شارل بودلير
ترجمة: هدى حمودة
اثملوا
عليك أن تكون ثملا على الدوام. كل شيء هنا: هي القضية الوحيدة.
حتى لا تحس بعبء الزمن الهائل الذي يكسر أكتافك ويميلك إلى الأرض، عليك أن تثمل بلا توقف.
لكن بم؟ بالنبيذ، بالشعر، أو بالفضيلة، كما تشاء. لكن اثمل.
وإن حدث مرات، على أدراج قصر، فوق العشب الأخضر لحفرة، في العزلة الرتيبة لغرفتك. وأفقت وقد تراجعت السكرة أو تبددت، اسأل الريح والموجة والنجمة والطائر والساعة وكل ما يتسرب، يتأوه، يتدحرج، يشدو، يتحدث، اسألهم عن الوقت، وستجيبك الريح والموجة والنجمة والطائر والساعة: “إنها ساعة السكر
حتى لا تكونوا عبيد الوقت المعذبين، اثملوا، اثملوا دائما!
بالنبيذ، بالشعر، أو بالفضيلة، كما تشاؤون”.
*
الرغبة في الرسم
قد يكون الإنسان تعيساً، لكن الفنان مبتهج بالرغبة تمزقه!
أتوق لرسم تلك التي بدتْ لي نادرة جدا، والتي توارت سريعا كشيء جميل مؤلم، خلف المسافر المندفع في الليل. كما لو أنها اختفت من زمن بعيد!
هي جميلة وأكثر؛ هي مدهشة. فيها يتكثف السواد: وكل ما توحي به ليلي وعميق. عيناها مخبئان فيهما يلمع اللغز بغموض، ونظرتها تضيء كالبرق: هي تفجر في الظلمات.
أشبهها بشمس سوداء، لو أمكننا تخيل نجم أسود يسكب النور والفرح.
لكنها تُذكِّر أكثر بالقمر الذي بلا شك طبعَها بأثره المرعب؛ ليس قمر الأناشيد الأبيض الذي يشبه عروسا باردة، بل ذاك القاتم والمسكر، العالق في عمق ليلة عاصفة وتدفعه غيوم تعدو؛ ليس القمر الهادئ والزائر السري لنوم أناس أنقياء، بل القمر المنزوع من السماء، منهزمٌ وغاضب، والذي ترغمه ساحرات تيساليا على الرقص بقسوة فوق عشب مذعور.
في جبينها الصغير تسكن الارادة العنيدة وحب الفريسة، ولكن في أسفل هذا الوجه القلق، حيث الخياشيم تجول لتشم المجهول والمستحيل، يتفجر، بسماحة مبهمة، ضحك فم كبير، أحمر وأبيض، وشهي يثير الحلم بمعجزة زهرة فاتنة، تتفتح في أرض بركانية.
هناك نساء يثرن الرغبة بتملكهن والتمتع بهن؛ لكن هذه المرأة توحي برغبة الموت بطيئا تحت نظرتها.
*
نصف عالم في خصلة شعر
دعيني أتنفس طويلا، طويلا، رائحة شعرك وأغمر فيه كل وجهي، كرجل يعبث في ماء نبع، وأحركه بيدي كمنديل معطر، لأنفض ذكريات في الهواء.
لو أنك تدركين كل ما أراه وأحسه وأسمعه في شعرك!
روحي تسافر في العطر كروح رجال آخرين في الموسيقى.
شعرك يسع حلما كاملا مليئا بالأشرعة والصواري؛ هو يضم بحارا عظيمة تحملني رياحها نحو مناخات ساحرة، حيث المدى أكثر زرقة وعمقا، والهواء معطر بالثمار والأوراق وبجلد بشري.
في محيط شعرك ألمح ميناءا يعج بأناشيد حزينة، وبرجال أقوياء من كل الشعوب ومراكب من كل الأشكال منحوتة بهندسة دقيقة ومعقدة تحت سماء ممتدة حيث يستلقي الدفء الأبدي.
في لمسات شعرك أعثر على كسل ساعات طوال، تمر على أريكة بغرفة مركب جميل، يهدهدها تمايل خفيف للميناء، بين إصيص أزهار وجرار منعشة.
في الموقد المتوهج لشعرك أتنفس رائحة تبغ ممزوجة بالأفيون والسكر: في ليل شعرك، أرى لمعة امتداد الأرزق الاستوائي؛ على الساحل المزغب لشعرك أثمل بروائح مشكلة من القطران، المسك، وزيت جوز الهند.
دعيني أقضم طويلا ضفائرك الثقيلة، السوداء. حين أقضم شعرك المرن الثائر، يخيل لي وكأني ألتهم ذكريات.