ميريام.. قصة لـ ترومان كابوتي

كابوتي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترجمة: محمد هاني

مراجعة: ياسر عبد اللطيف

لسنوات عديدة، عاشت مسز ه.ت.ميلر بمفردها في شقة لطيفة (غرفتان ومطبخ صغير) في بناية مُرممة من القرن الماضي قرب نهر إيست. كانت أرملة؛ ترك لها مستر ه.ت.ميلر مبلغًا معقولا تأمينًا لحياتها. اهتماماتها محدودة، فليس لديها أصدقاء لتتحدث عنهم، ونادرًا ما ارتحلت لأبعد من بقالة الناصية. لم تثر انتباه السُكان الآخرين بالمبنى أبدا؛ ملابسها عملية، شعرها رصاصي كالمعدن، مقصوص ومموج بعفوية؛ لا تستخدم أية مستحضرات تجميل، ملامحها اعتيادية وغير مميزة، وفي عيد ميلادها الأخير أتمت الحادية والستين. قلّما كانت أنشطتها تخرج عن الروتين: تحافظ على نظافة الغرفتين، تدخّن سيجارة بين حين وآخر، تعدُّ وجباتها وتربّي عصفور كناري.

ثم قابلت ميريام. كان الثلج يتساقط تلك الليلة. والسيدة ميلر انتهت لتوها من تجفيف الصحون وتقلّب صحيفة مسائية  فرأت إعلانًا عن فيلم يُعرض في سينما الحي. بدى عنوانه جيدًا، فجاهدت بإرتداء معطفها السموري، ربطت حذاءها المطاطي وغادرت الشقة، تاركةً مصباح واحد متقد في البهو: لم تجد شئ أكثر إزعاجا من إحساس الظلمة.

كانت ندف الثلج تتساقط بنعومة، لم  تترك أثرها بعد على الرصيف.  تهبُّ الرياح القادمة من النهر عند تقاطعات الشوارع فقط. أسرعت السيدة ميلر، رأسها محني، كحيوان الخلد الأعمى يتقدم بالغريزة في نفق. توقفت عند صيدلية واشترت علبة من أقراص نعناع.

كان هناك صفّ طويل يمتد أمام شباك التذاكر؛ وقفت عند نهايته. سننتظر قليلا قبل حجز أي مقعد (تذمر صوت مجهد).  فتشت ميسز ميلر في حقيبتها الجلدية حتى جمعت العملات اللازمة لرسم الدخول بالضبط. بدا أن الطابور يأخذ وقته على مهل، فتلفتت حولها لتتسلى وانتبهت فجأة لوجود فتاة صغيرة تقف تحت واجهة السينما.

كان لهاأطول وأغرب شعر رأته ميسز ميلر في حياتها: أبيض فضي كلية كأنها مهقاء. انساب بطوله حتى خصرها في خطوط ناعمة ملساء. كانت نحيلة وهشة البنيان. وهناك أناقة بسيطة وخاصة في وقفتها بإبهاميها في جيبي معطفها البرقوقي المخملي المتناسق.

شعرت ميسز ميلر بإثارة غريبة، اختلست الفتاة الصغيرة نظرة باتجاها، ابتسمت بحميمية. تقدمت الفتاة الصغيرة وقالت: “هل تسدين لي معروفًا؟”

“بكل امتنان، إن كان في استطاعتي،” قالت ميسز ميلر.

“الأمر بسيط للغاية. أريدك فقط أن تشتري لي تذكرة؛ لن يسمحوا لي بالدخول بطريقة أخرى. ها هي النقود.” وبلياقة سلمت ميسز ميلر عملتين فئة عشرة سنتات وواحدة فئة الخمسة.

دخلا إلى دور العرض معا. أرشدتهما حاجبة إلى صالة الانتظار؛ خلال عشرين دقيقة سيبدأ الفيلم.

