حكاية ميسز آجنس سردينة ومستر على الطيار

أشرف الصباغ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أشرف الصباغ

إن الله يسبب الأسباب عليه أرزاق الطير والبشر والنخل والشجر فيجعل رزق هذا على ذاك. وإبراهيم عنبر الذي يعمل في ورشة طباعة في الدرب الأحمر، بالقرب من جامع ستنا فاطمة النبوية، ويعيش مع سلمى الديب في الوايلي الكبير لم يحصل على نصيبه من التعليم لظروف يعرفها نصف المصريين. أما سلمى التي كانت ترى أنها أحلى من ممثلات الثمانينيات والتسعينيات، وأن الأقرب في الشبه منها هي ليلى علوي، فقد أدركت بعد إنجابها ابنتها الأولى أن تستغني عن زوجها إبراهيم وتشوف حياتها، لأنه طوال أيام الأسبوع الستة في المطبعة، ويوم الأحد لا يغادر الفراش. عادت سلمى إلى حسن التايه الذي ورث مهنة إصلاح الأحذية عن أبيه عن جده. وحسن التايه ابن اللئيمة يتباهى بأنه ينام مع سلمى معبودة جماهير الوايلي وحلم شبابها الذي خطفه إبراهيم المطبعجي المعفن.

حياة سلمى جحيم ونار جهنم. فهي تشعر بالفقر والفاقة، وتشعر بالحاجة لزوجها الغائب دوما والمجهد دوما. تشعر أنها ليست مثل كل نساء الوايلي. لا فرح ولا سعادة ولا رجل يدللها. إبراهيم مجهد دوما وأذناه تلتقطان الكلمات والحروف. والكلام يتطاير كشرر يمكنه أن يحرق الحابل والنابل. فأخذها من قصيرها واصطحب زوجته سلمى الحامل وابنتهما عفاف وتوجه إلى البساتين، لعل تغيير محل الإقامة يغير من الأوضاع قليلا. ويعيد إليهما أجمل قصة حب تغنت بها بنات الوايلي في يوم من الأيام، وحسده عليها الصنايعية والطلبة وكل من هب ودب.

مادلين تعرف هذه القصة، وكثيرا ما كانت تضرب بها المثل للتدليل على الحب تارة، وعلى الضياع تارة أخرى، وعلى توابع الفقر تارة ثالثة، وعلى الفساد السياسي والإداري في البلد تارة رابعة. غير أن الأمور لم تنته بعد انتقال إبراهيم وسلمى إلى البساتين بالقرب من حوش الصفيح الذي كنا في زمن ما نعمل فيه مع الشاب الذي قال إنه طالب في كلية هندسة قسم ميكانيكا، وأمرنا أن نناديه بـ “الباشمهندس”، ثم خدعنا وهرب من دون أن يسلمنا أجورنا، وشخر لي وكاد يضربني عندما حاولت مطالبته بأجري.

مادلين، اسمها الحقيقي “مادلين”، وأنا أحب مناداتها بـ “روزا”. بينما يناديها زملاؤها في قسم التاريخ بالجامعة بـ “ميمي”، ويناديها الموظفون والطلاب بـ “دكتور ماجدة”. لا أدري بالضبط، ما هي الأسباب الحقيقية وراء تعدد أسمائنا، ولكنني رَجَّحْتُ بعد أن كبرت وفهمت، أن الأسباب قد تكون هي نفس أسباب تأكيداتنا بأننا نسكن في باب الشعرية أو الخرنفش. أما أنا فمشكلتي صعبة للغاية، لأن أمي صفية فرج كانت مصممة على مناداتي بـ “الواد ميمون” رغم تجاوزي الأربعين من عمري ووصولي إلى منصب لا بأس به ككبير مهندسين في مصلحة السكك الحديدية، ربما لأنني آخر العنقود، وربما لأنها كانت تريد التأكيد دوما على شيء ما لا أعرفه. وعندما تكون غاضبة مني لسبب ما كانت تناديني بـ “زفت الطين” أو في أحسن الأحوال “الجدع ده، جوز مادلين”. لكن مادلين التي لا أحب مناداتها بهذا الاسم، فهي تناديني بـ “ميمون” عندما تكون غاضبة مني، وتدللني في أكثر الأحيان بـ “مينا”. وأصدقائي القريبون يفضلون مناداتي بـ “مينو”، بينما زملاء العمل والمسؤولون يغمزون لبعضهم البعض وينادونني بـ “محمود”. ويناديني صلاح، نادل مقهى الحرية، وغالبية العاملين في بارات وسط البلد بالأستاذ “مأمون”.

