استعارة صوت العائلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

لم أكن يوما مشغولة بالزمن قدر انشغالي بالخرائط والأمكنة. بلدان ومدن وأحياء وشوارع وبيوت وحدائق وبساتين وطرق واصلة، من وإلى، بيت هجرته أو بيت أبحث عنه. ممرات للحلم، تعبر تلالًا لا نهائية ووديانًا وصحارى، وصولا للمكان الأول، أو عودة إليه. هل هو الرحم، “البئر الأولى”؟ ذلك المكان الذي يمنح الكائن فرصة النمو من الداخل، يعطي الحياة من دفقة قلب الأم ومن أحشائها.

خرجتُ من رحم أمي في جولة طويلة وشاقة ومبهجة بدأتها ذات ليلة من ليالي الصيف، في بيت بحي هليوبوليس، بضاحية مصر الجديدة زمن عبد الناصر، على فراش جدتي التركية الأصل، بين ذراعي مربية أبي السودانية الأصل أيضًا. وكأنما عبرت فور خروجي للعالم حدودًا تجسدت في أحضان أولئك النساء العابرات للثقافات والأماكن، المستقرات في عمق الريف المصري، ومنه انتقلن إلى عمق أحياء القاهرة القديمة، ومنها لقلب هليوبوليس المختلطة بأعراق ولغات ولهجات وديانات العالم.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 46

تقول أمي إن صوت ضحكتي علا في اليوم الثالث من مولدي حتى سمعها العابرون في ميدان أبي بكر الصديق. “الميدان مستدير ككل مياديني”، يقع مكتملا كدائرة مفتوحة على تخوم الواحة القديمة، واحة البارون البلجيكي، مؤسس الحي. أحب حكايات أمي عن مولدي. هي المرسى لخيال متجدد يجوب فضاءات العالم ويعود لذكرى ليلة الميلاد كما ترويها الراوية. استعرتُ صوتها في رواية “هليوبوليس” (شرقيات، 2000؛ الشروق، 2020) ورويتُ عنها ومنها. تقول إن أبي هرع إلى البيت حين سمع بالخبر، حملني، وقبلني. تواصلت خلايانا في الساعات الأولى من الميلاد، وأصبح جسدي مكانًا لأمي، مكانًا لأبي، يعيشان فيه ويتوهجان بذكرى لا تنمحي ما دمت حية. لم تحظ العائلة بتلك الأهمية، عائلة التلمساني الفنية مكان مواز لمكان أبي وأمي، يحيا فيه فضلا عن أبي عمي كامل، وعمي حسن، وابن عمي طارق. الجميع تحت سقف فضاء حيوي، لم يزل يرتع فيه الخيال وتغلفه الأساطير، أنتمي إليه بكينونتي الأخرى، الأدبية، السينمائية، الفكرية، اليسارية.

أمي وأبي مكاني الأول، يحلّان في جسدي أينما حللت. وكأنهما قررا عبر طلاسم الجينات وتراكيب أخرى صدفوية أن أكون “بنتًا” لسيدة لها شخصية مستقلة ورجل مثقف يمارس الفن. قررا أيضًا أني صنو لولدين، أخي ياسر الذي يكبرني بعام، وأخي خالد الذي يصغرني بعام. مثلي مثلهما، لنا الحقوق نفسها، وعلينا الواجبات نفسها، حتى انفصلت عنهما معنويًا و”جندريًا” وفقا لقانون بيتنا ومجتمعاتنا السبعينياتية وأنا في الخامسة عشرة من عمري.

صرت في نظر أمي “شابة” لا يصح أن تلعب مع الشباب في “الكوريدور” الواصل بين شقتنا وشقة الجيران. أتذكره بحنين شديد كموطني الأول في اللعب الحر بين البنين والبنات، هو والساحة المسوّرة أسفل البناية. أقضي أشهر العطلة الصيفية مع أخوي وأصدقائهما وأبناء الجيران وأبناء خالاتي، نتجول في الحي معا، نذهب إلى السينما لمشاهدة أفلام بروس لي معا، نتواعد في النادي للسباحة معا. حتى أصبح ارتياد تلك الأماكن مستحيلا في وجود أخوي ومن شابههما. انفصلا عني حين صرت بنتًا فجأة، لا أخرج إلا مع صديقات المدرسة ولا أهاتف إلا البنات ولا أسبح إلا في اليوم المخصص للسيدات، إلى آخر تلك التحولات والأعراف التي جللتها أمي بارتداء الحجاب في منتصف الثمانينيات. بدا لي أن هليوبوليس مثله مثل أحياء أخرى في القاهرة، قد عاد رويدًا رويدًا إلى قانون الفصل التعسفي بين الأبناء والبنات الذي دعمه المجتمع بأكمله في تلك الآونة.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 45