“أشعر كأني مجرمة حقيقية،” قالت ميسز ميلر بسعادة وهي تجلس. “أعني أن تلك الأشياء غير قانونية، أليست كذلك؟ أتمنى ألا أكون أذنبت. أتعلم أمك أين أنت يا عزيزتي؟ تعلم، أليس كذلك؟”

لم تقل الفتاة الصغيرة أي شئ. خلعت معطفها وطوته على ركبتيها. كان ثوبها أسفل المعطف أنيقًا وأزرق داكن. تتدلى سلسلة ذهبية حول عنقها، تداعبها بأناملها الرهيفة المتناسقة  وبتفحصها عن كثب، قررت ميسز ميلر أن ما يميز الفتاة حقًا ليس شعرها، بل عيناها؛ عسليتان، نظراتهما ثابتتان تفتقران إلى أي سمت طفولي، وبسبب موقعهما في وجهها بدتا وكأنهما  تحتلانه بالكامل.

قدمت ميسز ميلر لها قرص نعناع. “ما اسمك يا عزيزتي؟”

“ميريام” قالت الفتاة بطريقة غريبة، وكأنها معلومة مألوفة بالفعل.

“أليس هذا طريفا، أنا أيضا اسمي ميريام. وهو ليس اسمً شائعًا. والآن لا تقولي إن اسم عائلتك ميلر أيضًا!”

” فقط ميريام.”

“لكن أليس هذا طريفا؟”

“طريف نوعًا،” قالت ميريام، ودحرجت قطعة النعناع فوق لسانها.

خجلت ميسز ميلر واعتدلت في جلستها. “تمتلكين معجمًا واسعًا بالنسبة لكونك فتاة صغيرة.”

“حقا؟”

“نعم،” قالت ميسز ميلر وسريعا بدلت الموضوع إلى:”أتحبين الأفلام؟”

“لا أعرف فعليا،” قالت ميريام. “لم أدخل السينما من قبل”.

بدأ النساء في ملئ قاعة الانتظار، انفجرت قعقعة شريط الفيلم الإخباري. قامت ميسز ميلر ودست حقيبتها تحت إبطها. “أظن أني يجب أن أسرع إن كنت أريد الحصول على مقعد،” قالت ميسز ميلر. “سعدت بلقائك.”

هزت ميريام رأسها بإيماءة خفيفة.

ظلّ الثلج يتساقط طوال الأسبوع. وصارت حركة العربات والأقدام في الشارع مكتومة الصوت، كأن شؤون الحياة استمرت في سرية خلف ستار باهت لكنه منيع. في التساقط الصامت لم يكن هناك سماء ولا أرض، مجرد ثلوج تطيرها الريح، فتجمّد زجاج النافذة، وتُسري البرودة في الغُرف، وتخلي المدينة وتُصمتها.. في كل الأوقات كان لابد من  ترك المصباح مُضاءً، وفقدت مسز ميلر إحساسها  بالأيام: لا فرق بين جمعة وسبت، ويوم الأحد ذهبت إلى البقالة: كانت مغلقةً بالطبع.

هذه الليلة خفقت بعض البيض وأعدت صحنًا من حساء الطماطم. ثم، بعد ارتدائها قميص نوم قطني ووضعها مرطب لبشرتها، رقدت في الفراش وأسفل قدميها زجاجة مياه ساخنة. كانت تقرأ جريدة  الـ”تايمز”عندما دق جرس الباب. في البداية ظنت أنه خطأ وأيًّا من كان سيذهب إلى حاله. لكنه دق ودق واستقر إلى طنين متواصل. نظرت إلى الساعة: تجاوزت الحادية عشرة بقليل؛ لم يبد الأمر ممكنا، كانت دائما تنام قرب العاشرة.

غادرت الفراش وهرولت حافية القدمين عبر غرفة المعيشة. “أنا قادمة، اصبر من فضلك.” أمسكت بقفل الباب؛ أدارته في هذا الإتجاه وذاك ولم يتوقف الجرس للحظة. “توقف،” صاحت. وانحل الرتاج ففرجت الباب باتساع بوصة واحدة. “ماذا بحق السماء؟”

“مرحبا،” قالت ميريام.

“هه.. آه، مرحبا،” قالت ميسز ميلر، وتراجعت نحو البهو في تردد. “أنت تلك الفتاة الصغيرة.”

“ظننتك لن تجيبي أبدا، لكني أبقيت إصبعي على الزر؛ كنت متأكدة أنّك بالمنزل. ألست سعيدة لرؤيتي؟”

لم تجد ميسز ميلر ما تقوله. ترتدي ميريام، كما رأتها، نفس المعطف المخملي البرقوقي وارتدت بيريه (قبعة) ملائمة له؛ وقد جدلت شعرها الأبيض في ضفيرتين لامعتين معقودتين  عند نهايتهما بأشرطة بيضاء ضخمة.

