كنت دائما أرقب بإعجاب خفي ذلك الدأب والاجتهاد الذي ترفده موهبة سردية أصيلة، لكاتبة تنتمي إلى أسرة تماثل آلاف الأسر المصرية، ومنها أسرتي، حيث رب الأسرة النازح من الريف، وهناك توجد الجذور، العمات والأعمام والخالات، وتجري في الدماء المبدعة شبكة من الروافد التي تجمع ما بين تقاليد القرية ومحدثات المدينة. لكن نموذج نجلاء فريد في هذه النقطة تحديدا. فهي لم تفرض حضورها الأدبي عبر مقاهي وسط البلد وتجمعات المثقفين والمبدعين، ولم تسر على ذلك الدرب المعروف والمتكرر من التحلل من الالتزام العائلي والتخلي عن نموذج الفتاة العادية المحافظة، وهو النموذج المصري الغالب، تحت دعاوى التحرر السطحية، لكنها حافظت بجسارة على سمتها الخاص، واستطاعت في نفس الوقت فرض حضورها الأدبي والإبداعي عبر الاجتهاد وتنمية مكنونها الثقافي وعينها الراصدة الثاقبة، عبر العزلة حينا ثم الحضور المحسوب في أحيان أخرى، دون أن تتخلى في أي وقت عن الأعباء الضخمة التي يفرضها عليها التزامها العائلي ثم الاجتماعي والوظيفي، كأم لأبناء ثلاثة يطلعون كالزهور المتفتحة، وكزوجة لمبدع وإعلامي معروف، وكمسئولة ثقافية في مواقع متعددة عبر مسيرة عملها في الهيئة العامة لقصور الثقافة.
ليس لإعجابي اذا، بل واندهاشي من نموذج نجلاء علام، من مفسر سوى ندرة النموذج وجسارته، وغير الإشفاق مما يكبده الإمساك على الجمر هكذا من أثمان يدفعها المبدع ليحقق ويجسد مثل تلك الصورة التي جسدتها هذه المبدعة.
وعلى المستوى الإبداعي، فإن نجلاء مشغولة طوال الوقت بتجسيد آحاد الناس، خصوصا النماذج النسائية، تدور حول الشخصية من جهاتها، وتنطقها كما يجب أن تنطق، عبر لغة تذوب فيها الحدود بين المعجمي والكلامي، بين الفصيح والدارج، في منتج سردي بسيط لكنه آسر، وهي تعي جيدا جوهر تلك العملية السردية المعقدة التي لا تفتئت على حضور الشخصية ووعيها بحضور الساردة ووعيها الخاص. هي مغرمة أيضا بتعدد الأصوات الساردة للحدث نفسه في عدد من إبداعاتها، وهو لون خاص من الوعي الذي يدرك الأثر النفسي والدرامي لتعدد زوايا الرؤية، وان الاكتفاء برؤية واحدة قد لا يكون كافيا لإدراك ثراء الواقع وتعقده وتشابكاته. وهي لا تفتقد عبر سردها في أي وقت روح التعاطف مع شخصياتها، لكن ذلك التعاطف لا يتجلى مطلقا في عبارات إنشائية هنا أو هناك، لكنه يتجلى في الروح العامة للسرد، في التفاصيل الصغيرة المكانية والزمانية، عبر الألوان والروائح والظلال، أي عبر ما هو بصري أو حسي، وليس ما هو إنشائي.
ولم تكتف نجلاء بما حققته عبر ذلك اللون من السرد، بل سعت إلى تطوير أدائها بالتشكيل الفلسفي والغرائبي الأسطوري، الذي يستكنه غور الذات الإنسانية بطبقاتها المتراكمة عبر الحقب، وذلك في روايتها الجميلة: الخروج إلى النهار. تلك الرواية التي تكشف عن كثير من الأناة والجهد المعرفي والإبداعي واللغوي.
ولا تزال نجلاء علام تدهشني بالجديد، إبداعا وحضورا إنسانيا.