إن الله يسبب الأسباب. وأحيانا يُبنَى مستقبل الدول والمجتمعات وفق تفاصيل ومسوغات لا يعلمها إلا صاحب الغيب والرزق والمطر وساتر الخطايا والأوزار والمحن. سلمى الديب تحب الرجال. لا ضرر ولا ضرار، فهناك رجال يحبون النساء أيضا. وما باليد حيلة. لا أحد يمكنه أن يمنعها، خاصة وأنها صارت في منطقة نفوذ علي الطيَّار السائق المحترف وتاجر المخدرات وعنتر المنطقة ودون جوانها. انتهى عصر حسن التايه اللكلاك كثير الكلام والفضائح الذي لا يستر سر أحد، وبدأ عصر علي الطيار ابن السيدة عيشة الذي احتوى سلمى ووفر لها كل ما تريد، بينما إبراهيم يوفر لها ولابنتهما وللطفل المقبل كل ما يستطيع أن يوفره. وسارت الأمور في أمان وسلام إلا من بعض النظرات والغمزات أو التلميحات التي لا تلبث أن تتلاشى بفعل قوة ونفوذ وجبروت علي الطيار والمخاطر التي قد تنشأ عن القيل والقال.

فجأة ظهرت إيناس سردينة. ظهرت كقمر واحد ووحيد في سماء المنطقة غطى على الأقمار والنجوم الأخرى وصار بدرا مكتملا طوال الشهر. وعلي الطيار مغرم بالجمال وقادر على جذبه واحتوائه مهما كلفه الأمر. لكن إيناس سردينة ليست سلمى الديب قليلة الحيلة التي تسأل الله لقمة الخبز والصحة لزوجها لكي يكفيها ويكفي أولادها ولا يجعلها تحتاج أو تفرط في نفسها. إنها ابنة المستقبل والزمن القادم وعقل مصر الحكيم وأمل الأمة وقمر نُخَبِها المستنيرة في الفن والأدب والسياسة والإعلام ومجلسي الشيوخ والنواب. ميسز سردينة صياد لا فريسة حتى وإن أعطت علي الطيار أو غيره انطباعا بأنه نجح في اصطيادها. إنها سيدة حكيمة وخبيرة وعارفة بالطبائع والنفوس والهرمونات على الرغم من أنها لم تعمل بالتمريض إلا أسبوعين فقط وفصلوها هي وشبكة ضخمة من الممرضات والأطباء الشباب.