“بما أني انتظرت طويلا، اسمحي لي بالدخول على الأقل”.

“الوقت تأخر جدا…”

حدقت بها ميريام بدون تعبير. “ما الفرق؟ اسمحي لي بالدخول. البرد قارس بالخارج وأنا ارتدي ثوب حريري.” ثم حثت ميسز ميلر على التنحي جانبا بإيماءة رقيقة ودخلت الشقة.

ألقت معطفها وقبعتها على كرسي. كانت ترتدي ثوبًا حريريًا بالفعل. حرير أبيض.  ثوب حريري أبيض في فبراير بتنورة معرّجة بشكل بديع وكمين طويلين؛ أصدر حفيفًا خافتًا أثناء تجولها بالغرفة. “يعجبني منزلك، أعجبتني السجادة، الأزرق لوني المفضل.” لمست زهرة صناعية في إناء فوق طاولة القهوة. “اصطناعية،” علقت محبطة. “يا له من بؤس، أليست الزهور الصناعية بائسة؟” جلست على الأريكة وهي تفرد تنورتها بأناقة.

“ماذا تريدين؟” استفسرت ميسز ميلر.

“اجلسي،” قالت ميريام. “أنا أتوتر لرؤية الناس واقفين.”

تهاوت ميسز ميلر على كرسي صغير ثم كررت: “ماذا تريدين؟”

“لا اعتقد أنّك سعيدةً لزيارتي.”

مرة أخرى لم تحصل ميسز ميلر على إجابة؛ تحركت يدها ملتبسة. ضحكت ميريام ودفعت ظهرها ليستقر على تل من الوسائد القطنية. لاحظت ميسز ميلر أن الفتاة أقل شحوبا عما تذكر؛ احمرت وجنتيها.

“كيف عرفتي مكان بيتي؟”

عبست ميريام. “هذا ليس بسؤال مطلقا. ما هو اسمك؟ وما اسمي؟”

“لكني لست مدرجة في دليل التليفونات.”

“دعينا نتحدث عن شئ آخر.”

قالت ميسز ميلر :”لابد أن أمك مجنونة لتركها طفلة مثلك تهيم طوال الليل- وفي تلك الملابس السخيفة. بالتأكيد فقدت عقلها.”

قامت ميريام واتجهت إلى ركن به قفص طيور مغطى تدلى بسلسلة من السقف. ألقت نظرة خاطفة تحت الغطاء. “إنه كناري، أتمانعين في أن أوقظه؟ وددت سماعه يغني.”

“اتركي تومي وشأنه،” قالت ميسز ميلر وهي قلقة. “إياك أن توقظيه.”

“بكل تأكيد،” قالت ميريام. “لكني لا أرى ما يمنع من سماعه يغني.” ثم قالت،”هل لديك ما يؤكل؟ أنا ميتة من الجوع! حتى لو حليب وسندويتش مربى سيكون كافيا.”

“اسمعي،” قالت ميسز ميلر وهي تقوم من كرسيها الصغير، “اسمعي- إن أعددت لك بعض السندويتشات الطيبة، هل تتصرفين كطفلة مهذّبة وترجعين إلى بيتك سريعا؟ لقد تجاوزنا منتصف الليل، أنا متأكدة.”

“الثلج يتساقط،” قالت ميريام معاتبة. “وبرد وظلمة.”

“حسنا، ما كان لكي أن تأتي من البداية.” قالت ميسز ميلر وهي تجاهد للتحكم في صوتها. “لا استطيع فعل أي شئ حيال الطقس. إن أردت شيئا يؤكل عليكي أن تتعهدي بالمغادرة.”

داعبت ميريام خدها بضفيرتها. كانت عيناها تبدوان في حالة تفكُّر كأنها توزن العرض. التفتت إلى قفص الطيور وقالت. “طيب…أعدك.”

في أي عمر هي؟ العاشرة؟ الحادية عشرة؟ فتحت ميسز ميلر برطمان  من مربى الفراولة في المطبخ، وقطعت أربعة شرائح من الخبز. صبت كوبًا من الحليب ثم توقفت لتشعل سيجارة. ولماذا أتت؟ ارتعشت يدها من التوتر وهي تشعل الثقاب فأحرقت إصبعها. كان الكناري يغرد، يغرد كما يفعل في الصباح فقط دون أي وقت آخر. “ميريام،” نادت، “ميريام، أخبرتك ألا تزعجي تومي.” لم يأتيها رد. نادت مرة أخرى؛ كان الكناري هو كل ما سمعته. أخذت نفسًا من السيجارة واكتشفت أنها أشعلت الطرف الخاطئ و- يجب ألا تفقد أعصابها.

حملت الطعام على صينية إلى الداخل ووضعتها فوق طاولة القهوة. رأت أولا أن قفص الطيور مازال محتفظا بغطائه الليلي. بينما تومي يغرّد. أعطاها ذلك إحساسًا مريبًا. ولم يكن في الغرفة أحد. مرقت ميسز ميلر من الدهليز  المؤدي إلى حجرة نومها؛ لينحبس نفسها لدى الباب.

“ماذا تفعلين؟” سألت.

انتبهت ميريام وفي عينيها نظرة غير عادية. كانت تقف بجوار المكتب وعلبة الحليّ مفتوحة أمامها. ظلّت طوال دقيقة تحدق في  ميسز ميلر بتركيز على عينيها، وابتسمت. “لا يوجد شئ جيد هنا، لكني أحببت هذا،” ورفعت دبوسًا به حجر كريم. “إنه ساحر.”

“ربما- لكن يستحسن أن تعيديه إلى مكانه،” قالت ميسز ميلر وهي تشعر بإحتياج مفاجئ لبعض المساعدة. مالت على إطار الباب؛ ثقل رأسها بشكل غير محتمل؛ وجعل الضغط  نبض قلبها ثقيلًا. بدى الضوء مرتعشًا كأن به عيب. “أرجوك، يا بنت – هذا هدية من زوجي…”

“لكنه جميل وأريده،” قالت ميريام. اعطني إياه.”

بينما وقفت، تجاهد لتكوين جملة ما قد تنقذ الدبوس، خطر إلى ميسز ميلر أنه لا يوجد من تلجأ إليه؛ هي وحيدة؛ حقيقة لم تزر فكرها منذ وقت طويل. كان ثبوتها المحض مذهلا. لكن هنا، في غرفتها ذاتها بمدينة الاستعراض الصامت، كانت الأدلة على ذلك  أقوى من أن تتجاهلها أو تقاومها.

أكلت ميريام بنهم، وعندما انهت الشطائر والحليب، انتشرت أصابعها فوق الطبق مثل خيوط العنكبوت تُلملم الفتات. لمع الدبوس فوق قميصها، وعلى بياض بشرتها كأنه انعكاس لمرتديه. “كان ذلك طيبًا جدا،” تنهدت، “حبذا لو كعكة لوز أو كرز الآن، ستكون رائعة. الحلويات لذيذة، أليس كذلك؟”

كانت ميسز تجلس غير مستقرة فوق كرسيها الصغير، تدخن سيجارة، وقد انزلقت شبكة الشعر من فوق رأسها قليلا وتفرقت خصلات فوق وجهها. تحدق ببلاهة في اللاشيء وترقشت وجنتاها ببقاع حمراء، وكأن لطمة وحشية تركت عليهما علامات دائمة.

“هل يوجد حلوى- كعك؟”

اسقطت ميسز ميلر رماد السيجارة فوق البساط. تأرجحت رأسها قليلا وهي تحاول تثبيت نظرتها. قالت “لقد وعدتي بالمغادرة إن اعددت لك الشطائر

“يا لي من بائسة، هل فعلت؟”

“كان وعدًا، وأنا متعبة ولا أشعر أنني على ما يرام الإطلاق.”

“لا تخافي،” قالت ميريام. “أنا فقط أغيظك.”

التقطت معطفها، علقته فوق ذراعها، وهندمت قبعتها أمام المرآة. انحنت بالقرب من ميسز ميلر وهمست، “قبليني قبلة المساء.”

“أرجوك- أفضل ألا أفعل،” قالت ميسز ميلر.

رفعت ميريام كتفها وتقوّس حاجبها مستهجنة.وقالت:”كما تريدين”. وذهبت مباشرة إلى طاولة القهوة، خطفت المزهرية ذات الورود الاصطناعية، وحملتها إلى بقعة ظهر بها بلاط الأرضية عاريًا، وألقتها أرضا. تناثر الزجاج في كل اتجاه ووطأت قدمها فوق الباقة.  ثم اتجهت ببطئ إلى الباب، لكن قبل أن تغادر التفتت إلى ميسز ميلر ونظرت لها بفضول ومكر بريء.

قضت ميسز ميلر اليوم التالي في الفراش، نهضت مرةً واحدةً لتطعم الكناري وتحتسي كوبًا من الشاي؛ قاست درجة حرارتها فلم تكن مرتفعةً، على الرغم من أن أحلامها كانت مضطربة محمومة؛ واستمر مزاجها في تقلباته حتى وهي راقدة تحملق في السقف.  برز حلم بين الأحلام المتشابكة  كنغمة مراوغة غامضة في سيمفونية معقدة، يحمل مشهدًا معالمه واضحة كأنه رسم بيد ذات موهبة جمة: فتاة صغيرة، ترتدي فستان زفاف وإكليلا من ورق الشجر، تقود موكبًا رماديا هابطًا في ممر جبلي، يسود بينهم صمت غير معتاد حتى تساءلت امرأة في المؤخرة، “إلى أين ستأخذنا؟”، “لا أحد يعرف،” أجاب رجل يسير في المقدمة. “لكن أليست جميلة؟” تطوع صوت ثالث بالقول. “أليست مثل زهرة الجليد.. غاية في التألق والبياض؟”

استيقظت صباح الثلاثاء وهي تشعر بتحسن؛ ثمة خطوط حادة من شعاع الشمس تنفذ مائلة عبر حصير الستارة، تلقي ضوءً مربكًا على على خيالاتها المنفّرة. فتحت النافذة لتكشف نهارًا ثلجه ذائب، معتدلًا كالربيع؛ وتدافع لسحب نقية على خلفية سماء صافية الزرقة في غير موسمها ؛ وعبر فرجة  هابطة بين  أسطح البنايات استطاعت رؤية النهر والدخان المتلوي صاعدًا من مداخن الزوراق البخارية عالقًا في الهواء الدافئ.  ذرعت شاحنة فضية ضخمة الشارع وقد تكوّم الثلج على ضفتيه، وضجيج محركها يطنّ في الجو.

بعد ترتيب المنزل، ذهبت إلى البقال، صرفت شيكًا وأكملت طريقها إلى مطعم ’شرافت‘ حيث تناولت إفطارها وثرثرت بحبور مع النادلة. كان نهارًا رائعًا- أشبه بيوم عطلة- وسيكون من الغباء الرجوع إلى المنزل.

صعدت الحافلة متجهة إلى جادة ليكسينجتون ونزلت في شارع  رقم ستة وثمانين ؛ حيث قررت أن تتسوق قليلًا.

لم يكن لديها أية فكرة عما كانت تريد أو تحتاج، لكنها مضت متسكعةً، تحملق فقط في المارّة، يقظة ومشغولة البال، وهو ما أعطاها إحساس مزعج بالانفصال.

وعند توقفها على ناصية الجادة الثالثة رأت الرجل: رجل مسن، مقوس الساقين منحن من حِمل ذراعيه لأكياس مكدسة؛ يرتدي معطف بني رث وكاب بلون رقعة الشطرنج.  انتبهت فجأة أنهما يتبادلان الابتسام: لم يكن هناك أي ود في تلك الابتسامة، كانت مجرد ومضة باردة للتعرّف. لكنها كانت متأكدة من عدم رؤيته من قبل.

كان يقف بجوار محل إل بيلار،  وفور عبورها الشارع التفت ولحق بها. ظل قريبًا جدا منها؛ تابعت بطرف عينها إنعكاسه على ڤترينات المحل.

ثم وقفت وواجهته على الرصيف بين التقاطعين. توقف هو الآخر واحنى رأسه مبتسما. لكن ماذا تستطيع أن تقول أو تفعل؟ هنا، في عز النهار؟ في شارع ستة وثمانين؟ كان أمر عديم الجدوى. سارعت خطواتها كارهةً عجْزها.

والآن الجادة الثانية وهي شارع موحش، مصنوع من الخردة والحطام؛ جزء مرصوف بالحجر وجزء بالأسفلت، وجزء بالأسمنت؛ أجواء الهجر به دائمة. سارت ميسز ميلر مسافة خمسة مربعات سكنية دون أن تقابل أحدا، وطوال الوقت ظل صوت خطواته تسحق الثلج يتابعها. وعندما بلغت متجرًا للزهور كان الصوت لا يزال مصاحبًا لها. سارعت بالدخول، وتابعت من الباب الزجاجي مرور الرجل المسن؛ ظلت نظرته للأمام ولم يبطئ خطوته، لكنه فعل شيئًا وحيدًا غريبا، يستحق القول: أمال قبعته.

“هل قلتِ ستة بيضاوات؟” سألها بائع الزهور. “نعم،” أجابته، “ورود بيضاء.” من هناك ذهبت إلى محل أوانٍ زجاجية واختارت مزهرية، على الأرجح بديلةً عن  تلك التي كسرتها ميريام، مع أن السعر كان فوق طاقتها والمزهرية ذاتها (ظنت) مبتذلة على نحو بشع. لكن سلسلة من المشتريات غير المحسوبة كانت قد بدأت، وكأنها تجري وفق خطة مسبقة: خطّة لم يكن لديها عنها أي فكرة، ولا لها أي سيطرة عليها.

اشترت كيسًا من الكرز المحلى بالسكر، ومن مخبز نيكربوكر دفعت أربعين سنتا مقابل ست من كعكات اللوز.

خلال الساعة الأخيرة انقلب الجو باردا مرة أخرى؛ وكعدسة مغبشة، ألقت سحب الشتاء بظلها فوق الشمس، ولوَن السماء هيكل غروب مبكر؛ ضباب رطب ممزوج بالريح، وأصوات بعض الأطفال الذين يمرحون فوق جبال من الثلج المزاح، بدى موحش وكئيب. سرعان ما سقطت أول ندف الثلج، وعندما وصلت ميسز ميلر منزلها، كان الثلج يتساقط طبقات سريعة تُخفي آثار الأقدام على الأرض فور انطباعها.

ترتبت الورود البيضاء على نحو أنيق في المزهرية. سطع الكرز المسكر فوق طبق من الصيني. وانتظرت كعكة اللوز، مرشوشة بالسكر، من يتناولها. وكان الكناري  يصفق جناحيه فوق أرجوحته ويلتقط الحبَّ من  صندوقه المستطيل.

في الخامسة بالضبط رن جرس الباب. أدركت ميسز ميلر من كان. زحفت موخرة معطفها المنزلي خلفها وهي تتجاوز المسافة. “أهذا أنتِ؟” هتفت.

“طبعًا،” قالت ميريام، دوت الكلمة بشدة في أرجاء البهو. “افتحي هذا الباب.”

“اذهبي من هنا،” قالت ميسز ميلر.

“اسرعي أرجوك… معي حمولة ثقيلة.”

“اذهبي من هنا!” قالتها ميسز ميلر ورجعت إلى غرفة المعيشة، أشعلت سيجارة، جلست تستمع في هدوء للجرس؛ مرة بعد أخرى. “أفضل لك أن تغادري. لن أسمح لك  لك بالدخول أبدًا.”

توقف الجرس بعد قليل. لحوالي عشرة دقائق لم تتحرك ميسز ميلر. ثم لعدم سماع أي صوت، استنتجت أن ميريام قد ذهبت. سارت على أطراف أصابعها إلى الباب وفتحته قليلا؛ كانت ميريام تجلس فوق صندوق كرتوني ومعها دمية فرنسية جميلة تهتز بين ذراعيها.

“فعلا، ظننتك لن تأتي أبدا،” قالت بغيظ. “هيا، ساعديني  في إدخال هذا، إنه ثقيل للغاية.”

لم يكن ما شعرت به ميسز ميلر يشبه خضوع المسحور، لكنه أقرب إلى استسلام يشوبه الفضول؛ أدخلت الصندوق بينما اعتنت ميريام بأمر الدمية. تكورت ميريام على الأريكة دون ان تهتم بخلع معطفها أو قبعتها، وراقبت ميسز ميلر بغير اكتراث بينما أنزلت الصندوق ووقفت ترتعد، محاولةً إلتقاط أنفاسها.

“شكرًا لكِ” قالت ميريام. في ضوء النهار، بدت أكثر شحوبا وإرهاقا، وبدا شعرها أقل بريقًا. الدمية التي تحتضنها لها باروكة رائعة، وعيناها الزجاجيتان البلهاوتان تبحثان عن العزاء في عيني ميريام. قالت:  “لدي مفاجأة… انظري داخل صندوقي.”

جثت ميسز ميلر على ركبتيها وفتحت  الصندوق وأخرجت دمية أخرى؛ ثم فستان أزرق تذكرت أنه شبيه بذلك الذي ارتدته ميريام الليلة الأولى في السينما؛ وعن الباقي قالت، “كلها ملابس، لماذا؟”

“لأني جئت للعيش معك،” قالت ميريام وهي تقتلع العنق النباتي لكرزة. “إنه لكرم منك أن تشتري لي بعض الكرز!”

“لكن هذا مستحيل! بالله عليك اذهبي من هنا- اذهبي من هنا واتركيني لحالي!”

“… والزهور وكعك اللوز؟  هذا حقًا كرم عظيم منك. هذا الكرز لذيذ. آخر مكان سكنت به كنت بصحبة رجل مسنّ؛ كان شديد الفقر ولم يكن لديه شئ طيب للأكل قط. لكني أظن أنني سأكون سعيدة هنا.” وسكتت لتحتضن دميتها بدفء. “والآن، لو بإمكانك أن تريني أين أضع أغراضي…”

تحول وجه ميسز ميلر إلى قناع من التجاعيد الحمراء القبيحة؛ وبدأت في البكاء، وكان مفتعلًا، نحيب بلا دموع، ربما لعدم بكائها منذ زمن طويل، نسيت كيف تبكي. رجعت بحذر إلى الخلف حتى وصلت إلى الباب.

تحسست طريقها في البهو ثم نزلت الدرج إلى الطابق الأسفل. قرعت باب أول شقة صادفتها  بشكل محموم؛ فتح  لها رجل قصير أصهب، دفعته متجاوزة. “ما هذا بحق الجحيم؟” قال الرجل. “هل هناك مشكلة يا حبيبي؟” سألته سيدة شابة ظهرت من المطبخ وهي تجفف يديها. التفتت لتك الشابة ميسز ميلر.

“اسمعي،” توسلت، “أنا آسفة لتصرفي على هذا النحو لكن- حسنا، أنا ميسز ه.ت.ميلر وأسكن بالطابق الأعلى و…” ضغطت بيديها فوق وجهها. “هذا يبدو في غاية العبث…”

وجهتها المرأة إلى كرسي، بينما هز الرجل عملات  في جيبه بحماس. “ياه؟”

“أنا أسكن فوقكم وهناك فتاة تزورني، اعتقد أني خائفة منها. لا تريد المغادرة ولا استطيع دفعها إلى ذلك و- ستفعل شيئًا فظيعًا. لقد سرقت مني دبوس ثمين بالفعل، لكنها على وشك فعل شئ أسوأ- شئ فظيع!”

سأل الرجل، “هل هي من أقاربك؟”

هزت ميسز ميلر رأسها نافية. “لا أعرف من هي. اسمها ميريام، لكني لا أعرف على من هي بالضبط.”

“اهدئي يا عزيزتي،” قالت المرأة وهي تربت على ذراع ميسز ميلر. “هاري سيرى أمر هذه الطفلة. اذهب يا حبيبي.” وقالت ميسز ميلر، “باب الشقة مفتوح، رقم ِ A5  .

بعدما خرج الرجل، أحضرت المرأة منشفة رطبة ومسدت بها وجه ميسز ميلر. “أنتِ طيبة جدا،” قالت ميسز ميلر. “أعتذر عن  تصرفي كحمقاء، لكنّها هذه الطفلة الشريرة…”

“أفهم يا عزيزتي،” واستها المرأة. “الآن الأفضل أن تهدئي.”

أراحت ميسز ميلر رأسها بين مفصل ذراعها؛ كانت هادئة بما يكفي لتنام. أدارت المرأة مؤشر الراديو، فملأ الصمت عزف بيانو وصوت أجش يغني، وأخذت المرأة الشابة تجاري الإيقاع  بدقات من قدمها. “ربما يجب أن نصعد نحن أيضًا،” قالت المرأة.

