصية براقشية، فهي تارة صاحبة إقامة تستقبل الراغبين في السكن والراحة، وتارة سمسارة، وطورا آخر تاجرة سلاح تغامر بمستقبلها وحياتها، وجوهها متعددة، وهي صالحة لكل شيء، وساهمت هذه الشخصية العجيبة في إدماج ” سيرا ” ضمن مجتمع مدينة تطوان المخملي المشكل من النساء الأوروبيات المقيمات بالمدينة مع أزواجهن، عبر مساعدتها أو مشاركتها في افتتاح محل للخياطة وتصميم الفساتين في موقع حيوي بالمدينة، وهو ما ساهم في مساعدة الحسناء ” سيرا ” على استعادة توازنها وحياتها من جديد، وقد كان لعامل إتقانها للخياطة التي تعلمتها في ” مدريد ” فضل كبير في إنقاذ حياتها من الانهيار، ولذلك نستطيع التأكيد على أن الخطاب الذي انفصل في المدينة الإسبانية مدريد ضمن علاقة الفتاة ” سيرا ” مع والدتها ” دولوريس “، استعاد اتصاله في المدينة المغربية ” تطوان ” ضمن علاقة المصلحة بين ” سيرا ” و ” كانديلاريا “، وكل ذلك بواسطة نظام الفتق والرتق، إنها آليات الخياطة المهيمنة، خياطة وتصميم الفساتين الأنيقة، وخياطة وفتق ورتق أحداث الرواية بواسطة حياكة السرد، وتصميم الحكاية.

بناء الرواية استند لدى المبدعة ” ماريا دوينياس ” إلى اعتمادها على الحميمية في التعامل مع شخصيات الرواية من حيث احتضانها شخصية ” سيرا كيروكا مرطين ” بقوة، وخوفها عليها من جميع الأخطار، فأقدمت على إبعادها من ” مدريد ” حيث بوادر الفتنة والحرب الأهلية بسبب الانقلاب العسكري الذي نفذه القادة العسكريون الإسبان في شمال المغرب بقيادة ” فرانسيسكو فرانكو “، وتهجيرها إلى مدينة ” تطوان “، حيث سوف تنعم بالاستقرار، وبالتالي تستطيع الروائية كتابة روايتها بهدوء وهي تحافظ على حياة شخصيتها الأساسية.

     لقد فضلت المبدعة ” ماريا دوينياس ” وهي امرأة، اختيار امرأة لبطولة روايتها، وهي علامة مشرقة لها قيمتها الاعتبارية التي تحيل على الفترة الزمنية التي ارتبطت بأحداث الرواية، أي الثلاثينيات والأربعينيات، حيث كانت مكانة المرأة في إسبانيا ما زالت متدنية، ثم إن اختيار المبدعة ضمير المتكلم الذي أسندته إلى ” سيرا ” يعود بوضوح لقرار المرأة الإسبانية دخول غمار الحياة والعمل، وتوجيه التنمية، والمشاركة فيها، إنها فترة تؤرخ لحركية المرأة الإسبانية، ونضج تطلعها نحو ترسيخ مكانتها ودورها الحيوي في جميع أطوار تشكيل المجتمع، إن إسناد ضمير المتكلم ” لسيرا ” كان اختيارا ذكيا ومغرضا من طرف المبدعة التي كثيرا ما كانت تتقمص دور الساردة من أجل تمرير آرائها الخاصة عبرها وفق توظيف زمن روائي ضاغط للغاية، كما كانت تلجأ إلى التدخل في توجيه الشخصيات بطريقة جائرة وآلية مبنية على خلق الصدف واصطناعها، فكثيرا ما كانت تمعن في صناعة الأحداث في الرواية عن طريق إقحام الصدف في حياة ” سيرا “.

     يعتبر تصنيف رواية المبدعة ” ماريا دوينياس ” من عناصر القوة والتماسك اللذين يميزان هذا النص، فالنص يفتح المجال واسعا أمام المهتمين، ويقدم نفسه بصور متعددة لها تبريرها الإبداعي والجمالي داخل العالم الروائي، فهي تارة رواية بوليسية، وتارة أخرى رواية توثيقية تسجيلية، وطورا آخر هي رواية تاريخية، وفي بعد آخر هي رواية رومانسية… وهكذا دواليك، هي تقريبا جماع هذه التصنيفات، وهنا بالضبط كانت قدرات المبدعة الإسبانية مشرعة على جميع الاحتمالات التي ساعدتها في تدوين شموخ قيمة نصها الإبداعي، وشهرته الكبيرة فيما بعد، ونقله إلى كثير من اللغات الإنسانية الحية المعروفة، لقد استطاعت ” ماريا دوينياس ” أن ترسم في روايتها أهدافا إنسانية رفيعة، وقيما نبيلة سامية، ساقتها بطريقة إبداعية فنية بديعة، ضمن ثنايا، وأحداث الرواية.

     الفتق رديف مباشر للرتق، ومفهوم الانفصال لا يختلف كثيرا عن مفهوم الاتصال، فكلاهما يخفي وحدة متوهمة، وكلاهما يتمظهر ضمن صيغ التبعثر والتشتت الزمانيين، وكلاهما يختبئ خلف وهم البدايات المفضية إلى نهايات سعيدة، فهل أضحى تاريخ إسبانيا اليوم سعيدا؟

             

مقالات من نفس القسم