هكذا صارت أمكنة الطفولة التي أذكرها ويذكرها الكثيرون من جيلي أكثر انغلاقًا في وجه الفتيات، وتفتت الرحم الجمعي الذي عرفناه في الستينيات والسبعينيات إلى أرحام نوعية، تحمل ذكورًا أو إناثًا، يتخفّى معظمهم وراء معايير جديدة للفضيلة ويندر أن يعبر أحدهما إلى مكان الآخر في العلن. كتبت عن هذا الفصل التعسفي في يوميات بعنوان “للجنّة سور” (شرقيات، 2009) وعن تفتت الأمكنة إلى هنا وهناك، ليس فقط في العلاقة بين مصر وكندا، ولكن في العلاقة بين مصر الجديدة ومصر الأم (في نصوص مثل “سيدات مصر الجديدة” و”مايوه غير شرعي”).

تقاربتُ فكريًا مع أبي في تلك الفترة، منذ منتصف الثمانينيات وحتى وفاته في 2003. باتت أمكنته هي أمكنتي المفضلة، مكتبته في بيت مصر الجديدة وقاعات العرض والمسارح وقاعات الموسيقى والمقاهي الشهيرة بوسط المدينة. أقطع الطريق بين مصر الجديدة وأحياء وسط البلد، بين رحم الطفولة والصبا وقلب الحركة الفنية والمعرفية بصحبة أبي دائما، حتى في غيابه. هو من دافع عن حريتي. وهو من منحني فرصة القراءة بعمق، ترتيب المكتبة، التعرف على مبادئ الاشتراكية، تذوق السينما والأدب والباليه والأوبرا والموسيقى الكلاسيكية والفن التشكيلي، الاهتمام بالبحث العلمي والدقة العلمية على غرار أبحاثه للتحضير لفيلم تسجيلي قبل التصوير، التخلي عن أحلام الملكية الخاصة والوقوف في صف الفقراء دائما والسعي للحرية الفردية واحترام قيم العمل والتفاني في طلب الكمال. صنع لي أبي مكانًا في قلب الحياة الفنية وفي قلب اليسار بمعناه العام دون قصد، بشكل عفوي، وكأني بفضله ولدت ميلادا جديدا، من رحم أكبر، رحم الإنسانية. وجدت في هذا الفضاء العام، وفي فضاء اليسار المعني بالآخر عنايته بالذات، الحرية المثلى لشخص مثلي، يقف على الحافة بمنأى عن مجتمع يقهر النساء (والأطفال والفقراء وغيرهم من المستضعفين في الأرض) ببساطة وبأريحية، وبعيدًا عن طموحات فردية لا ترضيني (ولم تكن لترضي أبي) طموحات النجاح الاجتماعي، الثراء، الاستقرار في وظيفة.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 59