“لا أريد رؤيتها مرة أخرى. لا أريد التواجد في مكان قريب منها.”

“مممم، لكن ماذا كان يجب عليك فعله، كان يجب أن تطلبي الشرطة.”

سمعا الرجل قادمًا على السلالم. خطا إلى الغرفة بخطوات واسعة، عابسًا يحك مؤخرة عنقه. “لا يوجد أحد هناك،” قال وهو محرج حقا. “لابد أنّها هربت.”

“أنت أحمق يا هاري،” قالت المرأة. “كنا جالسين هنا طوال الوقت ولابد كنا رأيناها…” توقفت فجأة، فنظرة الرجل الخاطفة كانت حادة.

“فتشت كل المكان،” قال الرجل، “ولا يوجد أحد هناك، لا أحد، تفهمينني؟”

“اخبرني،” قالت ميسز ميلر وهي تقوم، “اخبرني، هل رأيت صندوق كبير أو دمية؟”

“لا يا سيدتي، لم أر.”

ثم قالت المرأة وكأنها تصدر حكما، “بحق السماء…”

دخلت ميسز ميلر شقتها برفق؛ مشيت إلى منتصف الغرفة ثم وقفت ساكنة. لا، بشكل ما، لم تتغير: الزهور، الكعك، والكرز كل شيء في مكانه. لكن الغرفة خالية، خالية أكثر من حالها إذا غاب عنها  قطع الأثاث وأشِياؤها المألوفة،  صامتة بلا حياة مثل دار جنازات. بدت الأريكة  الشاغرة أمامها بغرابة جديدة: كان يمكن أن تكون أقل رهبة وغرابة، لولا تكور ميريام عليها مسبقا. حدقت بثبات على المساحة التي تذكرت أن الصندوق كان موضوعًا بها، ولوهلة دار كرسيها الصغير في يأس. لكنها نظرت خلال النافذة؛ بالتأكيد كان النهر حقيقيًا، بالتأكيد كان الثلج يتساقط- لكن حينها لم يعد بوسع المرء  أن يكون شاهدا متيقّنًا من أي شيء: ميريام، كانت هنا  بكل حيويتها- والآن، أين هي؟ أين، أين؟

كمن يتحرك في حلم، غطست في أحد المقاعد. كانت الغرفة تفقد ملامحها؛ كانت مظلمة وازدادت ظلمة ولم يكن بالإمكان فعل شئ حيال ذلك؛ لم تستطع رفع يدها لتضيءَ مصباحًا.

فجأة، وهي مغمضة عينيها، شعرت بشيء ينبثق لأعلى، كغواص يصعد من الأعماق  البعيدة الداكنة. في أوقات الرعب والكرب الهائل، هناك لحظات ينتظر بها العقل، ربما لوحي، بينما تُحاك غلالة من السكينة على الأفكار؛ كالنوم، أو غياب ذهني خارق؛ وخلال هذه الغفوة، ينتبه المرء لقوة من التعقل الهادئ: طيّب، ماذا لو لم تكن حقيقةً قد عرفت قطّ فتاةً تُدعى ميريام؟ إن كان أصابها الذعر كحمقاء في الشارع؟ في نهاية المطاف، فمثل كل شئ آخر، ليس هذا أمرًا ذا أهمية. فالشئ الوحيد الذي فقدته لميريام كان هويتها، لكنها عرفت أنها عثرت مرة أخرى على الشخصية التي عاشت في هذه، التي طبخت لها وجباتها، التي تمتلك عصفور الكناري، والتي هي شخص  يمكنها الوثوق فيه والإيمان به: ميسز ه.ت.ميلر.

انتبهت، أثناء استماعها مطمئنة، إلى صوت مزدوج: درج مكتب يُفتَح ويُغلق؛ وبدا أنه سمعت ذلك بعد مدة من حدوثه – فتح وإغلاق. ثم تدريجيا، اختفت  خشونة الصوت  ليحل محلها حفيف ثوب حريري، وكان ذلك الهمس الرقيق  يقترب ويتضخم  في كثافته حتى ارتعشت الغرفة بذبذباته وترددت في فراغها موجة من الهمسات. تجمدت ميسز ميلر وفتحت عينيها على تحديق مباشر مُتبلِّد.

“مرحبا،” قالت ميريام.

 

مقالات من نفس القسم