إيناس سردينة هي عطيات سردينة إبنة توفيق سردينة تاجر الانتخابات وابن أحزاب اليمين واليسار والوسط وحبيب الحكومة الذي نزح من أبو المطامير في زمن بعيد واستوطن القاهرة، وفيها ولدت عطيات التي صاروا ينادونها بـ “إيناس” بينما تفضل هي “آجنس”. لله في خلقه شؤون، ويخلق أيضا ما لا تعلمون. والقاهرة سوق واسع لا أول له ولا آخر. يمكنك أن تصبح فيه شاعرا وكاتبا ومخرجا وممثلا. من الممكن أيضا أن تصبحي فيه صحفية أو مطربة أو شاعرة مشهورة أو روائية مرشحة لجائزة نوبل، وسفيرة للفن والثقافة تنفتح أمامك أبواب الملوك والشيوخ والأمراء وجيوبهم وخزائنهم وقلوبهم العامرة بالمال والإيمان والحب والجوائز القيِّمة. أوساط القاهرة الرسمية وغير الرسمية اتفقوا ضمنا على فتح الطرق والقنوات ليلا ونهارا في المقاهي والبارات والصالونات وأطلقوا الأسماء والألقاب على المريدين والراغبين في الشهرة واعتلاء سلم المجد. في هذه المدينة يمكنك أن تصبح نائبا في البرلمان أو مصورا للرئيس أو سائقا لأي وزير، ويمكنك أن تكون مرشدا ومخبرا وقوادا. مدينة توفر لك كل شيء إذا قررت أن تكون أي شيء. الشرط الواحد والوحيد هو أن تمتلك نفسية القواد وعقلية القواد، وأن تكون مفطورا على القوادة والنطاعة. ستعثر على أمثالك الذين سبقوك ونالوا حظهم من المجد والحظوة. لا فرق بين يمين أو يسار أو وسط، ولا فرق بين رجل وامرآة. الكل يسير إلى مبتغاه عدا تلك الأشباح الهائمة على وجوهها ليل نهار تعمل في ورديتين وفي أكثر من عمل، أو تتسكع تحت الكباري وتنام في المدافن، وتقطن مناطق عشوائية لا مستقبل لها ولا ماضي.

إيناس سردينة، التي هي عطيات سردينة، التي تفضل أن ينادوها بـ “ميسز آجنس”، صارت مشهورة تهتم الصحافة بها وبصورها بعد أن حصلت على الثانوية العامة واشتغلت في السياحة وبعض النوادي الليلية المحترمة ذات السمعة الجيدة في أوساط رجال الأعمال والمثقفين وهواة القوادة وضباط الشرطة الشباب والممثلين المتواضعين والفاشلين. وبعد عدة أعوام قالت إنها حصلت على ليسانس الآداب متفادية ذكر اسم الجامعة والسنة التي حصلت فيها على المؤهل العالي الذي يبدو أنه كان ضروريا لتصبح هي نفسها صحفية جيدة تصول وتجول، حتى ظهر لها أول كتاب، فصارت كاتبة مرموقة يترجمون كتبها ومقالاتها ويمنحونها الجوائز والأوسمة ويرون فيها مستقبل البلاد.

لا أحد يدري بالضبط كيف تعرفت ميسز آجنس سردينة على مستر علي الطيار. قد يكون ذلك حدث أثناء عمله عند أحد المشاهير أو في فرح بلدي أو في بار، وربما عبر الديلر الذي يوفر لميسز آجنس نصيبها الأسبوعي من المخدرات التي توزعها تارة وتحرقها تارة أخرى على أحبابها ومريديها وقرائها والنقاد المتيمين بجمالها وأدبها وإبداعها. الاحتمالات كثيرة، خاصة وأن البساتين لا تبعد كثيرا عن عمارة العرائس في شارع قصر العيني حيث تعيش ميسز آجنس سردينة في شقة مكونة من طابقين في إحدى العمارات الجديدة الفخمة. هكذا أرادت هي عندما دفعت مقدم هذه الشقة من حر مالها أثناء زيجتها الأولى من رائد في الشرطة لمدة عام ونصف العام، ثم بدأت تسدد أقساطها من حر مالها أثناء زيجتها الثانية من رجل أعمال يتاجر في الأدوات الطبية والعملات الأجنبية. أرادت أن تطل من الواجهة على جاردن سيتي، ومن الخلف على منطقة ضريح سعد ولاظوغلي وأول نوبار وربما شارع خيرت أيضا. الشقة كانت كبيرة وبها أبواب ونوافذ لدرجة أنها قد تطل على حلوان من جهة وعلى مصر الجديدة وأول طريق السويس من جهة أخرى.