وربما أكون قد تجاوزت ما أراده أبي لنفسه، واخترت الحافة أو الهامش عن وعي وعن قناعة. عند الحافة يقع المكان الفعلي، المسكون، والمتخيل، الذي أتوق إليه. المكان الحيز، غرفة نومي، غرفة مكتبي، جدران تحمي مثل رحم الأم، وجدران تتحاور وتنفتح على العالم مثل حضن الأب. مكاني مكانهما والعكس، مكان عابر للأزمنة، مفتون بها وغير عابئ بتسلسلها الحتمي في الوقت نفسه. بعيدا عن صلة الرحم الصغير، ثمة صلة رحم أكبر تربطني بأبي وبعوالم رسخ حضورها عبر الفن وعبر الفكر. ارتبطت في ذاكرتي مثلا بأماكن مثل “مكتبة الكيلاني” التي أشرت إليها في رواية “هليوبوليس” وعوالم السينما التي تظهر بتجليات مختلفة في مجموعة “عين سحرية” (المصرية اللبنانية، 2017). أهديت المجموعة لأبي، وكتبت عنه وله عددًا من القصص، تجمعنا ذاكرة الأمكنة الحية والمتخيلة، متجاوزة لمحددات الزمان وقوانينه: “في زمن لا أذكر ملامحه جلسنا متجاورين في قاعة عرض بوسط المدينة نشاهد فيلم “أورفيوس” لجان كوكتو. كنا صامتين صمت المتعبّد حين ابتلعت المرآة أورفيوس- جان ماريه، حبيب كوكتو وبطله الأوحد، ابتلعته في مائها العكر وبدا وكأنها ابتلعتنا معه حيث أمكننا لثانية هي الدهر كله أن ندرك أننا لسنا كائنات منفصلة كما توهمنا إنما تربط بيننا شبكة من الضرورات المطلقة. فيلم بلا ترجمة، بلغة نفهمها دون الآخرين، سر مفضوح ودافئ نحمله إلى القبر كالغنيمة”.

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 62

مكاني الأول يتصل بأمكنتي التالية بلا فصل ولا وصل. الهجرة إلى كندا في نهاية التسعينيات بدأت كبحث عن مكان للدراسة ولتطوير الفكر، وانتهت بقناعة أن هنا وهناك، للجنّة أسوار. ثم بأثر رجعي، حين أتأمل حالي في المكان اليوم، ومع تقدم الوعي والكتابة، أتصور أني تجاوزت حدودا لا حصر لها. حدود العلاقة بالأم والأب، حدود العائلة، حدود الوطن الواحد، والفكر الواحد. ربما يكون أفضل تعبير عن تلك الحركة هي مفردة ابتدعها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، مفادها أن حركة انتزاع الجذور والخروج من الموطن أو النطاق هي حركة مستمرة دؤوب يعرفها المهاجر كما يعرفها ويختبرها البدو الرحل. وكأني بهذا الوصف أحيا بين نبعي ماء. بين واحة أجدبت وأخرى أينعت. ولا يعني هذا التنكر للأصول والبدايات وأماكن النشأة وتراث الوطن الكبير والصغير، تراث الإنسانية العام. بل العكس صحيح، التنقل والحركة هما انفتاح على بدايات جديدة في كل مرة، وفي كل مرة يتجدد الأمل بعالم أفضل بمشاركة رمزية من جانبي.

 نشأت ابنة لأب وأعمام وعائلة لها جذور في الجزائر، وأخرى في تركيا، ولها أفرع في الحجاز، وشتات في بلدان أوروبية وأميركية. مصر قلبها ومركزها، أعود إليها كمن يعود لمكانه الأول، مشتاقًا حائرًا، قريبًا ومغتربًا. تغيرت خريطة العائلة كثيرًا، رحل البعض عن مصر الجديدة كما رحلت أنا لمونتريال التي لا تشبه في شيء هليوبوليس. كنت على أية حال على هامش العائلة الكبيرة وعلى هامش الوطن القاهر للإمكانيات. فرّقت بيننا الأفكار والطموحات والأماكن رغم المحبة الشاملة الجامعة التي تتجلى في الأفراح والمآتم، وفي أزمنة القهر وأزمنة الثورة على حد سواء. تبقى ذكريات الطفولة السعيدة عالقة بروحي، عبر وسائط مثل صور الأبيض والأسود، جدتي وأبناؤها وأحفادها وأحفاد أبنائها، وعبر الخيال الذي يعيد تركيب وتصنيف المشاهد والمشاعر والأحداث. تبقى ذاكرة الوطن الأم جزءا لا يتجزأ من تكويني النفسي والفكري والروحي تخايلها نسائم الحرية المنشودة هنا وهناك. ويبقى السؤال الذي يبدو مستعصيا عن الإجابة: هل من رحم أو بيت أو مكان يشكل ملاذًا نهائيًا في هذا العالم؟

 

اقرأ أيضاً: مي التلمساني.. ملف خاص

مقالات من نفس القسم