لا متسع من الوقت تمنحه القطارات للمدن الصغيرة، من أجل وداع يليق بأحبة وأهل نفارقهم، فلحظات توقف القطار بمحطة قوص لم تتجاوز الخمس دقائق، منحها الوالد للغريب يوصيه بابنته، حتى نظرات الوداع لم تسمح له بها.
لم يجد الرجل صعوبة فى العثور على مقعد، بعدما استحث شهامة أحد الشباب ليترك مقعده لها. العناء كان فى إيجاد متسع لحقيبتيها، مع امتلاء الأرفف العلوية المخصصة للحقائب. أخذ يدهس بيديه الحقائب لينكمش حجمها، وأعين الجالسين تراقبه خشية اتلاف حقائبهم أو تبدل أماكنها. بمشقة تمكن من افساح مكان لواحدة، فالتقطت الأخرى منه، تعفيه مزيدا من المشقة، أراحتها على رجليها شاكرة إياه. أشار إليها بمكان تواجده عند مدخل العربة إن إحتاجت له، واختفى الغريب فى الزحام.
مع مرور القطار بمحطات تذهب ببشر وتأتى بآخرين، اقتنص أحد الواقفين مقعد لراكب وصل لوجهته. بات يفصله عن الفتاة مقعدا واحد خلفه، أدار رأسه لها فأصبح وجهه مقابلا لوجهها. ما أن لمحته يُمعن النظر فيها، حتى خبأت وجهها بخلفية رأس الرجل الذى يتوسطهما كحاجز. مال برأسه يمينا فاختبأت يسارا، لاحقها يسارا فاتجهت يمينا، بتكرار ملاحقته أدركت أنه لن يتوقف.
أخذ غضبها يتصاعد مع استمرار ارتباك خجلها وخوفها، إلى أن غالب الغضب خجلها للحظات، فحدقت عينيها بعينيه ترميه بشررها واحتقارها، رد بابتسامة تسخر من غضبها المكتوم، وعجز خجلها عن ايقافه. لم تحتمل مواجهته، نكست رأسها لأسفل تحجب عنها وقاحة نظراته وسخريته منها.
صدى وصايا أمها القديمة يتردد يُعجزها أكثر: الفتاة ذات الخلق لا تشتبك مع متحرشى النواصى، تسرع بخطاها كقطار لا يتوقف متى رماها أحدهم بإساءة. لكن أمى لا مخرج أمامى، القطار يحملنى وإياه لوجهة واحدة، لا اختيار فيها يسمح بالهرب، الاختيار هنا بين مواجهة وتسليم لا ثالث لهما.
وبينما يدور الحوار بعقلها، وعيناها لم تعد ترى نظراته، كانت روحها من تكابد، تستشعر نهشه المتواصل لها، والخزي يزيد من جثامة وطأته على صدرها. بدأت تختنق وعيناها تدمعان وهى منكسة الوجه ذليلة، ما أن أوشكت دموعها على السقوط، حتى خرج صوتها يمنع تساقطها، “يا حيوااااان! بص قدااامك” بصوت مبحوح ابتلع نحيبه صرخت فيه.
فاجأه الصراخ وفاجأها. الدهشة بلدت وجهه عن التعبير، وأصابته رعشة خوف خضع على إثرها لما قالته حرفيا، نظر أمامه وجسده معتدل بتشنج أعصاب، ثابت الهيئة. تعجبت كيف تخطى صوتها حيرة قرارها، لم تكن قررت بعد مواجهته لتصرخ فيه. شعور بزهو الإنتصار تملكها للحظات، أبهجها كثيرا قدرتها على إخافته.
ما إن هدأ وهج انتصارها، وبدأت تدرك فعليا ما جرى، وكيف صرخت به على الملء، أخذت تستشعر نظرات الركاب تحدق بها تستنكر، تتعجب، تستفهم، فلم يكن أحد بجوارها ليضايقها بصورة تدفعها لصراخ. عاودها الخجل، وأحست بنظرات عتاب ترسلها أمها إليها، فجادلتها: لم أكن أنا، فتاة بداخلى صرخت بديلا عنى، قاومت عنى، كانت حارسى. أوتعلمين يا أمى، ممتنة لها أنا. أشعر بالأسى أننى لم أبادر، أغبط تلك الفتاة على شجاعتها وقوتها، هكذا أرغب أن أكون.
راح يلمم شتاته رويدا رويدا، عاجزا عن تصديق ما حدث، وكيف تحولت الفتاة من مسكينة بدت مغلوبة على أمرها لوقحة سليطة اللسان. كان الخزي يطعن رجولته لشعور الخوف الذى انتابه من فتاة، وتسليمه لأوامرِها دون جدال. فأخذ يدفع الخزي عنه بلعنها وسبها سرا: البت البجحه، عاملة فيها مئدبة، تحط عينها ف عينى وتصرخ وسط الرجاله من غير خشا.
بدأ الغضب يستولى عليها، وهى تحاكم صمت الركاب عن أذيتها، واستنكارهم مقاومتها. بُغضِها كان يُلبس جميع الرجال أمامها بالقسوة والخسة، وهى تستعرض تاريخاً مظلماً من قهر نساء مدينتها بالصعيد. وكعادتها مع تعرضها لأي قهر ذكوري، تتحول أحشائها لكتلة من نيران تلتهمها داخليا، ورؤى شديدة القسوة تسيطر على فكرها، تتمثل فى عقاب وهمي جماعى لجنس الرجال حرقا، أو رميا بالرصاص لمتعة أطول، ذبحا بالسكين لمتعة أشهى.
وبينما أخذت الكراهية تجذبها شيئا فشيئا لظلمات الحقد، تداركت انسحاب روحها للجحيم، راحت تستبدل صور الرجال البغيضة بمخيلتها، بصور رجال حقيقيّن من لحم ودم، كانوا لها الأمان ومصدر قوة، يتقدمهم والدها. حاولت بهذا التحرر عبر زحزحة إرث ثقيل من تاريخ بغيض لمدينة أحكم الرجال قبضتهم عليها، بذكريات طيبة منتقاة من حياتها القصيرة.
مع توقف القطار بمحطة أسيوط نهض الرجل، وفى أثناء رحيله رمى نظرة غاضبة للفتاة، فطالعته بنظرة لم يفهم مغزاها. لم تكن نظرة غضب لما فعله، ولا شماته لانتصارها. كانت نظرة صافية كأنها المرة الأولى التى تلتقى فيها عيونهما.ر