المصيبة أن سلمى الديب قد أصيبت بمرض جنسي نقلته بالصدفة إلى حسن التايه. وعندما دخلت إلى نفوذ علي الطيار انتقل إليه المرض، ولم يظهر إلا عندما اشتكت ميسز آجنس سردينة وظهرت عندها بقع حمراء داكنة قالوا لها إنها “السنطة”. وقبل أن تكتشف آجنس إصابتها، كان أحد وزراء الثقافة قد أصيب، وثلاثة من النقاد، وسبعة من أساتذة الجامعة وخمسة عشر صحفيا وإعلاميا، بينما أصيب خمس من صديقاتها اللاتي عادة ما يسهرن معها هي وعلي لأوقات متأخرة، وأحيانا يقضين الليل هناك لصعوبة العودة إلى بيوتهن.

ميسز آجنس لا تنام مع كل هؤلاء، ولا مستر علي الطيار ينام مع كل صديقاتها. كل ما في الأمر أن هذا المرض ينتقل أيضا عن طريق استخدام المناشف والأدوات، أو ارتداء ملابس غريبة، وليس فقط عن طريق الممارسات الجنسية المباشرة أو غير المباشرة. وبالتالي، لا يمكن أن تنفي إحدى الروايات رواية أخرى. كل شيء جائز. ولكن علينا أن نحذر إلقاء الاتهامات جزافا، أو التشكيك في الضمائر، خاصة وأن العدوى طالت الجميع، ومن الممكن أن تنتشر أسرع من وباء كورونا نفسه. فالقاهرة مدينة مريبة وأريبة وبها من المعجزات ما يكفي عشرين نبيا..

ظهرت الأزمة الحقيقية عندما قررت ميسز آجنس سردينة خوض المعركة الانتخابية لنيل شرف تمثيل الشعب. قبلها بعدة أسابيع استطاعت أن تدفع بمستر علي الطيار في مجلس الشيوخ الذي استحدثته الدولة مؤخرا، بينما فضلت هي أن تكون عضوا في مجلس الشعب. ولكن فجأة حدثت بلبلة غير عادية ولغط طال مجلس الشيوخ أيضا. إذ تناثرت في البداية شائعات تشير إلى انتشار مرض جنسي بين أعضاء وعضوات مجلس الشيوخ. وأثناء الحملة الانتخابية التي تضم اسم ميسز سردينة في إحدى قوائمها ظهرت نفس الشائعات ولكن بقوة. غير أن المدهش أن وسائل الإعلام تكتمت على الأمر، وتعمدت المؤسسات الرسمية والسيادية أن تدفع برجالها ونسائها إلى الصفوف الأولى وهم في أبهى الصور، وتعلن عن تسليم جوائز ورصد منح وتعيين طاقات وقدرات شابة جديدة في أماكن وأعمال مرموقة، بينما إبراهيم عنبر يقضي ورديتين في المطبعة ليكفي حاجة سلمى وعفاف والطفل القادم، وسلمى تنام مع سالم المكوجي الذي نقل العدوى إلى نصف سكان البساتين. أما المدافن والأحواش وما تحت الكباري فقد أصبحت عامرة بالسكان ورعايا الدولة والغبار البشري…

ضحكت مادلين الملعونة إبنة الكلب التي تتابع كل صغيرة وكبيرة، ضحكت عندما أعلنوا أن مستشفيات الأمراض الجلدية والتناسلية تكاد تغلق أبوابها أمام الناس. لكنها انكتمت إبنه الكلب هذه عندما علمت أن الناس يتجمهرون عند مستشفى الحوض المرصود، حيث موقف أتوبيس (72) الذي كان يحملنا إلى البساتين أيام العمل في الصفيح، وحيث قطعة الأرض اللعينة التي لا تريد مادلين التفريط فيها بناء على وصية أمي صفية فرج التي ماتت وشبعت موتا. أمي صفية فرج لا تريد أن تعتقنا لوجه الله وتتركنا وشأننا لنبيع هذه الأرض ونريح رؤوسنا منها ومن قرفها، بل ومن قرف مادلين الملعونة التي نصَّبت من نفسها حارسا على وصايا أمي وعلى هذه الأرض الكائنة خلف المستشفى عند تقاطع شارعي الحوض المرصود والشيخ سلامة حجازي.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون