جان فرانسوا ليوتار: تفسير مابعد الحداثة للأطفال 

جان فرانسوا ليوتار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  ترجمة : سعيد بوخليط

   تقديم : لقد جمعنا بعض هذه الرسائل التي كتبها جان فرانسوا ليوتار بخصوص قضية مابعد الحداثة. لم يكن السعي هيِّنا كي نحصل على موافقته بخصوص إخراجها إلى العموم.  نريد عبر هذه المبادرة المساهمة في إزالة شوائب بعض الاتهامات، الواصفة لهذا الاتجاه باللاعقلانية، النزعة المحافظة الجديدة،  الإرهاب الفكري،  الليبرالية البلهاء،  العدمية،  الكَلَبية،  وأوصاف أخرى. يظهر بأنه غير مكترث أبدا بهذه النعوت، بل يقول بخصوص توظيفها إشارة تكشف على أنه عوض الاستناد إلى القراءة، مانسميه قراءة، والاستناد على مرجعية دلائل فورية، يفضل خصومه بالأحرى القدح الشخصي حسب مقولات جاهزة كليا، لاتتناسب قط مع الاحترام الجدير بالفكر حينما نخوض سجالات من  هذه  العينة.  

لكنه يتحجج خاصة بكون بساطة هذه النصوص الموجهة للأطفال، وكذا  وضوحها المضلِّل بيداغوجيا، لايمكنها قطعا المساهمة، وإن أصدرناها، كي تقوِّم طبيعة جدال يبقى غامضا جدا. أيضا،  يضيف، فقد كان بعيدا للغاية على أن يبدو واضحا بخصوص هذا الإشكال كي يجازف بالإبلاغ عن حدس يبقى غامضا.   

نعتقد مقابل تصوره هذا، وهنا يكمن الدليل  الذي أرغمه على التنازل، أنه ليس سيئا  بأن الإحساس المبهم(ليس بوسعه تقديم دليل سوى وفق إشارات تاريخية)، عبر هاجس أن شيئا ما يتغير بالنسبة لأحاسيسنا يحدث دون استعداد وتبعا لالتباسه. بعيدا على أن يكون هذا اللااكتمال واللاتوقع، مناقضا للعقل، وكذا الاستقامة، سيحترم على طريقته موضوع فكرته،  والتاريخ المعاصر، وكذا الذكاء الذي لايمكن بحسبه لفكرنا أن يعرض نفسه سوى  كطفل.  

لقد حذفنا من هذه الرسائل الفقرات التي لاترتبط بموضوعها الجوهري. أهملنا التكرارات الواردة في هذه الرسالة أو تلك.  بناء عليه، أعدنا بطريقتنا صياغة شكل محتوى العمل.     

                           الناشر/ باريس 25دجنبر 1985 

 

  -جواب عن سؤال : مفهوم مابعد الحداثة؟

إلى توماس كارول

مدينة ميلان، 15 ماي 1982

*ملتمس

إننا في لحظة استرخاء، أتكلم عن لون الزمان. نخضع لضغط عبر مختلف الجوانب كي ننهي ذلك مع التجريب، في الفنون وكذا مجالات أخرى.

 قرأت مؤرخا للفن يمدح الاتجاهات الواقعية ويناضل من أجل ارتقاء نزعة ذاتية جديدة.  

قرأت ناقدا فنيا يبث ويبيع “المغاير للطليعي” في أسواق الفن التشكيلي.

قرأت، تحت اسم مابعد الحداثة، معماريين يتخلصون من مشروع باوهاوس، حيث يلقون بالرضيع الذي لازال بعد تجربة،  وسط ماء الحوض الوظيفي.

قرأت بأن فيلسوفا جديدا اكتشف ماسماه بغرابة اليهودية-المسيحية ويتوخى من خلال وضع خاتمة للإلحاد الذي عممناه.  

 قرأت بين صفحات أسبوعية فرنسية بأننا لسنا سعداء مع ألف هضبة(1)مادمنا نتوخى حقا، خاصة حين قراءة كتاب فلسفي، أن ننعم بقليل من المعنى.

قرأت مع مداد ريشة مؤرخ وازن بأن الكتَّاب والمفكرين الطليعيين،  سنوات الستينات والسبعينات نشروا الرعب من خلال توظيف اللغة، وينبغي بالتالي تحديد شروط سجال مثمر بأن يُفرض على المفكرين طريقة مشتركة للتكلم، وتحديدا طريقة المؤرخين.

قرأت لفيلسوف لغوي بلجيكي شاب يشتكي من أن الفكر الأوروبي، حيال التحدي الذي تطرحه أمامه الآلات التي تتكلم، قد تنازل لهذه الأخيرة عن الاهتمام بالحقيقة، وطرح نظام لساني آخر(2) بدل نموذج النظام المرجعي(نتكلم عن أقاويل، نكتب عن كتابات، التداخل النصي)، من ثمة تأكيده على ضرورة أن نبعث حاليا انطلاقة متينة للغة بناء على المرجع.    

قرأت مختصا مسرحيا موهوبا، يؤكد بأن مابعد الحداثة برهاناتها ونزواتها لاوزن لها أمام السلطة، لاسيما حينما يكون الرأي العام مضطربا يشجع هذه الأخيرة على ممارسة سياسة  الرقابة التوتاليتارية أمام تهديدات الحرب النووية.    

قرأت مفكرا مرموقا يدافع عن الحداثة ضد من وصفهم بالمحافظين الجدد. يعتقد، بأن رغبة هؤلاء تتجه تحت لواء مابعد الحداثة، إلى التخلص من مشروع الحداثة اللامكتملة، ذلك المتعلق بالأنوار. حتى ولو اعتقد آخري مناصري الأنوار، كما الشأن مع كارل بوبر أو تيودور أدورنو، بأنهما دافعا عن المشروع فقط ضمن نطاق دوائر حياتية خاصة، السياسة  بالنسبة لصاحب كتاب المجتمع المنفتح،  ثم الفن بالنسبة لمؤلف النظرية الجمالية.

يؤكد يورغان هابرماس(تذكُرُ هذا الاسم)بأنه إذا أخفقت الحداثة، فلأنها تركت كليانية الحياة تتجزأ إلى تخصصات مستقلة تتدبرها الكفاءة الدقيقة للمتخصصين، هكذا فالفرد الملموس يعيش “المعنى اللامتسامي ”وكذا ”الصيغة المفككة” ليس كانعتاق، بل وفق نموذج السأم الهائل الذي كتب عنه بودلير قبل قرن تقريبا.  

تبعا لإشارة من ألبريشت ويلمر، يعتبر الفيلسوف بأن علاج هذا التجزيء للثقافة وانفصالها عن الحياة لايمكنه أن يتأتى سوى من”تغيير لوضعية التجربة الجمالية حينما لايتم التعبير عنها في المقام الأول بخصوص أحكام الذوق”، لكنها”وظفت من أجل استكشاف وضعية تاريخية  للحياة”، بمعنى”حينما نضعها في علاقة مع قضايا الوجود”. لأن هذه التجربة “تندرج ضمن رهان للغة ليس ذاته رهان النقد الجمالي”، بل تتدخل في”المحاولات الإدراكية وكذا التوقعات المعيارية”، إنها”تغيِّر الطريقة التي تحيل في إطارها مختلف هذه اللحظات نحو بعضها البعض”.  مايلتمسه هابرماس من الفنون وكذا التجربة التي يحققها، تكمن عموما في تشييد جسر على امتداد الفجوة الفاصلة بين خطاب المعرفة، ذلك المتعلق بالإيتيقا والسياسة، بالتالي تعبيد الطريق أمام وحدة التجربة.  

ينصب سؤالي حول معرفة صنف الوحدة التي يحلم بها هابرماس. هل تمثل القصد الذي توخاه مشروع الحداثة في تأسيس وحدة سوسيو- ثقافية  تجد داخلها مختلف عناصر الحياة اليومية والفكر موقعا باعتبارهما مجموعا عضويا؟أو أنَّ الانتقال الذي ينبغي له اختراق رهانات اللغة اللامتجانسة،  والمعرفة،  والإيتيقا،  ثم السياسة، ينتمي إلى نظام ثان غيرها؟وإذا كان الجواب بنعم، كيف سيكون ممكنا تحقيق تركيبها الفعلي؟

الفرضية الأولى، ذات إيحاء هيغيلي، لاتسائل ثانية مفهوم تجربة شاملة جدليا؛في حين تعتبر الثانية أكثر قربا من فكر نقد مَلَكَة الحُكم، لكن يلزمها مثل هاته أن تتحمل إعادة الاختبار الصارم الذي فرضته مابعد الحداثة على فكر الأنوار، وكذا فكرة نهاية متكاملة بين التاريخ، و الفاعل. لم تكن بداية هذا النقد مع فتجنشتاين وأدورنو، لكن بعض المفكرين، الفرنسيين أو غيرهم، الذين لم يحظوا بشرف قراءتهم من طرف الأستاذ هابرماس، مما كان سيضعهم على الأقل في منأى بخصوص الإشارة السيئة المتعلقة بالتيار المحافظ الجديد.    

2-الواقعية :

الاستفسارات التي أوردتها بداية ليست جميعها متساوية. بل يمكنها أيضا أن تتعارض. قامت الواحدة منها باسم مابعد الحداثة، في حين اتجهت الأخرى نحو منازعتها. فليس بالضرورة الشيء نفسه التماس مرجع(وكذا الحقيقة الموضوعية)، أو المعنى (وكذا التسامي المعقول)، أو مرسل إليه(ثم جمهور)، أو مرسِل(وكذا التعبيرية الذاتية)أو التوافق التواصلي(ثم قانون عام للتبادلات، مثلا نوع الخطاب التاريخي). لكن تكتنف الدعوات المتعددة الأشكال بإرجاء التجريب الفني نفس الدعوة للنظام، والرغبة في الوحدة، والهوية،  والأمن، والشعبية(بمعنى الرأي العام، وكذا”العثور على جمهور”). يلزم إدخال الفنانين والكتَّاب إلى حضن الجماعة، أو على الأقل، إذا اعتبرنا الأخيرة مريضة، فيلزم أن نفوض لهم مسؤولية علاجها.     

توجد إشارة لاجدال فيها عن هذا الترتيب المشترك : يعتبر التخلص من إرث الطليعيين أكثر المقتضيات فورية بالنسبة لهؤلاء الكتَّاب. هكذا يتجلى بشكل خاص نفاذ صبر مايدعى ب” المغاير للطليعي”.  في هذا الإطار، الأجوبة التي أدلى بها ناقد إيطالي إلى نقاد فرنسيين لم تترك أي مجال للشك.  حين النفاذ إلى خليط الطليعيين، يعتقد الفنان والناقد أنهما أكثر وثوقا بخصوص إلغائهم  بدل مهاجمتهم مباشرة. لأنه بوسعهم تحويل الانتقائية الأكثر تهكما إلى تجاوز للخاصية الجزئية عموما لأبحاث سابقة.  الرغبة الصريحة في عدم الاكتراث بهم، تجعلهم عرضة للاحتقار من طرف الاتجاه الأكاديمي الجديد. والحال، استطاعت الصالونات والأكاديميات، خلال فترة استقرار البورجوازية في التاريخ، أن تشغل وظيفة تطهير وكذا منح جوائز آداب السلوك بخصوص مجالات التشكيل والأدب تحت غطاء الواقعية. لكن الرأسمالية ذاتها تنطوي على سلطة معينة كي لاتتحقق أشياء معتادة، أدوار الحياة المجتمعية والمؤسسات، التي تصفها التمثلات ب”الواقعية”، لايمكنها قط  استحضار الحقيقة سوى وفق نموذج الحنين أو الاستهزاء، كمناسبة بالأحرى للمعاناة بدل الارتياح. يبدو بأن الكلاسيكية محظورة في إطار عالم حيث الحقيقة مضطربة جدا وبالتالي لاتقدم مادة إلى التجربة، بل لاستقصاء التجريب.  

هذا الموضوع مألوف لدى قراء ولتر بنيامين. هل يلزمنا أيضا أن نتناول تحديدا أثر ذلك.  لم يكن التصوير الفوتوغرافي تحديا للرسم، أُلقي به من الخارج، وكذلك فيما يتعلق بالسينما الصناعية والأدب السردي. يتمم الأول بعض مظاهر مخطط يتوخى تنظيم المرئي الذي هيأه القرن الخامس عشر الميلادي في إيطاليا، بينما مكنت الثانية من إتمام إغلاق تعاقبات عضوية تماما شكلت مثالا نموذجيا للروايات الكبرى منذ القرن الثامن عشر فترة تشكلها. فأن يحل  الميكانيكي والصناعي، بدل اليد والحرفة، لم يمثل كارثة في ذاته، اللهم إذا اعتقدنا بأن الفن في ماهيته يعكس تعبيرا عن فردية مبهرة تخدمها كفاءة حِرَفية للنخبة.   

يكمن التحدي أساسا في إمكانية تحقيق الأفضل نتيجة ماستحققه الصورة والسينما،  على نحو سريع جدا، وبإشعاع تفوق أهميته مائة ألف مرة منجز الواقعية المرتبطة بالرسم والسرد، والمهمة التي تفوضها النزعة الاتباعية لهذه الواقعية، حفظها الضمائر من الانسياق وراء الشك. يلزم الفوتوغرافيا والسينما الصناعيتين التغلب على الرسم وكذا الرواية حينما يتعلق الأمر بترسيخ المرجع، ثم ترتيبه بناء على منظور تمنحه معنى سهل الإدراك، وتكرير التركيب والمعجم اللذين يتيحان للمرسل إليه القدرة على مباشرة تفكيك سريع للصور والمتواليات وبالتالي النفاذ  بيسر وجهة إدراك هويته الخاصة وفي نفس الوقت تلقيه لتأييد من طرف الآخرين، مادامت تشكل أبنية الصور تلك و متوالياتها منظومة تواصلية بين الجميع. هكذا تتضاعف مفعولات الحقيقة أو بشكل أفضل أوهام الواقعية.      

إذا تطلع الرسام والروائي، صوب عدم التحول بدورهما إلى مناصرين للقائم، ثم قاصرين علاوة على ذلك،  فيجدر بهما رفض هذه الوظائف العلاجية، والتساؤل عن قواعد فن التشكيل أو الحكي عنها مثلما أخذوها وتناولوها عن الأسلاف،  ستبدو لهم فورا أنها وسائل للخداع، الإغواء والطمأنينة، بالتالي تحظر عليهم أن يكونوا”صادقين”.  يحدث انشقاق لامثيل له، خلف التسمية المألوفة للرسم أو الأدب.  الذين يرفضون إعادة النظر في قواعد الفن ينجحون على مستوى الامتثال الجماعي، بحيث يطرحون للتواصل، ضمن نطاق”قواعد جيدة”، الرغبة المستوطنة لواقع الشيء مع معطيات وكذا وضعيات قادرة على إرضائها.  البورنوغرافية توظيف للصورة والفيلم من أجل هذا القصد.  تصير نموذجا عاما بالنسبة لمختلف فنون الصورة  والسرد غير المتأهبة لتحدي الإعلام الجماهيري.    

فيما يخص الفنانين والكتّاب الذين يقبلون مسألة التشكيك في  القواعد الفنية والتشكيلية والسردية،  ثم المبادرة إلى تقاسم موقفهم المرتاب من خلال نشر أعمالهم، حينئذ يجدون أنفسهم بلا مصداقية في نظر الهواة المنشغلين بالحقيقة والهوية، وبلا جمهور مضمون.  يمكننا بهذه الكيفية أن نعزي جدال الطليعيين حيال التحدي الذي طرحته الواقعيات الصناعية وكذا الإعلام الجماهيري على فنون الرسم وكذا السرد.  لايعمل مفهوم”الفن الجاهز”لمارسيل دوشامب سوى الاستدلال بحيوية وبشكل ساخر عن هذا التطور الثابت فيما يتعلق بالتخلص من حِرْفة الرسم، بل والفنان.  ومثلما أشار تييري دو دوف على نحو ثاقب، فالقضية الجمالية المعاصرة، لايتمثل هاجسها في :ما الجميل، لكن : ماهو الفن (وكذا الأدب؟).   

إن الواقعية المتطلعة من خلال تعريفها الوحيد إلى تحاشي سؤال الواقعية الذي يتضمنه إشكال الفن، تجد دائما نفسها في مكان ما بين الاتباعية والفن الهابط.  حينما تسمى السلطة حزبا، تتغلب الواقعية مع صيغتها الأخرى المتمثلة في الكلاسيكية الجديدة، على الطليعة التجريبية بفضحها ومنعها. أيضا يلزم الصور”الجيدة”،  والحكايات “الجيدة”،  ثم مختلف الأشكال الجيدة التي يلتمسها الحزب،  المنتقاة والمبثوثة، العثور على جمهور يرغب فيها مثل دواء مناسب للاكتئاب والقلق الذي يعيشه. التماس الحقيقة الواقعية، أي الوحدة،  والبساطة، والتداول، إلخ، لم يكن لها نفس الزخم أو الاستمرارية لدى الجمهور الألماني فترة مابين الحربين وكذا الجمهور الروسي بعد الثورة :ثمة مايؤكد الاختلاف بين الواقعيات النازية والستالينية.  

بيد أن مناهضة التجريبية الفنية تصبح رجعية أساسا، حينما تلتقطها حمولة  الجهاز السياسي:حينئذ يتوجب فقط على الحكم الجمالي إبداء رأيه بخصوص خضوع هذا العمل أو ذاك لقواعد فنية ثابتة. عوض أن ينتاب العمل الفني القلق بخصوص مايجعل منه موضوعا فنيا، وإذا كان بوسعه مصادفة معجبين، فالتقليد السياسي يقر بمعارف قبلية حول ”الجميل” ومن ثمة تكريسها، تنتقي أعمالا وجمهورا مرة واحدة وإلى الأبد. لذلك تستثمر المقولات في الحُكم الجمالي بنفس كيفية الحُكم المعرفي. ولكي نتحدث على منوال كانط، ستأتي الأولى والثانية في صيغة أحكام قطعية :اختبر التعبير”تهيئا جيدا”ضمن إطار الإدراك أولا، ثم لانستعيد مع التجربة سوى”الحالات” التي يمكن التفكير فيها شموليا من خلال ذلك التعبير.   

حينما تستدعي السلطة رأس المال، وليس الحزب، سيبدو الحل”المغاير للطليعي”أو ”مابعد الحداثة”حسب معنى تشارلز جينكس، أكثر ملاءمة من الحل المضاد للحداثة. تعتبر الانتقائية بمثابة الدرجة الصفر للثقافة العامة المعاصرة. نسمع الريغي، نشاهد الويسترن، نتناول الطعام في ماكدونالد عند الظهيرة ثم نهيئ وجبة محلية ليلا، نتعطر بعطر باريسي في طوكيو، ثم نرتدي زيا تقليديا في هونغ كونغ، فالمعرفة مادة لعبة تلفيزيونية. يسهل العثور على جمهور بالنسبة للأعمال الاليكترونية. حينما يتجلى الفن بكيفية رديئة، فإنه يمدح الفوضى التي تتسيَّد”ذوق”الهاوي. يرضى الفنان، ومدير الرواق، والناقد والجمهور بأي شيء، فاللحظة مناسبة للفتور. لكن هذه الواقعية المتعلقة بالهراء تمثل مجالا للمال:مع انتفاء المعايير الجمالية،  سيظل بالإمكان والأفضل تقييم قيمة الأعمال تبعا لما توفره. تتكيف هذه الواقعية مع مختلف الميول، مثل صنيع رأس المال بالنسبة لكل” الاحتياجات”، شريطة امتلاك الميول والحاجات،  قدرة شرائية.  أما بخصوص الذوق، فلسنا مضطرين كي نتحلى برهافة الحس حين التأمل أو التسلي.

يواجه البحث الفني والأدبي تهديدا ثنائيا، من طرف”السياسة الثقافية”، وتارة أخرى بفعل سوق الفن والكِتاب.  تكمن النصيحة التي يتلقاها من طرف هذه القناة، أو تلك، في تقديم أعمال متصلة أولا،  بموضوعات ماثلة أمام أنظار الجمهور الذي توجهت إليه، ثم تصبح بعد ذلك جاهزة(“محكمة الصنع”)بحيث يتعرف هذا الجمهور على قصدها، ويفهم دلالاتها، ويمكنه في ظل ذلك إبداء موافقته أو العكس، بل وحتى إن أمكنه الأمر، استخلاصه بعض الطمأنينة،  من الأعمال التي استساغها.     

*المصدر :

Jean-Francois lyotard :Le postmoderne expliqué aux enfants ;correspondance(1982- 1985) ;Galilée ;1986. PP/9- 23.

(1)  حتما يقصد ليوتار هنا؛ الكتاب المشترك بين جيل دولوز وفليكس غاتاري(المترجم).    

(2)يسمى هذا النظام اللساني الجديد؛ ب Adlinguistique  (المترجم).

                      

مقالات من نفس القسم